Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية – إنجيل لوقا 18 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية – إنجيل لوقا 18 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية – إنجيل لوقا 18 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو18:18ـ27): ” وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ: أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ. فَقَالَ: هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: يُعْوِزُكَ أَيْضًا شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ حَزِنَ لأنهُ كَانَ غَنِيًّا جدًّا. فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ قَالَ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!. لأن دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!. فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا: فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟. فَقَالَ: غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ “.

الذين يؤمنون أن الكلمة الذي أشرق من جوهر الله الآب نفسه هو الله بالطبيعة وبالحق؛ فإنهم يقتربون إليه كما إلى إله كليّ المعرفة، وهو كما يقول المرنَّم: ” فاحص القلوب والكلى” (مز 9:7) ويرى كل ما يجري في داخلنا لأن كل شيء عريان ومكشوف أمام عينيه (عب 13:4) بحسب تعبير بولس الطوباوي. ولكننا لا نجد جموع اليهود يميّلون إلى هذا لأنهم مع رؤسائهم ومعلّميهم كانوا في ضلال، ولم يروا بعيون أذهانهم مجد المسيح بل نظروا إليه بالحري كواحد مثلنا أقصد كمجرد إنسان وليس بالحري الله الذي قد صار إنسانًا، لذلك فإنهم تقدَّموا إليه ليجرّبوه وينصبوا له فخاخ مكرهم وهذا يمكنكم أن تتعلمّوه مما قد قُرئ الآن. لأنه يقول: ” وسأله رئيس قائلاً: أيها المعلّم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلاّ واحد وهو الله”. والآن فذلك الذي يُدعى هنا رئيس والذي تخيّل في نفسه إنه عَالِم بالناموس، والذي افترض أنه قد تعلّمه بدقة، تخيّل أنه يستطيع أن يتهّم المسيح باحتقار الوصية التي نطق بها موسى الحكيم جدًّا، وبأنه يُدخل شرائع أخرى من عنده لأن هدف اليهود كان أن يثبتوا أن المسيح عَارَضَ وقَاوَمَ الوصايا السابقة بقصد أن يؤسِّس ـ كما قلت ـ وصايا جديدة بسلطانه الخاص تتعارض مع تلك الوصايا الموجودة سابقًا، حتى يكون لمعاملتهم الشرّيرة نحوه حجة خادعة. لذلك تقدم (الرئيس) وتظاهر بالتكلّم بلطف لأنه دعاه معلّمًا ونعته بالصالح، فأفصح عن رغبته في أن يكون تلميذًا، إذ يقول: ” ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية “. لاحظوا كيف أنه خلط التملّق مع الغش والخداع كمن يخلط المُرّ مع العسل، لأنه ظن أنه بهذه الطريقة يمكنه أن يخدعه. وعن مثل هؤلاء الناس قال واحد من الأنبياء القديسين: ” لسانهم رمح نافذ، كلمات أفواههم غاشة، يكلِّم صاحبه بسلام، لكن توجد عداوة في نفسه” (إر 8:9 س). وعلى هذا النحو أيضًا يتكلّم عنهم المرنم الحكيم ويقول: ” فمهم مملوء لعنة ومرارة ” (مز 7:10 س)، وأيضًا: ” كلماتهم ألين من الزيت وهي سيوف مسلولة” (مز 21:55).
لذلك تملّق الرئيس يسوعَ وحاول أن يخدعه فتظاهر أنه يتخذ موقفًا متعاطفًا معه، ولكن بماذا أجاب العالِم بكل شيء وهو كما هو مكتوب: ” الآخذ الحكماء بمكرهم” (أى 13:5)، ” لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحد صالحًا إلاّ واحد وهو الله”. ها أنت ترى كيف برهّن المسيح أن ذلك الرجل ليس حكيمًا ولا متعلّمًا رغم أنه رئيس مجمع اليهود وكأنه يقول له: ” إن كنت لا تؤمن أنني أنا الله ورداء الجسد قد جعلك تضّل، فلماذا تدعوني بأوصاف تليق فقط بالطبيعة الفائقة (الإلهية) وحدها، بينما أنت لا تزال تفترض أنني مجرد إنسان مثلك ولست فائقًا على حدود الطبيعة البشرية؟” فإن صفة الصلاح بالطبيعة توجد في الطبيعة التي