مثل الفريسي والعشار – إنجيل لوقا 18 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
مثل الفريسي والعشار – إنجيل لوقا 18 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
مثل الفريسي والعشار – إنجيل لوقا 18 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو9:18ـ14):” وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أنهُمْ أَبْرَارٌ وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هَذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ. أَقُولُ لَكُمْ أن هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ لأن كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ”.
يا مَنْ تحبون التعليم وتتوقون إلى الإصغاء، اقبلوا مرّة ثانية الكلمات المقدَّسة، وأبهجوا أنفسكم بعسل الحكمة، لأنه هكذا هو مكتوب: ” الكلمات الحسنة شهد عسل، وحلاوتها شفاء للنفس” (أم 24:16 س). لأن عسل النحل حلو جدًّا وينفع نفس الإنسان بطرقٍ كثيرة أما العسل الإلهي الخلاصي فيجعل أولئك الذين يستقر فيهم ماهرين في كل عملٍ صالح ويعلّمهم طرق التقدُّم الروحي، لذلك هلّموا كما قلت نقبل ثانية في الذهن والقلب كلمات المخلّص لأنه يعلّمنا بأي طريقة ينبغي أن نقدِّم طلباتنا إليه حتى لا يكون فعل الصلاة بلا مكافأة لمن يمارسونه ولكي لا يثير أحد غضب الله المانح العطايا من الأعالي بطلبه الأشياء التي يتخيّل أنه سوف ينال منها بعض المنفعة، لأنه مكتوب: ” قد يكون بارٌ يهلك في بره” (جا 15:7).
أتوسَّل إليكم أن تنظروا شاهدًا على هذا مُصوَّرًا بوضوح في المَثَل الموضوع أمامنا. إنسان صلَّى وأُدين لأنه لم يقدِّم صلاته بحكمة، لأنه يقول: ” إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا واحد فريسي والآخر عشار”. وهذا يلزمنا أن نعجب بالترتيب الحكيم للمسيح مخلّصنا كلنا في كل ما يفعله ويقوله. لأنه بالمَثَل الذي سبقت قراءته علينا فإنه يدعونا إلى الاجتهاد إلى واجب تقديم الصلاة بلا انقطاع لأن الإنجيلي قال: ” وقال لهم أيضًا مَثَلاً في أنه ينبغي أن يُصلي كل حين ولا يُمل” (لو 1:18). لذلك ألحَّ عليهم أن يجتهدوا في الصلاة كل حين، ولكن كما قلت، لئلا بصلاتنا بمثابرة ولكن بدون تمييّز نُغضب من نتضّرع إليه، فإنه يعرض لنا بطريقة ممتازة بأية طريقة ينبغي لنا أن نكون مجتهدين في الصلاة، هو يقول:
” إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا”. أتوسل إليكم أن تلاحظوا هنا عدم المحاباة والنزاهة التامة التي للطبيعة التي لا تخطئ، لأنه يُسمي مَنْ كانا يصليان: ” إنسانان”، فهو لا ينظر إلى الغني أو القوة بل ينظر إلى التساوي الطبيعي بينهما ويعتبر كل الذين يسكنون على الأرض بشرًا، كما لا يختلفون في شيء بعضهم عن بعض، وماذا كانت إذن طريقة صلاتهما؟ يقول (النص): ” أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا: اللهّم أنا أشكرك إني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار”. واضحة تمامًا أخطاء الفريسي الكثيرة، أول كل شيء هو منتفخ وعديم الفهم لأنه امتدّح نفسه، مع أن الكتاب المقدس يصيح عاليًا: ” ليمدحك الآخر لا فمك، الأجنبي لا شفتاك” (أم 2:27 س). لكن يمكن للمرء أن يقول له عن حق: أيها السيّد الشريف لاحظ أن أولئك الذين يعيشون في ممارسة الأفعال الصالحة والمقدَّسة ـ كما يمكن للمرء أن يرى ـ هم غير مستعدين بالمرة أن ينصتوا لكلمات المداهنين، بل حتى وإن امتدحهم الناس، ففي الغالب يغطيّهم الخجل، كما يخفضون أبصارهم إلى الأرض ويلتمسون الصمت من أولئك الذين يمتدحونهم. أما هذا الفريسي الذي لا يستحي فإنه يمتدح نفسه ويمجدّها على أنه أفضل من الخاطفين والظالمين والزناة. ولكن كيف فات عليك أن كون الإنسان أفضل ممن هم أردياء لا يثبت بالضرورة وكأمر بديهي أنه يكون جديرًا بالإعجاب، بل حري بك أن تنافس أولئك الذين يفضلّونك، فإن هذا هو الأمر النبيل والمكرَّم والذي يُدخل الإنسان في مصاف الذين يُمدحون عن استحقاق.
