من هو الأعظم؟ – إنجيل لوقا 22 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
من هو الأعظم؟ – إنجيل لوقا 22 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
من هو الأعظم؟ – إنجيل لوقا 22 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو24:22ـ30): “ وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضًا مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ. فَقَالَ لَهُمْ: مُلُوكُ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَالْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هَكَذَا بَلِ الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ وَالْمُتَقَدِّمُ كَالْخَادِمِ. لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ. أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي. وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتًا. لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ “.
ينادينا أحد الرسل الأطهار قائلاً: ” اسهروا واصحوا” (انظر1تس6:5)؛ لأن شبكة الخطية منتشرة منصوبة في كل مكان، والشيطان يجعلنا فريسة له بطرق متنوعة، مقيِّدًا إيانا بأهواء عديدة، وهكذا يؤدِّي بنا إلى ذهن مرفوض. لذلك فأولئك الذين لا يرتضون عن طيب خاطر أن يخضعوا لسلطانه، ينبغي أن يستيقظوا، لأنهم بهذا سينالون النصرة بمعونة المسيح، الذي يهتم بنفوسهم ويُخلِّصهم من كل هوى، لكيما يُمكِّنهم بذهن سليم ونشيط أن يركضوا في الطريق المملوء ربحًا والجدير بالمديح الخاص بنمط الحياة الذي يسرّه. والدروس الموضوعة أمامنا تعلن لنا مرة أخرى، كم عظيمة هي رحمته من نحونا! لأن التلاميذ استسلموا لإحدى الضعفات البشرية، وكانوا يتشاجرون مع بعضهم البعض، مَن منهم يكون الأعظم وأعلا من الباقين؛ فربما أنَّ الذين كانوا يشغلون المركز الثاني بينهم، كانوا لا يريدون أن يفسحوا مجالاً لأصحاب المركز الأول. لكن حتى هذا حدث بينهم وتمَّ تسجيله لمنفعتنا، إذ أنَّ ما حدث للرسل الأطهار يمكن أن يكون سببًا للتواضع فيما بيننا. لأن المسيح يزجر في الحال هذا الداء، ومثل طبيب قوي قطع الهوى الذي نشأ بينهم بوصية حاسمة وخارقة إلى العمق.
والآن، فإن هذا الطموح الباطل والأحمق قد ظهر فيهم بسبب محبة المجد الباطل غير النافعة النابعة من الكبرياء، لأن مجرد رغبة المرء في أن يتفوَّق على الآخرين، وأن يُصارع لأجل هذه الغاية، يجعل الإنسان عرضة للَّوم بعدل، وإن كانت من ناحية أخرى لا تخلو تمامًا ممَّا يستحق المديح. لأن كون الإنسان يسمو في الفضيلة، فهذا أمر جدير بكل اعتبار، لكن يلزم لأولئك الذين يبلغونه أن يكونوا ذوي عقل متَّضِع، وأن يكون لهم شعور التواضع هذا لكي يُستبعد كل تفكير في التفوُّق وذلك بسبب المحبة للإخوة، وهذا هو ما يريدنا المبارك بولس أن نكون عليه، إذ يكتب هكذا قائلاً: ” مُقدِّمين بعضكم بعضًا في الكرامة” (رو10:12). لأن هذا الشعور هو لائق تمامًا بالقدِّيسين، ويجعلهم متألِّقين بالمجد، ويجعل تقوانا من نحو الله جديرة بكرامة أكثر: فهي تُمزِّق شبكة خبث الشيطان وتكسر فخاخه المتنوِّعة وتنقذنا من شراك الفساد. وفي النهاية تكمِّلنا على مثال المسيح مخلِّصنا جميعًا. اسمع كيف يضع الرب أمامنا نفسه كنموذج للفكر المتضع وكإرادة غير منشغلة بالمجد الباطل، فيقول لنا: ” تعلموا منِّي لأنِّي وديع ومتواضع القلب” (مت29:11) وهنا، في الفقرة التي قُرئت علينا للتو يقول: ” لأن من هو الأكبر، الذي يتكئ على المائدة أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكئ؟ ولكن أنا في وسطكم كالذي يخدم“. فعندما يتحدث المسيح هكذا، فمن يمكنه أن يكون عنيدًا هكذا وغير مطيع حتى لا يهتم بأن يطرد عنه كل رغبة في المجد الباطل، ويُبعِد عن فكره محبة الكرامة الفارغة؟ لأن ذاك الذي تخدمه المخلوقات العاقلة والكائنات المقدسة، والذي يُسبِّحه السارافيم وتتَّجه إليه خدمات (صلوات) الكون كله، والذي هو مساوٍ لله الآب في عرشه وملكوته، إذ أخذ مكان العبد، فإنه غسل أرجل الرسل القديسين. وعلاوة على ذلك، فهو بطريقة أخرى يأخذ وظيفة العبد، بسبب التدبير في الجسد. ويشهد لهذا بولس المبارك عندما يكتب قائلاً: ” وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان حتى يُثبِّت مواعيد الآباء، وأما الأمم فمجَّدوا الله من أجل الرحمة” (رو9،8:15). إذن فالذي تُقدَّم له الخدمة صار خادمًا، ورب المجد افتقر لأجلنا “ تاركًا لنا مثالاً“، كما هو مكتوب (1بط21:2).
لذلك ليتنا نتحاشى محبة المجد الباطل، ونخلِّص أنفسنا من اللوم المرتبط بشهوة الرئاسة، لأننا بتصرُّفنا هكذا نصير مشابهين له هو، الذي أخلى ذاته لأجلنا، بينما التشامخ وعجرفة العقل يجعلاننا نشبه تمامًا رؤساء الأمم الذين يميلون للغطرسة دائمًا، وهذه السمة محبَّبة لديهم بل ربما مناسبة لهم.
ويقول ” لأنهم يُدعَون محسنين “. أي إنَّ مرؤوسيهم يتملَّقونهم ويدعونهم محسنين. ولكونهم خارج نطاق النواميس المقدسة، وغير خاضعين لمشيئة الرب، لذلك فهم ضحايا لهذه الأمراض. لكن الأمر لا ينبغي أن يكون هكذا معنا، بل بالحري ليكن مجدنا هو في التواضع، وفخرنا هو في عدم محبة المجد (الباطل)، ولتكن شهوتنا هي في تلك الأشياء التي تُسرّ الله وترضيه، واضعين في أذهاننا ما يقوله لنا الحكيم: ” بقدر ما تتعظَّم، أخفض ذاتك بالأكثر، فتنال حظوة عند الرب” (ابن سيراخ19:3). لأنه يرذل المستكبرين، ويعتبر المتعجرفين كأعداء له، أمَّا الودعاء ومتواضعو القلب فيكلِّلهم بالكرامات.
لذلك يدفع المخلِّص عن رسله القديسين داء المجد الباطل، لكنهم (التلاميذ) ربما يفكرون بينهم وبين أنفسهم ـ ويقولون: “ماذا ستكون مكافأة الأمانة، إذن؟ أو ما المنفعة التي ينالها الذين تعبوا في تلمذتهم له، عندما تداهمهم التجارب من حين لآخر؟ لذلك فلكي يُثبِّتهم في رجاء البركات المذخّرة ويطرد من أذهانهم كل تكاسل في المساعي الفاضلة، بل أن يختاروا بالأحرى أن يتبعوه بجدٍّ وحماس، ويُسرُّوا بالأتعاب لأجله، ويعتبروا هذا العمل سبب ربح، وسبيلاً للفرح ووسيلة للمجد الأبدي، (لأجل كل هذه)، يقول لهم بالضرورة: ” أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي؛ وأنا أجعل لكم، كما جعل لي أبي ملكوتًا، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على اثني عشر كرسيًّا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر“. أرجو أن تلاحظوا أنه لم يتخلَّ بعد عن حدود البشرية، بل الآن يحدِّد نفسه داخل هذه الحدود (البشرية)، لأنه لم يكن بعد قد احتمل الصليب الثمين؛ لأنه يتكلم كواحد منا: ولكنه بعد القيامة من الأموات كشف مجده، إذ أنه قال لهم: ” دُفع إلىَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض” (مت18:28). لذلك ـ كما قلت ـ فهو يتكلم بطريقة بشرية، لكونه لم يرتفع بعد فوق قياس تواضعه. لهذا السبب فهو يقول: ” كما جعل لي أبى عهدًا لمملكة هكذا أنا أيضًا سوف أجعل معكم عهدًا لتأكلوا وتشربوا دائمًا على مائدتي في ملكوتي“. فهل سيكون الحال أنه بعد القيامة من الأموات، عندما يحين الوقت الذي فيه سنكون مع المسيح، ينعم علينا بمشابهة جسده المُمجَّد، هل معنى هذا أنه حتى بعد أن نكون قد لبسنا عدم الفساد، أقول هل سنكون في حاجة آنذاك ـ من جديد ـ لطعام وموائد؟ أليس من الحماقة التامة أن نقول أو نرغب في أن نتخيَّل شيئًا من هذا القبيل؟ لأنه عندما نكون قد خلعنا الفساد، فما هو القوت الجسدي الذي سنكون في احتياج إليه؟ فإن كان الأمر هكذا، فما هو معنى العبارة: ” لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي“؟ أجيب إنه مرَّة أخرى يعلن لنا الأمور الروحية من خلال أمور الحياة العادية. فأولئك الذين يستمتعون بأعظم الكرامات مع الملوك الأرضيين يشتركون في الوليمة معهم ويأكلون في صحبتهم، وهذا أمر يعتبرونه قمَّة المجد، وكذلك يوجد آخرون يعتبرهم أصحاب السلطان أنهم جديرون بالكرامة، ومع ذلك لا يسمحون لهم أن يأكلوا معهم على نفس المائدة. ولذلك، فلكي يُبيِّن (الرب) أنهم سينعمون معه بأعلى الكرامات، فإنه يستخدم مثالاً مأخوذًا من الحياة العادية، فيقول لهم: وأنا أجعل معكم عهدًا (عهد ملكوت) لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا أيضًا على اثني عشر كرسيًا تدينون أسباط إسرائيل.
كيف وبأية طريقة (يفعل ذلك)؟ إنه يقصد أنَّ التلاميذ الذين هم من الجنس الإسرائيلي، حصلوا على أقصى الأمجاد مع المسيح ـ مخلِّص الكل، لأنهم بالإيمان والثبات أمسكوا بالهبة، الذين نسعى نحن أيضًا للاقتداء بهم، لأنه هكذا سيقبلنا المخلِّص ورب الكل في ملكوته، الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان لله الآب، مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين.