أبحاث

مثل الكرم والكرامين – إنجيل لوقا 20 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

مثل الكرم والكرامين – إنجيل لوقا 20 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

مثل الكرم والكرامين – إنجيل لوقا 20 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

مثل الكرم والكرامين – إنجيل لوقا 20 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
مثل الكرم والكرامين – إنجيل لوقا 20 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو9:20ـ18): “ وَابْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هَذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْمًا وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَانًا طَوِيلاً. وَفِي الْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ عَبْدًا لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ فَجَلَدَهُ الْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. فَعَادَ وَأَرْسَلَ عَبْدا آخَرَ. فَجَلَدُوا ذَلِكَ أَيْضًا وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هَذَا أَيْضًا وَأَخْرَجُوهُ. فَقَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ابْنِي الْحَبِيبَ، لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ! فَلَمَّا رَآهُ الْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ، هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا الْمِيرَاثُ. فَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ هَؤُلاَءِ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ لآخَرِينَ. فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: حَاشَا!. فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: إِذًا مَا هُوَ هَذَا الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟ “.

 

          يقول المسيح في موضعٍ ما: يشبه ملكوت السموات كنزًا مخفيًا في حقل (مت44:13)، وليس شيء أكثر تأكيدًا من أنَّ أولئك المحبون للربح ويبحثون عن الكنوز، لا يجدون هذه الأشياء في متناول اليد، ولا أيضًا موضوعة على سطح الأرض، ولكن يجدونها بالحرى مخفية ومدفونة بعيدًا عن الأنظار، وبواسطة الحفر الشاق فقط يجدونها، وبصعوبة يحصلون عليها. تعالوا إذن وهيا بنا نبحث عن معرفة دروس الإنجيل مثلما نبحث عن كنز، هلمَّ نفتِّش بعمق عن الأفكار التى تحويها؛ وعندئذ سوف نعثر على ضالَّتنا المنشودة بمعونة المسيح الذي سوف يعلن لنا هذا: لأن فيه مذَّخر جميع كنوز الحكمة وأمور المعرفة الخفيَّة (انظر كو3:2)، فهو واهب الحكمة والفهم لكل الخليقة العاقلة.

          ماذا يقول المسيح إذن لرؤساء اليهود عندما يطرح أمامهم تلك الأشياء النافعة للخلاص؟ ” إنسان غرس كرمًا وسلَّمه إلى كرامين وسافر زمانًا طويلاً “. إذا فحص أى شخص عن معنى ما قيل هنا بعين الذهن الثاقبة، فإنه سوف يجد كل تاريخ بنى إسرائيل ملخَّصًا باختصار في ثنايا هذه الكلمات، لأن المرنم يوضح من هو الذي غرس الكرم، وما الذي يُفهم بالحقيقة عن الكرم المغروس، عندما يقول للمسيح مخلِّص الجميع عن الإسرائيليين: ” كرمة نقلتَ من مصر، طردت أممًا وغرستها، هيأت طريقًا قدامها، وغرست جذورها حتى مَلأَت الأرض” (مز8:79و9س). وأيضًا يُعلن النبي المبارك إشعياء نفس الشيء ويقول: ” كان لحبيبى كرم على أكمة في مكان خصيب” (إش1:5س). ويضيف بعد ذلك ليشرح معنى ما قد قيل سابقًا بشكل غامض: ” إن كَرْم رب الجنود هو رجال يهوذا، غرس جديد ومحبوب” (إش7:5س). فالذي غرس الكرم إذن هو الله، وهو نفسه الذي سافر بعيدًا لزمان طويل. ولكن إن كان الله يملأ كل الأشياء، ولا يمكن أن يكون غائبًا عن الموجودات بأى حال، فكيف إذن يذهب صاحب الكرم بعيدًا لزمان طويل؟ هذا يعنى أنه بعدما ظهر لهم في شكل نار عند نزوله على جبل سيناء في أيام موسى ـ هذا الذي أعطاهم الناموس كوسيط ـ فإنه لم ينعم عليهم مرَّة أخرى بحضوره في صورة مرئية، ولكنه كان يستخدم تشبيهًا مستعارًا من الأمور البشرية، ليبين أنَّ علاقته بهم كانت مثل واحد قد سافر لزمان طويل.

          وكما سبق أن قلت إنه سافر، ولكن من الواضح أنه كان يعتنى بكرمه، وكان يفكر فيه باستمرار، لأنه أرسل خدامًا أمناء في ثلاث أوقات مختلفة لكي يتسلموا المحصول، أى الثمر، من الكرامين، فلم تكن هناك مناسبة في هذه الفترة لم يرسل الله في أثنائها أنبياء وصديقين لينذروا بنى إسرائيل، ويحثوهم ليعطوا أثمارًا توافق الحياة المجيدة اللائقة التى حسب الناموس، أما هم فكانوا أشرارًا وعصاة وعنيدين، وتقسَّى قلبهم ضد التحذير، فلم يصغوا بأى طريقة للكلمة التى كان يمكن أن تنفعهم. لأنه حتى النبى إشعياء كواحد كان ـ كأنه مغشيًّا عليه من الأتعاب والمعاناة بدون فائدة ـ يقول: ” يا رب مَن صَدَّق خبرنا؟” (إش1:53س). لذلك فباستخفافهم بأولئك الذين قد أُرسلوا إليهم، ” فإنهم قد أرسلوهم فارغين” بمعنى أنه لا يوجد شيء حسن يقولونه عنهم لله الذي أرسلهم. وأيضًا فإن النبى إرميا يلوم الشعب اليهودى وحكامه بسبب عجرفتهم الزائدة بقوله: ” لمن أتكلم وأشهد حتى يسمع؟ ها إن آذانهم غير مختونة فلا يقدرون أن يسمعوا، ها إن كلمة الرب قد صارت لهم عارًا، ولا يقبلونها” (إر10:6س). ويتكلم في موضع آخر عن أورشليم هكذا: ” داوينا بابل فلم تُشفَ، فلنتركها ولنذهب كل واحد إلى أرضه، لأن دينونتها بلغت السماء ” (إر9:51س). وكما قلتُ سابقًا إنه يدعو أورشليم بابل لأنها لم تختلف عن فارس في عدم طاعتها وارتدادها، ولأنها لم تُخضِع نفسها للوصايا المقدسة، وربما لأنها قد حُسبت مثل من لا معرفة له بالله، لأنها اختارت أن تعبُد المخلوق بدلاً من الخالق وتسجد لأعمال يديها، لأن بنى إسرائيل كانوا مذنبين بتهمة الارتداد وعبادة الأوثان. فهذه هى إذن الطريقة التى طَردوا بها بخزي أولئك الذين أُرسلوا إليهم.

          أما رب الكرم فإنه يتفكر في نفسه ويقول: “ماذا أعمل”؟ يجب علينا أن نتمعن جيدًا بأي معنى يقول هذا. هل يستخدم صاحب الكرم هذه الكلمات لأن ليس لديه مزيد من الخدام؟ بالتأكيد لا، لأنه لا ينقصه خدام آخرون يتمّمون إرادته المقدسة، ولكن كما يقول طبيب عن شخص مريض، ماذا أعمل؟ إننا نفهم أنه يقصد أنه جَرَّب معه كل وسائل المهارة الطبيَّة ولكن بلا جدوى. وهكذا نحن نؤكد أيضًا أنَّ رب الكرم بعدما أظهر كل لطف وعناية بكرْمه، ولكن بدون أى نفع، فهو يقول: ماذا أعمل؟ وماذا كانت النتيجة؟ ها هو لا يزال يتقدم بطرق أخرى أعظم فيقول: أرسل ابنى الحبيب لعلهم يهابونه. لاحظ في هذا القول إنه أرسل الابن بعد الخدام، ولكن ليس كواحد محسوب ضمن الخدام، بل كابن حقيقى ولذلك فهو الرب. لأنه حتى وإن كان قد أخذ شكل العبد لأجل التدبير، إلاَّ أنه لا يزال إلهًا والابن الحقيقى لله الآب ويملك السلطان الطبيعي[1]، هل كرَّموا حينئذ هذا الذي أُرسل كابن ورب، وكمن يملك بالميراث كل ما لله الآب؟ هم لم يكرموه، لأنهم ذبحوه خارج الكرم بعد أن خطَّطوا في أنفسهم هدفًا غبيًّا يدل على الجهل، ومملوء بكل خبث؛ لأنهم قالوا: ” هلمُّوا نقتله لكي يصير لنا الميراث“. ولكن أخبرني أنت كيف تصوَّرتَ هذا؟ فهل أنت أيضًا ابن لله الآب، هل ينحدر إليك الميراث كحق طبيعي؟ وإذا أنت طرحت الوارث خارج الطريق، فكيف تصير سيدًا لهذا الميراث الذي اشتهيته؟ وبالأكثر كيف لا يكون افتراضك هذا سخيفًا، لأن الرب هو بالحقيقة ابن ووارث لسلطان الله الآب بحق جوهره، فإنه عندما صار إنسانًا دعا أولئك الذين آمنوا به إلى مشاركته في ملكوته. أما هؤلاء الناس فأرادوا أن يأخذوا المملكة لأنفسهم وحدهم، دون أن يسمحوا للابن بأي مشاركة له معهم في الميراث، مغتصبين لأنفسهم وحدهم الميراث الرباني. ولكن هدفهم هذا كان مملوءً جهالة ويستحيل تحقيقه، لذلك يقول داود المبارك عنهم في المزامير:   ” الساكن في السماء يضحك بهم، والرب يستهزئ بهم” (مز4:2س).

 

          لذلك فإن رؤساء المجمع اليهودي قد طُرحوا خارجًا بسبب مقاومتهم لمشيئة الرب، إذ جعلوا الكرْم الذي استؤمنوا عليه بلا ثمر، لأن الله قد قال في موضع ما: ” رعاة كثيرون أفسدوا كرمي، داسوا نصيبي، جعلوا ميراثي المشتهى برية خربة، جعلوه خرابًا مهجورًا” (إر10:12و11س). وقيل أيضًا بصوت إشعياء: ” قد انتصب الرب للتو للمحاكمة، الرب نفسه سيدخل في المحاكمة مع شيوخ ورؤساء الشعب، وأنتم لماذا أحرقتم كرْمي؟” (إش13:3و14س). وأولئك مثل الذين جَعَلوا الأرض عقيمة، لكونهم أشرار، فإنهم هلكوا بالشرور لأنه من العدل والعدل جدًّا، بما أنهم كسالى وقاتلون للرب فإنهم يكونون فريسة لتعاسات شديدة جدًّا.

 

          وقد أُعطى الكرم إلى كرامين آخرين، من يكون هؤلاء الكرامون؟ إننى أجيب أنهم جماعة الرسل القديسين الكارزين بوصايا الإنجيل، وخُدَّام العهد الجديد الذين هم معلِّمون للعبادة الروحية، والذين عرفوا كيف يُوجِّهون الناس توجيهًا صحيحًا غير ملوم، ويقودوهم بطريقة ممتازة جدًّا نحو كل ما يرضي الله ويسره. وهذا أنت تتعلمه مما يقوله الرب بصوت إشعياء النبى إلى أُم اليهود، وهو المجمع: ” وأرد يدى عليكِ، وأمحصكِ لأنقيكِ، وسوف أهدم الذين لا يطيعون، وسوف أنزع منكِ جميع فاعلي الإثم، وسوف أخفض كل من يتشامخ، وأقيم قضاتك كما في الأول، ومشيريك كما في البداءة” (إش25:1 و26س). ويشير بهؤلاء كما قلت إلى كارزي العهد الجديد، الذين يقول عنهم الرب بفم إشعياء في موضع ما: ” وتُدعون كهنة الرب وخدام الله” (إش6:61س). أما بخصوص أنَّ الكرم قد أُعطى إلى كرَّامين آخرين، فهذا لا يعني فقط الرسل القديسين، ولكن يُقصد أيضًا الذين أتوا بعدهم، حتى ولو لم يكونوا من نسل إسرائيل، وهذا ما يعلنه الله بوضوح حيث يقول بفم إشعياء لكنيسة الأمم ولبقية إسرائيل: “ويأتي الغرباء في الجنس ويرعون غنمكم والغرباء في العشيرة سوف يكونون حرَّاثين وكرامين” (إش5:61س). لأنه في الواقع قد دُعيَ كثيرون من الأمم وقديسون كثيرون منهم قد أُحصوا ضمن من صاروا معلمين ومرشدين، بل وإلى وقتنا هذا يوجد رجال من جنس الأمم يشغلون أمكنة عالية في الكنائس، وهم يزرعون بذار التقوى في المسيح في قلوب المؤمنين، ويجعلون الأمم الذين يقومون برعايتهم مثل كروم جميلة في نظر الله.

