إعداد التلاميذ – إنجيل لوقا 22 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو35:22ـ38): ” ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالُوا: لاَ. فَقَالَ لَهُمْ : لَكِنِ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هَذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ. فَقَالُوا: يَا رَبُّ هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ. فَقَالَ لَهُمْ: يَكْفِي! “.
غرس موسى المبارك خوف الله في بنى إسرائيل بقوله لهم: ” مخوف هو الوقوع في يدي الله الحي، لأن إلهنا نار آكلة” (انظر تث24:4،عب31:10)، كما قال نبي آخر عنه: ” إن غضبه يأكل الرؤساء، والصخور تذوب منه” (ناحوم6:1س)، وبالأكثر يقول عنه داود المبارك في موضع ما من المزامير: ” أنت مخوف، فمن يقف قدامك حال غضبك” (مز7:75س). لأنه ما هي قوة الإنسان، أو كيف يمكن لأية قوة مخلوقة مهما كانت أن تقف مقابل قوة الله الإله القدير التي لا تُقهر؟ ولكن غضبه لا ينزل إطلاقًا على الرجُل البار، لأن الله لا يمكن أن يظلم، إنما غضبه بالأحرى على أولئك الذين خطاياهم عديدة وغير محتملة، وشرورهم تفوق الحدود .
وكَمَثَل لما قلناه، فلنأخذ ما حدث مع جموع اليهود بعد أن قام المسيح من الأموات وصعد إلى السماء. إن الله الآب أرسل لهم ابنه يدعوهم إلى خدمة أسمى من الناموس، وإلى معرفة كل صلاح، وهو أرسله ليحرِّرهم من كل إثم، ويخلِّصهم من وصمة الخطية، وليأتي بهم إلى تبنِّي البنين، وإلى المجد، وإلى الكرامة، وإلى شركة الروح القدس، وإلى الحياة التي لا تفنى، إلى مجد لا ينتهي، وإلى ملكوت السموات. ومع أنه كان من واجبهم أن يسرعوا بلهفة إلى هذه النعمة ويكرموا بتسابيح الشكر لمن أتى ليساعدهم، وأن يَقبلوا بفرح النعمة التي بالإيمان، إلاَّ أنهم في الواقع لم يفعلوا شيئًا من هذا، بل فعلوا العكس تمامًا، لأنهم قاموا ضده، واعتبروه كلا شيء بعدم طاعتهم، وحتى آياته الإلهية كانوا يغارون منها، وبعد أن عملوا وقالوا كل شيء رديء عليه، فإنهم صلبوه في النهاية. وهكذا صار نصيبهم أن يقاسوا تلك الأمور التي صرَّح بها جماعة الأنبياء القديسين من قبل، فإن واحدًا منهم يقول: “سيطرحهم الله بعيدًا لأنهم لم يسمعوا له، فيكونون تائهين بين الأمم” (هو17:9س)، وأيضًا: ” لأن أورشليم مرفوضة ويهوذا قد سقطت، وألسنتهم تنطق بالإثم، وهم لا يطيعون الرب، لذلك فإن مجدهم ينخفض وخزي وجوههم يقف ضدهم” (إش8:3و9س). وفى موضع آخر يخاطبهم الله الذي فوق الكل هكذا: ” والآن من أجل عملكم هذه الأعمال يقول الرب وقد كلمتكم مُبكرًا ومكلمًا فلم تسمعوا ودعوتكم فلم تُجيبوا، اصنعوا بالبيت الذي دُعي باسمي عليه الذي أنتم مُتكلون عليه وبالموضع الذي أعطيتكم وآبائكم إياه كما صنعت بشيلوه وأطرحكم من أمامي كما طرحت كل أخوتكم كل نسل افرايم ” (إر13:7ـ15). لأنهم سُلِّموا ـ كما قلت ـ إلى خراب، وتشتَّتوا في الأرض كلها، والتهمت النيران هيكلهم، وسُبى جميع اليهود.