لذلك يلزم ألاّ تتلّوث فضيلتنا بالخطأ، بل ينبغي أن تكون مخلصة وبلا عيب وخالية من كل ما يمكن أن يجلب لومًا. لأنه ما المنفعة في أن تصوم مرتين في الأسبوع إن كنت تفعل هذا (الصوم) فقط كمبّرر لجهلك وغرورك وتصير متكّبرًا وأنانيًا ومتشامخًا؟ أنت تعطي عُشر ممتلكاتك وتتباهى بهذا، لكنك من ناحية أخرى تثير غضب الله بإدانتك للناس عمومًا واتهامك للآخرين وأنت نفسك منتفخ رغم أنك لم تُكلّل بالشهادة الإلهية للبّر، بل على العكس تكدّس المديح لنفسك، إذ يقول النص: ” لأني لست مثل باقي الناس ” . أيها الفريسي هدئ نفسك ” وضع بابًا ومزلاجًا للسانك” (انظر مز 3:140 س). فأنت تكلِّم الله الذي يعرف كل الأشياء. انتظر حكم الديّان. ليس أحد من أولئك الماهرين في الكفاح يتوِّج نفسه، ولا ينال أحد الإكليل من ذاته بل ينتظر استدعاء الحَكَمْ. خفِّض من غلوائك لأن العجّرفة ملعونة ومكروهة من الله. لذلك فلأنك تصوم بذهن منتفخ، فبفعلك هذا لن تنتفع شيئًا وتعبك سيكون بلا مكافأة إذ خلطت الروث مع الطيب. بل حتى حسب ناموس موسى فالذبيحة التي بها عيب لا تصلح للتقديم لله. لأنه قيل له عن الغنم والبقر التي تُقدَّم ذبيحة ينبغي ألاّ يكون فيها عيب (انظر لا 21:22)، لذلك فحيث إن صومك مصحوبٌ بالكبرياء فيجب أن تتوقَّع أن تسمع الله يقول: ” ليس هذا صوم اختاره يقول الرب” (إش 5:58). أنت تقِّدم العشور لكنك بطريقة أخرى تُسيء لمن تكرّمه، بكونك تدين البشر عمومًا. هذا تصرف غريب عن الذهن الذي يخاف الله، لأن المسيح نفسه قال: ” لا تدينوا لكي لا تُدانوا، لا تقضوا على أحد فلا يُقضى عليكم” (لو 37:6). ويقول أيضًا واحد من تلاميذه: ” واحد هو واضع الناموس والديان، فلماذا تدين غيرك”؟ (انظر يع 12:4). لأن الإنسان ذا الصحة الجيّدة لا ينبغي أن يسخر من إنسان مريض بسبب أنه مُلقى وطريح الفراش، بل بالحري يخاف لئلا يصير هو نفسه ضحيّة لآلام مشابهة. ينبغي لمَنْ هو في معركة، ألا يمتّدح نفسه بسبب أنه أفلت من البليّة وغَيره سقط فيها، لأن ضعف الآخرين ليس موضوعًا مناسبًا لمدح أولئك الذين هُم في صحة جيدة، بل حتى وإن كان الإنسان في صحة قوّية أكثر من المعتاد فلا ينبغي أن ينال مجدًّا بسبب هذا. هذه هي إذا كانت حالة الفريسي المحّب لنفسه.
