يسوع ينبئ بإنكار بطرس له – إنجيل لوقا 22 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
يسوع ينبئ بإنكار بطرس له – إنجيل لوقا 22 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
يسوع ينبئ بإنكار بطرس له – إنجيل لوقا 22 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو31:22ـ34): ” سِمْعَانُ سِمْعَانُ هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ ! وَلَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ: أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي “.
يدعو النبي إشعياء أولئك الذين يُحبُّون حياة التقوى في المسيح أن يتوجَّهوا إلى إعلانات الإنجيل بقوله: ” هلموا إلى المياه أيها العطاش” (إش1:55). هذه المياه ليست هي مياه الأرض الماديَّة، بل هي بالأحرى مياه إلهية وروحية، منسكبة علينا من المسيح نفسه، لأنه هو نهر السلام، وسيل المسرة الغزير ونبع الحياة. وهكذا سمعناه هو نفسه يقول بوضوح: ” إن عطش أحد فليُقبِل إلىَّ ويشرب” (يو37:7). تعالوا إذن لكي نُمتِّع أنفسنا هنا أيضًا بالأنهار الإلهية التي تتدفَّق منه. فماذا يقول لبطرس؟ “سمعان سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يُغربلكم كالحنطة، ولكنِّي طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك“.
وأظن الآن أنه من الضروري والنافع لنا أن نعرف ما المناسبة التي جعلت مخلِّصنا يتجه بكلماته إلى هذا الموضوع. كان التلاميذ المبارَكون يتجادلون فيما بينهم من منهم يكون أكبر، أما مخلِّص الكل الذي حصلوا منه على كل ما هو مفيد وضروري لخيرهم، فقد أنقذهم من شر الطموح، بأن نزع عنهم العراك على أشياء مثل هذه، كما حثَّهم على الهروب من شهوة التعالي على الغير لأنها شرك للشيطان. لأنه قال: ” الكبير فيكم ليكن كالأصغر والمتقدِّم كالخادم“. ثم علَّمهم أيضًا أنَّ وقت التكريم ليس في هذا الزمان الحاضر بل سيكون عند مجيء ملكوته، لأنهم هناك سوف ينالون مكافأة إخلاصهم، ويكونون شركاء مجده الأبدي، ويلبسون إكليل كرامة فائقة جدًّا، ويأكلون على مائدته، ويجلسون أيضًا على اثني عشر كرسيًّا يدينون أسباط إسرائيل الاثنا عشر.
ولكن اُنظر ها هو يقدِّم لهم مساعدة ثالثًة كما قرأنا في الدروس التي أمامنا. إنه يعلِّمنا أنه يجب علينا أن نفكِّر باتضاع عن أنفسنا، فنحن في الواقع لا شيء من كلتا الناحيتين: من ناحية طبيعة الإنسان، وأيضًا من ناحية ميل ذهننا للسقوط في الخطية. فنحن نتقوَّى ونكون على ما نحن عليه (في القداسة) بواسطته هو فقط ومنه هو فقط. لذلك، إن كنا قد أخذنا خلاصنا منه، ومنه أيضًا أخذنا ما يجعلنا ذوي شأن في الفضيلة والتقوى ـ فلأي سبب تكون عندنا أفكار كبرياء؟ لأن كل ما عندنا إنما هو منه، ونحن لا نملك شيئًا من أنفسنا، “وأيُّ شيءٍ لك لم تأخذه؟ وإن كنتَ قد أخذتَ، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟” (1كو7:4). هكذا تكلَّم الحكيم جدًّا بولس، ويقول المبارك داود أيضًا: ” بالله نصنع ببأس” (مز12:59س) وفى مرَّة أخرى يقول: ” إلهنا هو ملجأنا وقوتنا” (مز1:45س). وأيضًا يقول إرميا النبي في موضع ما: ” يا رب، أنت قوَّتي وعوني وملجإي في أيام الشدة” (إر19:16س). ويمكن أن نبرز هنا المبارَك بولس أيضًا الذي يقول بكل وضوح: ” أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوِّيني” (فى13:4)، بل المسيح نفسه أيضًا يقول لنا في موضع ما ” بدوني لا تقدرون إنَّ تفعلوا شيئًا” (يو5:15).
ليتنا إذن لا نفتخر بأنفسنا بل بالحري نفتخر بعطاياه. وإن كان كل واحد منا يفكر بهذه الطريقة، فلن تجد شهوة التعالي على الآخرين أيّ مكان لها فينا، وهكذا نكون كلنا شركاء في نفس النعمة الواحدة، وأيضًا كلنا لنا نفس رب الجنود كخالق، وأيضًا كمعطي للقدرة على فعل الصلاح.
لذلك، ولكي يكسر ميلنا إلى التشامخ، ولكي يكبح المشاعر الطامحة، فإنه يبين أنه حتى من يبدو عظيمًا فهو لا شيء ويتَّسم بالعجز والضعف. لذلك ترك بقية التلاميذ الآخرين واتجه إلى الذي هو متقدِّم بينهم والمُقام قائدًا لرفقائه، وقال له: ” إن الشيطان طلبكم عدة مرات لكي يُغربِلكم كالحنطة“؛ أي أن يمتحنكم ويُجرِّبكم ويُعرِّضكم لضربات لا تُحتمل. لأنه من عادة الشيطان أن يهاجم الممتازين جدًّا من الناس، ومثل بربري عنيف ومتغطرس، فإنه يتحدَّى أولئك الذين لهم شهرة عظيمة في طُرُق التقوى لينازلهم في معركة فرديَّة. وبهذه الطريقة تحدَّى أيوب، ولكنه انهزم من صبره وسقط المتشامخ إذ قُهِرَ بواسطة احتمال ذاك البطل المنتصر. ولكن الفريسة التي يريد اصطيادها هي الطبيعة البشرية لأنها طبيعة عاجزة، ومن السهل قهرها. وهو قاسٍ وعديم الشفقة وهو في أعماقه لا يهدأ أبدًا. لأن الكتاب المقدس يقول عنه: ” قلبه قاسٍ كالحجر وهو ويقف مثل سندان الحداد الصلب” (أى15:41س). ولكن القديسين وطئوه تحت أقدامهم بقوة المسيح؛ لأنه قال: ” ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء” (لو19:10)، لذلك يقول المسيح: ” الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكنِّي طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك“.