كان هذا هو الحال الذي سبق المسيح وأعلنه للتلاميذ، أما عن المناسبة التي جعلته يتكلم عن هذا الموضوع هو تحذيره المُسبَق لبطرس العجيب أنه سوف ينكره ثلاث مرات، وبالتحديد في وقت القبض عليه، عندما أحضره جنود بيلاطس وخدام اليهود إلى رؤساء الكهنة للمحاكمة، فهناك أنكره بطرس، وعند ذكر القبض عليه وإحضاره أمام قيافا كان من الطبيعي أن يتبع هذا الإشارة إلى ما كان سيحدث بعد ذلك أي إلى آلامه على الصليب، عندئذ أشار وتنبأ عن الحرب التي كانت ستندلع على اليهود، والتي انتشرت مثل نهر بعنف لا يُحتمل على كل أرضهم. وبخصوص هذا يقول: ” حين أرسلتكم بلا كيس ولا مذود ولا أحذية، هل أعوزكم شيء؟ فقالوا لا” لأن المخلِّص أرسل رسله القديسين وأوصاهم أن يكرزوا لسكان كل قرية ومدينة بإنجيل ملكوت السموات، وأن يشفوا كل ضعف وكل مرض في الشعب، ومنَعَهم من أن يشغلوا أنفسهم بالأمور التي تخص الجسد، بل بالأحرى ألاَّ يحملوا كيسًا ولا أي شيء يعوقهم، بل أن يضعوا كل اتكالهم فيما يخص طعامهم، عليه. وهذا ما فعلوه، فجعلوا أنفسهم مثالاً للسلوك الرسولي الممدوح. ويقول “ولكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك” (لو36:22). أخبرني إذن، هل كان هذا بسبب أنَّ الرب غيَّر كلامه فابتكر أفكارًا أكثر نفعًا لهم؟ وهل كان من الأفضل في الظروف الأولى أن يكون لهم كيس ومزود ؟ وإن كان لا، فما الداعي إلى هذا التغيير المفاجئ؟ وما هو احتياج الرسل القديسين للكيس وللمزود ؟ أيَّة إجابة نعطيها عن ذلك؟ إن القول كما يبدو ظاهريًّا يشير للتلاميذ، ولكنه في الواقع ينطبق على اليهود، فهؤلاء هم الذين كان المسيح يوجه إليهم الخطاب، لأنه لم يقل إنه ينبغي على الرسل القديسين أن يأخذوا كيسًا ومزودًا، ولكن من له كيس مزود فليأخذه، ويعنى بذلك أنَّ مَن له ممتلكات خاصة في إقليم اليهودية، فعليه أن يجمع كل شيء ويهرب، حتى يمكنه بأي طريقة أن ينجِّى نفسه. أما من ليس له الوسائط لتجهيز نفسه للرحيل، بسبب شدة فقره، فيلزمه أن يبقى في الأرض. فيقول إن مثل هذا: ” فليبع ثوبه ويشتر سيفًا“، لأن السؤال لهؤلاء الذين سوف يبقون في الأرض لن يكون، إن كانوا يمتلكون شيئًا أم لا، بل بالحري يكون السؤال هو هل يمكنهم الإبقاء على حياتهم، لأن الحرب سوف تحل بهم بعنف لا يُحتمل، حتى لا يستطيع أحد أن يقف ضدها.