تفوق الكّل، أي في الله فقط وهو (الصلاح) الذي لا يتغيّر؛ أما الملائكة ونحن الأرضيون فنكون صالحين بمشابهتنا له أو بالحري باشتراكنا فيه. فهو الكائن الذي يكون، وهذا هو اسمه (انظر خر 14:3 و15) وذكره الدائم إلى كل الدهور؛ أما نحن فإننا نوجد ونأتي إلى الوجود بأن نصير مشتركين في مَنْ هو كائن حقًا، لذلك هو صالح حقًا أو هو الصلاح المُطلق، أما الملائكة والبشر ـ كما قلت ـ هم صالحون فقط بصيرورّتهم مشتركين في الإله الصالح لذلك فلنضع الصلاح على أنه الصفة الخاصة بالله وحده الذي فوق الكّل. وهو متصل جوهريًا بطبيعته وهو صفته الخاصة. وكأنه يقول له: ” فإن كنت لا أبدو لك أنني الله حقًا، فأنت قد نسبتَ إلىَّ عن جهل وحماقة الخصائص والفضائل التي للطبيعة الإلهية، في نفس الوقت الذي تتخيّل إنني مجرّد إنسان أي من لم يلبس الصلاح أبدًا، ولا صفة الطبيعة غير المتغيّرة، بل يحصل على الصلاح فقط بموافقة الإرادة الإلهية “. إذن فهذا هو مغزى ما قاله المسيح.
لكن ربما لا يوافق على صحة هذا الشرح أولئك الذين فسدت أذهانهم بمشاركتهم لشر آريوس ، لأنهم يجعلون الابن أقل من الله الآب في السمو والمجد، أو بالأحرى هم يجادلون بأنه ليس هو الابن، لأنهم لفظوه عن أن يكون إلهًا بالحق وبالطبيعة، بل واستبعدوه عن أن يكون قد وُلد حقًا، لئلا يؤمن الناس أنه مساوي حقًا في الجوهر لمن وَلَده، لأنهم يؤكدون ـ كما لو أنهم حصلوا على مبرّر لتجدّيفهم ـ من الفقرة الموجودة أمامنا الآن فيقولون: ها هو قد أنكر بوضوح وبصريح العبارة أنه صالح، وأفرز الصلاح جانبًا على أنه خاص بالله الآب فقط، ولكن مادام (الابن) هو بالحق مساوٍ للآب في الجوهر وقد خرج منه بالطبيعة، فكيف لا يكون هو أيضًا صالحًا إذ هو الله؟ إذًا فلتكن هذه هي إجابتنا على الذين يقاوموننا، حيث إن كل تفكير صحيح ودقيق إنما يعترف أن الابن له نفس جوهر أبيه، فكيف لا يكون صالحًا وهو إله؟ إذ لا يمكن إلاّ أن يكون إلهًا مادام له نفس الجوهر مع مَنْ هو بالطبيعة الله. لأنهم بالتأكيد، مهما كانت الجسارة التي سقطوا فيها شديدة فلن يقدروا أن يثبتوا أنه من أب صالح خرج ابن غير صالح. وعندنا على هذا شهادة المخلِّص نفسه الذي قال: ” لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا ردية” (مت 18:7). فكيف يخرج نبت رديء من جذر صالح، أو كيف يمكن أن يتدّفق نهر مر من نبع عذب؟ هل كان هناك أبدًا وقت ما لم يكن فيه الآب موجودًا بينما نحن نعرف إنه هو الآب الأزلي؟ وهو آب لأنه قد وَلَدَ، ولهذا السبب فهو يحمل هذا الاسم (آب)، وهو لم يحمل هذا الاسم مثل من يستعير هذا اللقب بتشبهه بشخص آخر، لأن منه تسمَّى كل أبوة في السماء وعلى الأرض ‎‎(انظر أف 15:3). لذلك فنحن نخلص إلى أن ثمرة الإله الصالح هي الابن الصالح.
وبطريقة أخرى، كما يقول بولس الحكيم جدًّا: ” هو صورة الله غير المنظور” (كو 15:1)، وهو الصورة لأنه يُظهِر في طبيعته الخاصة جمال ذاك الذي ولده، فكيف يمكننا إذن أن نرى في الابن ـ إن كان غير صالح ـ الآب الذي هو صالح بالطبيعة وبالحق؟ إن الابن هو بهاء مجد الآب ومثال شخصه (انظر عب 3:1)، ولكن لو لم يكن صالحًا، كما يقول الهراطقة العديمو الفهم، بينما الآب هو صالح بالطبيعة فسيكون البهاء مختلفًا في طبيعته، ولن يملك جلال ذلك الذي جعله يضيء. كذلك الشبه أيضًا سوف يكون مزّيفًا أو بالأحرى لا يوجد شبه على الإطلاق، لأنه لن يُمثِّل مَنْ هو على شبهه ويترّتب على هذا أن ما ليس هو صالحًا يكون مضادًا لما هو صالح.
يمكنني أن أقول الكثير ضد (الهراطقة) في هذه النقطة، ولكن لكي لا يمتد حديثنا بطريقة غير معقولة، ولا يكون عبئًا على أحد، فلن نقول المزيد في الوقت الحاضر ونمسك كما بلجام حميتنا في هذا الموضوع، لكن في لقائنا القادم سوف نكمِّل شرحنا لمعنى هذه الفقرة من الإنجيل إن شاء المسيح أن يجمعنا هنا سويًا مرة أخرى، هذا الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.