لاحظ أنه يُنزِل (يُوضِع) نفسه إلينا، ويتكلم بحسب حدود الحالة الإنسانية، ومع ذلك فهو الله بالطبيعة، رغم أنه صار جسدًا، ومع أنه هو قوة الآب، الذي به تقوم كل الأشياء وتُحفظ، والذي منه ننال القدرة على الاستمرار في الصلاح، إلاَّ أنه مع ذلك يقول إنه يقدم طلبات كإنسان، لأنه كان من الضروري، نعم، من الضروري لذلك الذي ـ من أجل التدبير ـ صار مثلنا، أن يستخدم أيضًا كلماتنا حينما تستدعى المناسبة بحسب ما يتطلبه التدبير نفسه. إنه يقول: ” ولكنِّي طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك“، والآن إذن هو يبيِّن بهذا، أنه لو كان بطرس قد سُلِّم للشيطان ليجرِّبه، لكان قد برهن على عدم أمانته تمامًا؛ حيث إنه حتى حين لم يُسلَّم للشيطان، فإنه (أي بطرس) أثبت أنه ضعيف بسبب العجز البشري، لأنه لم يحتمل الخوف من الموت، لأنه أنكر المسيح بسبب كلمة فتاة صغيرة في دار رئيس الكهنة عندما قالت له: ” وأنت أيضًا واحدًا من تلاميذه” (انظر يو7:18).
وبعد أن حذَّره المخلِّص عمَّا كانت ستكون النتيجة لو أنه سُلِّم لتجربة الشيطان؛ فإنه في نفس الوقت يُقدِّم له كلمة عزاء بقوله: ” وأنت متى رجعتَ ثبِّت إخوتك “، أي كن سندًا وموجِّهًا ومعلِّمًا لأولئك الذين يأتون إلىَّ للإيمان. وتعجَّب بالأكثر من هذا، أعني من المهارة الرائعة لهذه العبارة، ومن العظمة التي لا تُجارَى للُّطف الإلهي! فلئلا تُؤدِّي سقطة التلميذ الوشيكة إلى اليأس، كما لو كان سيُطرد من أمجاد الرسوليَّة ويفقد مكافأة تلمذته السابقة للمسيح، بسبب أنه أثبت عدم مقدرته أن يحتمل الخوف من الموت وهكذا أنكره؛ فإن المسيح في الحال يملأه بالرجاء الصالح، ويمنحه يقينًا أكيدًا أنه سوف يُحسب أهلاً للبركات الموعود بها، ويحصد ثمار الثبات، لأنه يقول له: ” وأنتَ متى رجعت ثبِّت إخوتك“. يا للشفقة العظيمة التي لا مثيل لها! إن التلميذ وهو لم يكن قد أُصيب بعد بداء عدم الإيمان قد نال دواء الغفران؛ وقبل أن يرتكب الخطية نال الصفح، وقبل أن يسقط فإن اليد المخلِّصة امتدَّت إليه، وقبل أن يتداعى فإنه حُفِظ، فإن الرب قال له: ” متى رجعتَ ثبِّت إخوتك“. ومثل هذا الكلام هو كلام ذلك الذي (أي الرب) يصفح عنه ويعيده مرة أخرى إلى الصلاحيات الرسولية.
أما بطرس، ففي حماس غيرته، قدَّم اعترافه بثبات وباحتماله إلى المنتهى قائلاً إنه سوف يجابه بشجاعة أوجاع الموت، وسوف لا يَحسب حسابًا للقيود. إلاَّ أنه بهذا قد جانب الصواب لأنه حينما أخبره المخلِّص بأنه سيضعف، ما كان يجب عليه أن يعارضه بصوتٍ عالٍ؛ لأن الحق (المسيح) لا يمكن أن يكذب؛ بل بالحري كان يجب على بطرس أن يطلب منه القوَّة حتى إما أنه لا يتعرض لهذا (السقوط) أو يُنقذ في الحال من الأذى. ولكن كما سبق أن قلت، إذ كان بطرس حارًّا في الروح، وملتهبًا في حبه للمسيح، وفى غيرته غير المقيَّدة من جهة عمل تلك الواجبات التي تليق بتلميذ في ملازمته لمعلِّمه، فإنه يعلن أنه سوف يحتمل إلى النهاية.
إلاَّ أنه وُبِّخ لأنه تكلَّم بجهل ضد ما كان معروفًا سابقًا، وأيضًا بسبب تسرُّعه غير المتَّزن في الاعتراض على كلمات المخلِّص. ولهذا السبب يقول له الرب: ” الحق أقول لك: لا يصيح الديك هذه الليلة حتى تنكرني ثلاث مرات“. وهذا تبرهن أنه صحيح. لذلك، ليتنا لا نفكر بتعالٍ عن أنفسنا، حتى ولو رأينا أنفسنا متميِّزين جدًّا بسبب فضائلنا؛ بل بالأحرى فلنقدم تسابيح تشكُّراتنا للمسيح الذي يفتدينا، وهو نفسه أيضًا الذي يمنحنا الرغبة في أن نكون قادرين على فعل الصلاح، هذا الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان لله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.