لكن ماذا عن العَشَّار؟ يقول الرَّب إنه وقف من بعيد بدون حتى أن يجرؤ أن يرفع عينيه إلى فوق. ها أنت تراه يمتنع عن كل جسارة في الكلام كَمَن ليس له حق في ذلك وهو مضروب بتأديبات الضمير، لأنه كان يخشى أن يراه حتى الله، بسبب إنه كان مُهمِلاً في نواميسه ويسلك حياة الخلاعة والفجور. ها أنت ترى أيضًا أنه يدين شقاء نفسه بواسطة تصرّفه الخارجي، لأنه بينما وقف الفريسي الأحمق متجاسرًا ومنتفخًا ورافعًا عينّيه بلا تردد وهو يشهد لنفسه ويتباهى، أما الآخر فكان يشعر بالخزي بسبب سلوكه، ويخاف من ديَّانه ويقرع صدره ويعترف بخطاياه، وكأنه يُظهر مرضه للطبيب ويتوسل طالبًا الرحمة، ماذا كانت النتيجة؟ لنسمع ما يقوله الديان: ” هذا نزل إلى بيته مبررًا دون ذاك”.
لذلك فلنصلِ بلا انقطاع بحسب تعبير بولس الطوباوي (1تس 17:5)، ولكن لنحرص على أن نعمل ذلك بطريقة صحيحة. إن محبة الذات لا ترضي الله، وهو يرفض الكبرياء الفارغة والنظرة المتشامخة والانتفاخ، بسب الأمور التي لا قيمة لها، بل حتى ولو كان الإنسان صالحًا ومتزنًا فلا ينبغي أن يسقط في كبرياء مخجلة، بل بالأحرى فليتذّكر المسيح الذي يقول لرسله القديسين: ” متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا” (لو 10:17). لأننا مديونون لله فوق الكّل بالضرورة أن نخدمه كعبيد وبطاعة مستعدة في كل الأمور. ورغم أنك تعيش حياة فائقة وممتازة فلا يجب أن تسأل من الرّب أجرة بل بالحري أن تطلب منه عطية، وهو لكونه صالحًا سوف يعطيك، وكأب محب سوف يساعدك، لذلك لا تمتنع عن أن تقول: اللهم ارحمني أنا الخاطئ، وتذكر من يقول على فم إشعياء: ” أظهر خطاياك أولاً لكي تتبرّر” (إش 26:43 س)، وتذكّر أيضًا إنه ينتهر من لا يفعلون هكذا، ويقول: “هاأنذا أحاكمك لأنك قلت لم أخطئ ” (إر 35:2)، افحص كلمات القديسين، لأن أحدهم يقول: ” البار يلوم نفسه في بداية كلامه” (أم 17:18 س)، وآخر يقول: ” قلت اعترف للرب بإثمي وأنت غفرت لي إثم قلبي ” (مز 5:31 س).
فبماذا سوف يجيب عن هذا أولئك الذين يتبنّون آراء نوفاتوس الجديدة ويقولون عن أنفسهم إنهم أنقياء؟ أية صلاة يمتدحون؟ هل صلاة الفريسي الذي برَّأ نفسه أم صلاة العشار الذي أدان نفسه؟ فإن قالوا إنها صلاة الفريسي، فإنهم يقاومون الحكم الإلهي لأن (الفريسي) قد أُدين كمتكّبر. ولكن إن قالوا إنها صلاة العشار، فلماذا يرفضون الاعتراف بعدم نقاوتهم؟ إن الله يبّرر بالتأكيد من يعرفون تعدياتهم جيدًا وهم مستعدون للاعتراف بها، أما أولئك الناس (النوفاتيون) فسيكون لهم نصيب الفريسي.
لذلك نقول: ” إننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا” (يع 2:3) ولا يوجد أحد خالٍ من دنس حتى ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض. إذن لنسأل الرحمة من الله، فإن فعلنا ذلك فإن المسيح سوف يبرّرنا، هذا الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.