 

كيف يخلص الغني

أراكم وقد اجتمعتم هنا باجتهاد وغيّرة عظيميّن، وكما أظن فإنكم قد جئتم لتطلبوا لكي تأخذوا ما هو لكم. وأنا من جهتي أعترف أنني وعَدْتُ في اجتماعنا الأخير أن أستكمل ما كان ناقصًا في حديثي؛ وأنا قد أتيت لأوفي ما عليَّ كما لأولادي، متوّسلاً إلى المسيح مخلّصنا جميعًا أن يمنح نوره الإلهي لذهني ويعطي نطقًا للساني لكي ما انتفع أنا وأنتم معًا. لأن بولس كتب يقول: ” يجب أن الحراث الذي يتعب يأكل هو أولاً من الأثمار” (2تي 6:2).
لذلك دعوني أولاً أن أذكِّركم بكل ما سبق أن تأملنا فيه، وبعد ذلك نتقدَّم لنكمِّل ما تبقى.
فقد قال الإنجيلي الطوباوي: ” وسأله رئيس قائلاً أيها المعلّم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له لماذا تدعوني صالحًا ليس أحد صالحًا إلاّ واحد هو الله “، وهكذا إلى ما تبقى من الدرس. لقد سبق لنا أن شرحنا معنى هذه الفقرة في الإنجيل، وقيل لكم ما فيه الكفاية حول تلك النقطة، لأننا أوضحنا أن الابن صالح بالطبيعة وبالحق مثل ذاك الذي وَلَده؛ وأن الجواب: ” لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلاّ واحد هو الله “، قيل بشكل نسبّي للسائل. لذلك هيّا بنا لنفحص الآيات التي تلي ذلك من الإنجيل.