وبعد ذلك يخبرهم عن سبب المصيبة ويخبرهم عن ضيقة عظيمة جدًّا لا نجاة منها سوف تحل بهم قائلاً إنه بحسب الكتب: “ سوف يُحصى مع الأثمة“. وهو يقصد هنا بوضوح تعليقه على الصليب مع اللصين اللذين صُلبا معه. وهكذا سوف يحتمل عقاب الأثمة، وعندما يبلغ التدبير هذا الحد، سوف يكون الانقضاء. لأنه بالفعل احتمل آلامه المخلِّصة لأجلنا، وهكذا ـ وإلى هذا الحد ـ قد كمل شرَّ اليهود المتجاسر، وهذا هو اكتمال غضبهم الشديد الجامح. ولكن بعد الآلام على الصليب، صارت جميع الأيدي بلا قوة، لأن: ” العدو لا يرغمه، وابن الإثم لا يمكنه أن يؤذيه فيما بعد” (مز22:88س). وذلك لأنه قام وداس الموت، وصعد إلى السموات، وجلس عن يمين الله الآب، وسوف يأتي بعد ذلك ليس في حالة وضيعة كما جاء سابقًا، ولا بقياس الطبيعة البشرية، إنما في مجد الآب، مع الملائكة القديسين كحرَّاسًا له يحفُّون به؛ وسوف يجلس أيضًا على عرش مجده، ليدين المسكونة بالعدل كما هو مكتوب (انظر إش4:11). وكما يقول النبي: ” سينظرون إلى الذي طعنوه ” (زك10:12). فالذي سَخَرتْ منه هذه المخلوقات البائسة عندما رأوه معلَّقًا على الصليب الثمين، سوف ينظروه وهو مُكلَّل بالمجد الإلهي، وبسبب شرهم نحوه، سوف يسقطون في هاوية الهلاك. إن قوله: “ ما هو من جهتي له انقضاء“، أي ما يتصل بمُعاناتي للموت في الجسد، وبعد هذا سوف تحدث تلك الأشياء التي تنبأ عنها الأنبياء القديسون في القديم عن أولئك الذين قتلوه.
وبخصوص التنبؤ عن هذه الأشياء، فالمخلِّص كان يتكلم عما كان وشيكًا أن يحدث لبلاد اليهود. لكن التلاميذ الإلهيين لم يفهموا المعنى العميق ِلما قيل، بل ظنوا بالحري أنه يقصد أنَّ السيوف ضرورية بسبب الهجوم الوشيك أن يعمله التلميذ الذي خانه وأولئك الذين اجتمعوا للقبض عليه، لذلك قالوا: ” يا رب هوذا هنا سيفان “. وماذا كانت إجابة السيد؟ يكفي. لاحظ كيف أنه سخر من قولهم، إذ كان يعرف جيدًا أنَّ التلاميذ إذ لم يفهموا معنى ما قيل، فإنهم ظنُّوا أنه يوجد احتياج للسيوف بسبب الهجوم الوشيك أن يحدث عليه هو نفسه. أما هو، وقد ثبَّت نظره على تلك الأمور المزمع أن تقع وشيكًا على اليهود بسبب سلوكهم الشرير تجاهه، فإن المخلِّص ـ كما قلتُ ـ سخر من قولهم وقال: “يكفي”. نعم بالحق، هل يكفي سيفان لاحتمال وطأة الحرب العظيمة والوشيكة أن تحدث لهم، هذه التي لم تكن تنفع فيها آلاف السيوف؟ إن كبرياء اليهود جعلهم يقاومون مقاومة عنيفة ضد قوات أغسطس قيصر، ولكنهم لم ينتفعوا شيئًا، لأنهم قد حوصروا بقوة فتَّاكة، وقاسوا كل بؤس، كما يقول إشعياء النبي: ” ما قضى به الإله القدوس من يبطله؟ ويده عندما تُرفَع من يردها ” (إش27:14س). لذلك ليتنا نحترس لئلا نثير غضب الله، لأنه أمر مخيف هو الوقوع في يديه. أما الذين يؤمنون بالمسيح فهو رحيم بهم أي أولئك الذين يُسبِّحونه، والذين يدعونه فاديًا لهم ومخلِّصًا، وهم الذين يخدمونه خدمة روحية بكل سلوك فاضل. لأننا إن تصرفنا وتكلمنا هكذا، فإن المسيح سيجعلنا خاصته، الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور، آمين.