زمن افتقاد أورشليم – إنجيل لوقا 19 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو41:19ـ44): “ وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا. قَائِلاً: إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا حَتَّى فِي يَوْمِكِ هَذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلَكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِك “.
أدان إرميا النبي الطوباوي بصوت عال جهل اليهود وكبريائهم بآن واحد موبخًا إياهم بهذه الكلمات: ” كيف تقولون نحن حكماء وكلمة الرب معنا؟ باطل هو قَلَم الكتبة الكاذب، خزي الحكماء ارتاعوا وأُخذوا، أية حكمة وها قد رفضوا كلمة الرب” (إر8:8و9س)، لأنهم ليسوا حكماء ولا على دراية بالأسفار المقدسة. ومع أنَّ الكتبة والفريسيين ينسبون لأنفسهم زورًا سمعة أنهم متعلِّمون في الناموس، فإنهم رفضوا كلمة الله، لأنه عندما صار الابن الوحيد إنسانًا، فإنهم لم يقبلوه، ولا أحنوا رقابهم طواعية لدعوته التي وجَّهها إليهم بالإنجيل. ولأنهم قد رفضوا كلمة الله بسلوكهم الشرير، فهم أنفسهم قد رُفضوا، وتمَّت إدانتهم بالقرار الإلهي العادل، لأنه يقول بفم إرميا: ” فضة مرفوضة يُدعون لأن الرب رفضهم” (إر30:6)، وقال أيضًا: ” جِزِّي شعرك واطرحيه بعيدًا وخذي مرثاة على شفاك، لأن الرب قد رفض ورذل الجيل الذي فعل تلك الأشياء” (إر29:7س). وقد أعلن لنا إله الجميع ما هي تلك الأشياء بقوله: ” اسمعي أيتها الأرض، هأنذا جالب شرورًا على هذا الشعب ثمر انحرافهم، لأنهم لم يصغوا لكلمتي ورفضوا شريعتي” (إر19:6س)، لأنهم لم يحفظوا الوصية التي أعطاها لهم موسى بل ” يُعلِّمون تعاليم هي وصايا الناس” (مت9:15)، وبالإضافة إلى هذا فقد رفضوا أيضًا كلمة الله الآب برفضهم أن يؤمنوا بالمسيح، حينما دعاهم إلى ذلك. لذلك فإن ثمار انحرافهم كانت واضحة في الكوارث التي حلَّت بهم، لأنهم عانوا من كل شقاء كجزاء على قتلهم الرب.
أما (بخصوص) سقوطهم في هذه البليَّة[1]، فهذا لم يكن أمرًا يتوافق مع مشيئة الله الصالحة، لأنه كان يريد لهم بالأحرى أن يبلغوا السعادة عن طريق الإيمان والطاعة. أما هم فكانوا غير مطيعين ومتغطرسين، وبالرغم من هذا ـ ومع أنَّ هذه كانت حالة ذهنهم ـ فإن المسيح أشفق عليهم، لأنه ” يريد أنَّ جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تي4:2)، إذ يقول (النص) أيضًا إنه ” نظر إلى المدينة وبكى“، لكيما نعرف بهذا أنه يحزن، إن جاز لنا أن نتكلم هكذا عن الله، الذي يعلو على الكل. ولكننا، ما كنا نستطيع أن نعرف أنه أشفق رغم شرهم، لو لم يكن قد أظهر بفعل بشري ذلك الحزن الذي لا يمكننا أن نراه، لأن الدمعة التي تسقط من العين هي تعبير عن الحزن، أو بالأحرى هي إظهار واضح له. وهكذا بكى أيضًا على لعازر حتى يمكننا مرة أخرى أن نفهم أنه حزن على طبيعة الإنسان التي سقطت تحت سطوة الموت، لأنه ” خلق كل الأشياء لعدم الفساد (للخلود)، ولكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم“[2](حكمة23:2)، ليس لأن حسد إبليس أقوى من إرادة الخالق، بل بسبب أنه كان من الضروري أنَّ تعدِّي الوصية الإلهية ينتج عنه عقاب يجعل كل من يحتقر ناموس الحياة ينحدر إلى الفساد.
لذلك نحن نقول إنه بكى على أورشليم لسبب مشابه، لأنه أراد أن يراها في سعادة بقبولها الإيمان به، ونوال السلام مع الله، فإنه إلى هذا (السلام) دعاهم إشعياء النبي أيضًا قائلاً: ” لنصنع سلامًا معه، لنصنع نحن القادمون سلامًا معه” (إش5:27س). أما عن أنه بالإيمان نصنع سلامًا مع الله، فهذا ما يُعلِّمنا إياه الحكيم بولس حيث يكتب: ” إذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح” (رو1:5). أما هم، فكما قلتُ، أسرعوا بعنف جامح إلى الغطرسة والازدراء وأصروا على احتقار خلاص المسيح؛ لذلك فالمسيح يلومهم على نفس هذا الأمر قائلاً: ” لو علمتِ أنتِ أيضًا ما هو لسلامك“، أي (لم تعرفي) تلك الأشياء المفيدة والضرورية لكِ لتصنعي سلامًا مع الله، وهذه الأشياء هي الإيمان، الطاعة، التخلي عن الظلال، التوقُّف عن العبادة الناموسية؛ وبدلاً عن ذلك تفضيل العبادة التي بالروح والحق، تلك العبادة التي بالمسيح تكون رائحتها طيِّبة وجديرة بالإعجاب وثمينة أمام الله لأنه يقول: ” الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو24:4).
ويقول الرب: ” ولكن قد أُخفى عن عينيك“. لأنهم لم يكونوا مستحقين أن يعرفوا أو بالأحرى أن يفهموا الكتب الموحى بها من الله، والتي تتكلم عن سر المسيح، لأن بولس يقول: ” فإذ لنا رجاء مثل هذا نستعمل مجاهرة كثيرة، وليس كما كان موسى يضع برقعًا على وجهه لكي لا ينظر بني إسرائيل إلى مجد وجهه الزائل، بل أُغلظت أذهانهم، لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باق غير منكشف، لكن حينما يُقرأ موسى فالبرقع موضوع على قلوبهم، لأنه يُبطل في المسيح” (2كو12:3ـ15) لكن بأي طريقة يُبطل البرقع في المسيح؟ لأنه حيث إن المسيح هو الحقيقة، فإنه يجعل الظل يُبطل، ولكن بخصوص أنَّ سر المسيح يُشار إليه بواسطة ظل الناموس، فإن المسيح يؤكِّد لنا ذلك بقوله لليهود: “ لو كنتم تصدِّقون موسى لكنتم تصدِّقونني أيضًا لأنه هو كتب عنى” (يو46:5) ولأنهم لم يفحصوا ظلال الناموس بعناية، لذلك فإنهم لم يروا الحقيقة. كما يخبرنا بولس المتعلم حقيقة في الناموس أنَّ ” القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل” (رو25:11)، أما القساوة فهي السبب المؤكَّد للجهل والظلمة؛ فالمسيح قال مرَّة: ” ليس ما يدخل الفم ينجِّس الإنسان” (مت11:15)، وفي ذلك الوقت، فإن الفريسيين لاموه على كلامه هكذا بخصوص كسر الناموس وطرح الوصية التي أعطاهم لها موسى[3]. ” وبعد ذلك تقدم التلاميذ وقالوا له أتعلم أنَّ الفريسيين لما سمعوا القول نفروا؟ فأجاب وقال لهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلَع، اتركوهم هم عميان قادة عميان” (مت12:15ـ14). لذلك فالغرس الذي لم يغرسه الآب يُقلَع لأنه (الآب) يدعو الذين سيحسبون أهلاً لخلاصه إلى الاعتراف بالابن.
أما حالة أولئك المؤمنون به فهي مختلفة تمامًا، وكيف يمكن أن تكون بخلاف ذلك؟ لأنهم كما يقول المرنم بخصوصهم: ” مغروسين في بيت الرب، ويزهرون في ديار إلهنا” (مز13:91س). لأنهم أبناء الله وصنعته، كما تُعلن الأسفار المقدسة، لأنه قيل بفم داود: ” بنوك مثل غروس الزيتون الجدد حول مائدتك” (مز3:127س).