إذن، ماذا يقول رئيس مجمع اليهود؟ ” ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟” إنه لا يسأل بقصد أن يتعلَّم، وإلاّ لكان سؤاله جديرًا بكل ثناء، ولكن قصده هو أن يبرهن أن المسيح لم يسمح لهم أن يحتفظوا بوصايا موسى، بل بالأحرى قاد تلاميذه وأتباعه إلى قوانين جديدة اشترعها من نفسه، لأن رؤساء اليهود بهذا الإدعاء علَّموا الشعب الذي تحت سلطانهم قائلين عن المسيح مخلّصنا كلنا: ” به شيطان وهو يهذي، لماذا تستمعون له؟” (يو 20:10)، لأنهم قالوا إن به شيطان وهو يهذي، بافتراض أنه أقام شرائعه الخاصة ضد تلك التي أُعطيت لهم من فوق من الله (بواسطة موسى). وبالحري ينبغي أن نؤكد أنهم هم الذين كان بهم شيطان وكانوا يهذون بشدة، لأنهم يقاومون رب الناموس، الذي جاء لا لكي ينقّض الوصّية التي أعطيت في القديم، بواسطة خدمة موسى، بل لكي يتمّمها، بحسب كلماته هو نفسه (مت 37:5)، لأنه حوَّل الظل إلى حقيقة.

توقع رئيس المجمع أن يسمع المسيح كأنه يقول: ” كُف، أيها الإنسان عن كتابات موسى، تخلّى عن الظّل، إنها كانت مجرد مثالات وليس أكثر، اقترب بالأحرى من وصاياي التي في الإنجيل”. لكنه لم يجبه هكذا، لأنه ميَّز بمعرفته الإلهية هدف ذلك الذي يجرّبه، ولكن لأنه ليس عنده وصايا أخرى سوى التي أُعطيت بواسطة موسى، فإنه وجَّه الرجل إليها قائلاً له: ” أنت تعرف الوصايا”. ولئلا يقول الرئيس إن المسيح حوّله إلى وصاياه الخاصة، عدَّد له تلك الوصايا التي في الناموس وقال له: لا تقتل، لا تزن، لا تشهد بالزور. وما هو الجواب الذي أجاب به هذا المخادع الماكر ومدبِّر المكائد، أو بالأحرى هذا الشخص الجاهل جدًّا والأحمق؟ لأنه ظن أنه حتى ولو كان الذي يسأله هو الله، فإنه يمكنه مع ذلك أن يتملّقه بسهولة ليجيّب بحسب رغبته، لكن كما يقول الكتاب المقدس: ” الإنسان المخادع لا يربح ” (انظر أم 27:12 س).
ورغم أنه صوَّب سهمه بعيدًا عن هدفه وفقد فريسته، لكنه تجاسر على أن ينصب له فخًا آخر، لأنه قال: هذه كلها حفظتها منذ حداثتي. لذلك فهو يستحق أن يسمع منا هذا الجواب: أيها الفريسي الأحمق: ” أنت تشهد لنفسك. شهادتك ليست حقًّا” (يو 13:8)، ولكن لنترك الآن هذا الجدل، ولنرَ بأيّة طريقة صدَّ المسيح عدوه اللدود والخبيث. فبينما كان يمكنه أن يقول: ” طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات، طوبى للودعاء، طوبى لأنقياء القلب” (مت 3:5ـ8) فإنه لم يقل له شيئًا من هذا القبيل، لكن لأن الفريسي كان محبًا للمال وكان غنيًا جدًّا، فقد انتقل المسيح في الحال لِما سوف يحزنه وقال له: ” بع كل ما لك ووزّع على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني”. كان هذا (الكلام) مصدر عذاب وألم لقلب ذلك الإنسان الجشع الذي كان يتباهى بنفسه بسبب حفظه للناموس، وهذا برهّن على أنه هشّ وضعيف أيضًا وهو عمومًا غير مستّعد لتقبّل رسالة الإنجيل الجديدة. ونحن أيضًا نتعلّم كم هو حق ما قاله المسيح: ” لا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تنشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة” (مت 17:9)، لأن رئيس المجمع برهن أنه ليس سوى زّق عتيق لا يمكنه أن يحفظ الخمر الجديد، بل ينشق ويصير عديم الفائدة، ذلك لأنه حزن مع أنه نال درسًا كان يمكن أن يجعله يربح الحياة الأبدية.
أما أولئك الذين قبلوا في داخلهم، بالإيمان، ذلك الذي يجعل كل الأشياء جديدة، أي المسيح، فإنهم لا ينشقون إلى نصفين بنوالهم الخمر الجديدة منه. لأنهم حينما اقتبلوا منه رسالة الإنجيل التي تبهج قلب الإنسان، ارتفعوا فوق الغنى ومحبة المال، وتّوطد ذهنهم في الشجاعة، ولم يقيموا وزنًا للأشياء الوقتيّة بل بالأحرى عطشوا إلى الأمور الأبدية، وأكرموا الفقر الاختياري، وكانوا مجتهدين في محبتهم للإخوة. لأنه كما هو مكتوب في أعمال الرسل القديسين: ” لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزَّع على كل أحد كما يكون له احتياج” (أع 34:4 و35).