 

          وماذا قال الكتبة والفريسيون ـ إذن ـ لمَّا سمعوا المثل. قالوا: حاشا. ومن هذا يمكن أن نلاحظ أنهم قد فهموا المغزى العميق له، فإنهم دفعوا عن أنفسهم الأهوال الوشيكة أن تحدث، وكانوا خائفين من الخطر الآتي، ولكنهم مع ذلك لم يفلتوا منه، لأنهم لم يتخلوا عن عصيانهم، ولم يخضعوا لكي يؤمنوا بالمسيح.

 

          ويستمر الإنجيل قائلاً: إن المسيح ” نظر إليهم وقال: إذن ما هو هذا المكتوب، الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، كل من يسقط على هذا الحجر يترضَّض، ومن سقط هو عليه يسحقه“. لأنه، رغم أنَّ المخلِّص كان حجرًا مختارًا، إلاَّ أنه قد رُفض من أولئك الذين كان واجبهم هو أن يبنوا مجمع اليهود بكل ما كان نافعًا للبناء، إلاَّ أنه مع ذلك قد صار رأس الزاوية، والكتاب المقدس يقارن جمع الشعبين معًا ـ أي إسرائيل والأمم وربطهما معًا، بالزاوية، التى تربط جدارين. لأن المخلِّص قد خلق الشعبين إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا وصالح الاثنين في جسدٍ واحد مع الآب (انظر أف15:2و16). وهكذا فإن العمل يشبه الزاوية التى تربط حائطين، أى تمسكهما معًا. وهذه الزاوية نفسها، أو جمع الشعبين معًا إلى واحد، هذا ما تعجَّب منه المغبوط داود وقال: ” الحجر الذي رذله البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قِبل الرب صار هذا وهو عجيب في أعيننا” (مز22:117س) لأن المسيح ـ كما قلت ـ قد ربط الشعبين معًا بربط المحبة وباتحاد المشاعر ووحدة الإيمان.

          فالحجر يكون إذن أمانًا للزاوية التى تُصنع منه، ولكنه يكون هدمًا وتدميرًا لأولئك الذين ظلُّوا منفصلين عن هذا الاتحاد العقلى والروحى. لأن المسيح يقول: ” إن من يسقط على هذا الحجر يترضَّض، ولكن من يقع هو عليه يسحقه “. فجموع اليهود عندما عثروا في المسيح وسقطوا عليه فإنهم ترضَّضوا، لأنهم لم يسمعوا صوت إشعياء القائل: ” قدِّسوا الرب نفسه فيكون خوفكم، ولا تصطدموا به مثل صخرة عثرة أو حجر صدمة” (إش13:8و14س). لذلك فإن الذين لم يؤمنوا انكسروا، أما نحن الذين آمنا به، فإنه قد باركنا، هذا الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان لله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

[1] أي السلطان الذي يخصه بحسب حقيقة جوهره وليس كشيء مُنح له أو أُضيف إليه. وهكذا يلاحظ في كل مكان وباستمرار كيف يدعوه القديس كيرلس بتكرار: ” الابن بالطبيعة”، في مقابل الأبناء بالتبني.

مثل الكرم والكرامين – إنجيل لوقا 20 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد