تركنا كل شيء وتبعناك – إنجيل لوقا 18 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو28:18ـ30):” فَقَالَ بُطْرُسُ: هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَقَالَ لَهُمُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ. إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ “.
ذلك الذي هو ينبوع التعاليم المقدَّسة يجعل هنا أيضًا نهرًا صحيًا يتدّفق لنا، كما يبدو أن المناسبة نفسها تدعونا أن نقول لمن يفحصون الكلمات الإلهية: ” أيها العطاش هلموا إلى المياه” (إش 1:55)، فقد وُضع أمامكم أن تشتركوا في نهر البهجة الذي هو المسيح، لأن داود النبي ذَكَرَهُ بهذا الاسم فقال لله الآب الذي في السماء: ” فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون يُروون من دسم بيتك ومن نهر بهجتك تسقيهم” (مز 8:35 س).
أما ما هو هذا النهر الذي يتدّفق إلينا منه، فهذا هو ما تعلِّمه لنا بوضوح الدروس الإنجيلية الموضوعة أمامنا الآن: (إذ يقول الإنجيل) ” فقال بطرس ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك”؛ ويضيف متى الإنجيلي: ” فماذا يكون لنا؟” (مت 27:11). لكن قبل أن ننتقل إلى أي من النقاط الأخرى، لنسأل أولاً عن المناسبة التي أوصلت إلى هذا الموضوع الحالي. لذلك، حينما قال المسيح مخلّصنا كلنا لأحد رؤساء مجامع اليهود: ” اذهب بع كل ما لك ووزع على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني”، سأله التلاميذ: ماذا سينالون من الله (أولئك) الذين حفظوا هذه الوصية، ولأجل منفعة الآخرين فلقد وضع التلاميذ على أنفسهم توضيح حدود هذا الأمر. لكن ـ بحسب ما أتخيّل ـ ربما يجيب البعض عن هذا: ما هو الذي تخلّى عنه التلاميذ عمومًا لأنهم كانوا أشخاصًا يكسبون ضروريات الحياة بعرقهم وكدهم، ولأن صناعتهم كانت صيد السمك، فهم يمتلكون على الأكثر قاربًا وشباكًا. ولم يكن لهم بيوت جميلة أو أي مقتنيات أخرى، لذلك فما الذي تركوه أو عوضًا عن أي شيء يسألون من المسيح مكافأة؟ بماذا نجيب عن هذا؟ لأجل هذا السبب بالذات يسألون هذا السؤال الضروري جدًّا، لأنه بقدر ما كانوا لا يمتلكون شيئًا سوى ما هو زهيد وتافه القيمة، فإنهم سوف يعرفون الطريقة التي بها يجازي الله ويبهج بعطاياه أولئك الذين لم يتركوا سوى القليل لأجل ملكوت الله راغبين أن يُحسبوا جديرين بملكوت السموات لأجل محبّتهم له. فالرجل الغني لكونه قد تخلّى عن الكثير فإنه يتوقع مكافأة عن ثقة، لكن الذي لا يملك سوى القليل وقد تخلّى عنه، هل كان يحق له أن يسأل أيَّة آمال سيمنِّي نفسه بها؟ لأجل هذا السبب فالتلاميذ كممثلين لمن هم في حالة شبيهة بهم، من جهة أنهم لم يتركوا سوى القليل قالوا: ” هانحن قد تركنا كل شيء وتبعناك”.
كما يلزم أن نلاحظ هذا أيضًا أنه لدى التأمل بطريقة صحيحة، فإننا نجد أن ألم التخلِّي هو نفسه سواء أكان التخلّي هو عن كثير أو عن قليل. هلّموا كي نرى المغزى الحقيقي للأمر بمثال بسيط. لنفترض أنه كان على رجلين أن يقفا عريانين، وفي فعلهما هذا نزع الواحد منهما عن نفسه ثيابه الغالية الثمن، بينما الآخر خَلَعَ فقط ما كان رخيصًا وسهل الاقتناء، ألاّ يكون ألم التعّري واحدًا في الحالتين؟ هل يمكن أن يكون هناك شك حول هذه النقطة؟ لذلك بقدر ما أن الأمر إنما يتعلّق بالطاعة والنيّة الحسنة، يلزم أن يوضع هؤلاء الفقراء على قِدَم المساواة مع الأغنياء، الذين رغم أن ظروفهم تختلف، لكن كان لهم استعداد متساوي وقبلوا برضا بيع كل ما لهم. كذلك أيضًا الحكيم جدًّا بولس الرسول تبنَّى قضيتهم عندما كتب هكذا: ” لأنه إن كان النشاط موجودًا فهو مقبول على حسب ما للإنسان لا على حسب ما ليس له” (2كو 12:8).
لذلك فإن تساؤل الرُسل الأطهار لم يكن غير معقول. إذن ماذا قال لهم المسيح الذي لا يأخذ بالوجوه؟ ” الحق أقول لكم إن ليس أحد ترك بيوتًا أو إخوة أو أولادًا أو والدين من أجل ملكوت الله إلاّ ويأخذ في هذا الزمان أضعافًا كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية”. هذا إعلان يليق بالله، وقرار مقدَّس يستحق الإعجاب، بل لاحظوا كيف أنه رفع كل السامعين إلى رجاء أكيد، واعدًا ليس فقط بملء العطيّة السخيّة التي تُغدَق على القدِّيسين، بل أيضًا مثبتًا وعده بقَسِمَ، إذ بدأ إعلانه باستعمال كلمة ” الحق”، والتي، إن جاز القول، تؤدي دور القسم. وهو لم يكتفِ بأن ينال وعوده أولئك الذين احتقروا المال، بل أيضًا أولئك الذين تركوا أبًا أو أمًا أو زوجة أو إخوة لأجل ملكوت الله، وقال إنهم سوف يأخذون أضعافًا كثيرة في هذا الدهر، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية. أما كون أن أولئك الذين يعيشون حياة فاضلة ينالون بالضرورة الحياة الأبدية، فهذا أمر ليس فيه أي شك على الإطلاق. لكن يوجد أولاً سؤال ضروري بخصوص مَنْ هم الذين تركوا أبًا وأمًا وزوجة وإخوة وبيوتًا. وثانيًا أيضًا يجب أن نفحص فحصًا دقيقًا ما هي الطريقة التي سوف ينال بها من يفعلون هذا، أضعافًا كثيرة في هذا العالم.
يترك بعض الناس الأب والأم والزوجة والإخوة وكثيرًا ما يَعَتبَرون العاطفة الطبيّعية التي توجبها روابط القرابة كلا شيء لأجل محبة المسيح، والمسيح يعلّمنا بأية طريقة يفعلون هذا بقوله مرة: “من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنه أكثر مني فلا يستحقني” (مت37:10)، كما قال في مرة أخرى: ” لا تظنوا إني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنه ضد حماتها” (مت 34:10 و35).
أن رسالة الإنجيل الإلهية عندما تصطاد العالم كله كأنه في شبكة؛ إلى الإيمان به وترفعه إلى نور معرفة الله، فيوجد هناك من يدخلون بسرعة، ولكن البعض يُقاسون من خزي مهين إذ يكونون خائفين سواء من آبائهم أو من أمهاتهم، ويعطون اعتبارًا عظيمًا لغضبهم أو حزنهم، لأنه إن كان هؤلاء الوالدون غير مؤمنين، فلن يوافقوا على أن أولادهم أو بناتهم يسلّمون ذواتهم لخدمة المسيح، ويتخلّون عن الضلال الذي تربوا عليه والذي صار أمرًا اعتياديًا بالنسبة لهم (أي عبادة الأوثان). وأحيانًا عندما يكون الأبناء غير مؤمنين ويتخذون موقفًا عدائيًا (من المسيح) فإنه لا يكون لآبائهم الشجاعة لأن يغيظوهم بأن يسرعوا إلى الإيمان، ويمسكوا بالخلاص الذي بالمسيح. ويمكن أيضًا أن يُعطي نفس التفسير من جهة الإخوة مع الإخوة والكنه مع حماتها والحماة مع كنتها. أما الأقوياء في الذهن الذين لا يفضلون شيئًا على محبة المسيح فإنهم يمسكون بالإيمان بغيرة ويحاولون باجتهاد أن يدخلوا إلى بيت الله من خلال العلاقة الروحية، ولا يعيرون انتباهًا للحروب أو بالأحرى الانقسامات التي سوف تترتب على إيمانهم، مع أقربائهم حسب الجسد، وبهذه الطريقة يترك بعض الناس البيت والأقرباء لأجل المسيح لكي يربحوا اسمه (انظر مت 29:19) ويُدعوا مسيحيين، أو بالأحرى لأجل مجده، لأن اسمه كثيرًا ما يعني مجده.
وبعد ذلك دعونا نرى بأية طريقة ينال الذي يترك بيتًا أو أبًا أو أمًا أو إخوة بل وربما زوجته، أضعافًا كثيرة في هذا الزمان الحاضر. هل هو سوف يصير زوجًا لزوجات كثيرات أم سوف يجد على الأرض آباء كثيرين بدلاً من أب واحد وهكذا يتضاعف عدد أقربائه الأرضيين؟ ليس هذا هو ما يقوله، بل بالأحرى هو أنه بالتخلّي عن هذه الأشياء الزمنيّة والجسديّة فإنه سوف ينال ما هو أعظم جدًّا في قيمته، أي سوف ينال أضعاف المرّات ما صُرف النظر عنه. ولنأخذ من فضلكم الرسل الأطهار كأمثلة لنا، فنقول عنهم إنهم كانوا أشخاصًا غير متميّزين بحسب المركز الدنيّوي، ولم تكن لهم مهارة في الفصاحة وفي الإلقاء، وليس لهم لسان بليغ ولا كلمات فخمة بل بالعكس كانوا غير مدرّبين على الكلام وبحسب المهنة كانوا صياّدي سمك، وكانوا يقتاتون من تعبهم. لكن كل ما كان لهم قد تركوه كي يكونوا ملازمين للمسيح دائمًا وخدامًا له ولم يستطع أي عائق أن يعيقهم أو يجتذبهم بعيدًا في انشغالات أخرى أو مطالب دنيّوية. وإن كانوا قد تركوا كل شيء، فما الذي ربحوه؟ نعم لقد امتلئوا من الروح القدس، ونالوا سلطانًا على الأرواح النجسة ليخرجوها وصنعوا معجزات، حتى إن ظِلْ بطرس كان يشفي المرضى، وصاروا بارزين بين الناس في كل مكان، متقدّمين في المجد، وجديرين بالاقتداء (بهم)، وصاروا مشهورين وهم أحياء، وكذلك فيما بعد (انتقالهم)، لأنه مَنْ هو الذي لا يعرف أولئك الذين علَّموا العالم سّر المسيح؟ من لا يعجب من إكليل المجد الذي وُهِبَ لهم؟
لكن ربما تقول: ” هل يلزم أن نصير كلنا مثلهم؟ على هذا السؤال نجيب أن كل واحد منّا أيضًا نحن الذين آمنا بالمسيح وأحببنا اسمه، إن كنا قد تركنا بيتًا ننال المنازل التي فوق وإن كنا قد تركنا أبًا فسوف نربح ذلك الآب الذي في السموات. وإن كان أحد قد تُرك من إخوته فسوف يقبله المسيح أخًا له، وإن ترك زوجة فستكون الحكمة التي تنزل من فوق من عند الله هي رفيقته في البيت. لأنه مكتوب: ” قل للحكمة أنتِ أختي وأجعل الفهم صديقك” (أم 4:7 س)، وبواسطتها سوف تثمر ثمارًا روحيّة جميلة، وبواسطتها سوف تصير شريكًا في رجاء القديسين وتنضم إلى رفقة الملائكة. ومع أنك تركت أمك، فسوف تجد أمًا أخرى أروع بما لا يُقاس، أي أورشليم العليا التي هي حرّة وهي أمنا جميعًا (غل 26:4).
فكيف لا تكون هذه الأشياء مضاعفة جدًّا أكثر من تلك التي تُركْت، لأن تلك التي تُرِكَتْ هي مؤقتة وسريعة الزوال وتتلف بسهولة! لأنها كالندى وكالحلم هكذا تزول. أما الذي يُحسب أهلاً لهذه الأمور الأبدية فهو يصير لامعًا حتى في هذا العالم بل ويغارون منه بسبب أنه يكون مزينًا بالمجد أمام الله والناس.
لذلك فإن هذه الأشياء هي مضاعفة جدًّا عن كل ما هو أرضَيّ وجسدّي. والذي يعطيها لنا هو ربنا ومخلّصنا جميعًا الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.