أما رئيس المجمع فلأنه كان ضعيفًا جدًّا في عزمه، ولم يستطع أن يذعن لسماع نصيحة بيع مقتنياته، رغم أنها كانت ستكون لخيره ولها مكافئة جزيلة، فإن ربنا كشف المرض الذي كان يربض داخل قلب الرجل الغنى وقال: ” ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب أبره أيسر من دخول غني إلى ملكوت الله”. ولا يقصد المسيح بالجمل هنا ذلك الحيوان، إنما ذلك الحبل الغليظ، لأنها كانت عادة أولئك المتمرّسون أن يسّموا الحبل الغليظ جملاً.
لكن لاحظوا أنه لم يقطع تمامًا رجاء الأغنياء بل حفظ لهم موضعًا وطريقًا للخلاص، لأنه لم يقل إنه يستحيل على الغني أن يدخل بل قال إنه يمكنه إنما بصعوبة.
عندما سمع التلاميذ الطوباويون هذه الكلمات اعترضوا قائلين: فَمَنْ يستطيع أن يَخْلُص؟ وكان احتجاجهم لصالح أولئك الذين لهم أموال ومقتنيات، لأنهم (التلاميذ) كانوا يقولون: إننا نعرف أن لا أحد سيقتنع بأن يتخلّى عن ثروته وغناه، فمن يستطيع أن يَخْلُص؟ لكن بماذا أجاب الرّب؟ ” غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله”. لذلك فقد احتفظ لأولئك الذين يقتنون ثروات، بالإمكانية أن يُحسبوا مستحقين لملكوت الله لو أرادوا، لأنه حتى ولو كانوا يرفضون كلية التخلّي عما هو لهم، لكن يمكنهم أن يبلغوا تلك الكرامة بطريقة أخرى. والمخلّص نفسه أظهر لنا كيف وبأي طريقة يمكن أن يحدث هذا إذ قال: ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو 9:16). لأنه لا يوجد شيء يمنع الأغنياء لو أرادوا أن يجعلوا الفقراء شركاء ومقاسمين لهم في الغنى الوافر الذي يمتلكوه. ما الذي يعيق من له مقتنيات وافرة من أن يكون لطيف المعشر ومستعد أن يوزّع على الآخرين مسرعًا إلى العطاء، وأن يكون رؤوفًا وممتلئًا بتلك الشفقة الكريمة التي ترضي الله. إننا سوف نجد أن الحرص على تتمّيم هذا العمل ليس هو بلا مكافأة ولا عديم النفع، لأنه مكتوب: ” الرحمة تفتخر على الحكم” (يع 13:2).
لذلك فإن مخلّصنا وربنا كلنا، يهبنا ما يفيدنا بكل حجة وبكل طريقة، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.

ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية – إنجيل لوقا 18 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

Exit mobile version