أما الإسرائيليون وحتى قبل التجسد، فقد برهنوا أنهم غير جديرين بخلاص المسيح إذ رفضوا الشركة مع الله وأقاموا لأنفسهم آلهة كاذبة وذبحوا الأنبياء، مع أنَّ الأنبياء حذروهم من أن يحيدوا عن الإله الحي، بل أن يتمسَّكوا بوصاياه المقدسة. أما هم فلم يقبلوا أن يفعلوا هكذا، بل أحزنوه بطرق كثيرة، وحتى حينما دعاهم إلى الخلاص (بعد ذلك).
هذا يعلِّمه لنا المخلِّص نفسه بقوله: ” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت37:23)، وها أنت ترى أنه أراد مرات كثيرة أن يسبغ عليهم رحمته، ولكنهم رفضوها، ولذلك فقد أدينوا بحكم إلهي مُقدَّس، واستُبعِدوا عن أن يكونوا أعضاء في بيته الروحي، لأنه قال لشعب اليهود بواسطة أحد الأنبياء القديسين: ” أنا أشبه أمّك (أورشليم) بالليل، شعبي هو مثل من ليس له معرفة، لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضًا بنيك” (هو5:4و6س). لاحظوا أنه يقارن أورشليم بالليل، لأن ظلمة الجهل قد غطَّت قلب اليهود وأعمت عيونهم؛ ولهذا السبب سُلِّموا إلى الهلاك والذبح، لأن إله الكل تكلم بفم حزقيال وقال: “ حي أنا يقول الرب، من أجل أنكِ قد نجستِ مقادسي بنجاستكِ، سأرفضكِ أنا أيضًا، ولن تشفق عيني وأنا لا أعفو” (حز11:5س). وأيضًا ” الذين هم في الحقل يموتون بالسيف، والذين هم في المدينة يأكلهم الجوع والوبأ، والذين منهم ينفلتون سيخلصون، وسيكونون على الجبال كحمام الوديان” (حز15:7، 16س). لأن إسرائيل لم يُستأصل من أصل جذوره، ولا من الجذع والفرع، لكن خلُصَت بقيَّة، والتي منها كان بكورها وطليعتها الرسل المباركين الذين يقول حزقيال عنهم إنهم كانوا على الجبال كحمام الوديان (أي الذين يتأملون) لأنهم كانوا كسفراء في العالم كله مخبرين بسر المسيح، وكان عملهم هو التسبيح والترتيل، وكأنهم يهتفون عاليًا بالمزامير: “ لساني يلهج ببرِّك واليوم كله بتسبيحك” (مز28:34س).
لذلك فالوسائل المؤدِّية لسلام أورشليم مع الله كانت مخفيَّة عنها، ومن بين هذه الوسائل، بل أوَّلها وأهمها هو الإيمان الذي يبرر الخاطئ، وهو الإيمان الذي يُوحِّد بالقداسة والتبرير أولئك الحاصلين عليه، بالله الكلى النقاوة.
أما عن أنَّ المدينة التي كانت سابقًا مُقدَّسة وشهيرة، أي أورشليم، تسقط في ضيقات الحرب، فهذا يمكن أن نراه من التاريخ، بل إن إشعياء النبي يؤكد هذا لنا، حيث يهتف عاليًا إلى جموع اليهود ويقول: ” بلادكم خربة، مدنكم محرقة بالنار، أرضكم يأكلها الغرباء قدامكم وهي خربة كأنها انقلبت بواسطة أمم غريبة” (إش7:1س). كان هذا هو أجر الافتخار الباطل لليهود، وعقوبة عصيانهم، والعذاب الذي هو العقاب العادل لكبريائهم، أما نحن فقد ربحنا رجاء القديسين، ونحن في سعادة كاملة، لأننا أكرمنا المسيح بالإيمان، هذا الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.
[1] ربما يقصد خراب أورشليم سنة 70م (المترجم).
[2] هذه الآية المقتبسة هنا والتي تبدأ صلاة الصلح في القداس الباسيلي، هى من سفر الحكمة لسليمان بالنسخة السبعينية للعهد القديم (المُترجم).
[3] بخصوص وصية إكرام الوالدين وتعدِّي اليهود لهذه الوصية بسبب تمسُّكهم بتقليد الشيوخ (مت1:15ـ9) (المُترجم).