أبحاث

الغني ولعازر – إنجيل لوقا 16 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

الغني ولعازر – إنجيل لوقا 16 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

الغني ولعازر – إنجيل لوقا 16 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

الغني ولعازر – إنجيل لوقا 16 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
الغني ولعازر – إنجيل لوقا 16 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو16: 19ـ31): ” كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأَُرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً. وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوبًا بِالْقُرُوحِ. وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضًا وَدُفِنَ. فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ. فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ارْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللهِيبِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي اذْكُرْ أنكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ وَكَذَلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ حَتَّى أن الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هَهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذًا يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي. لأن لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضًا إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ هَذَا. قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. فَقَالَ: لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ “.

عندما كان سليمان يقدّم صلواتٍ عن مملكته، فإنه قال لله في موضع ما: ” أعطني الآن حكمة، تلك الحكمة التي تسكن في عرشك” (انظر 2أي10:1). فمدحه بسبب رغبته الجادة في مثل هذه البركات، لأنه لا يوجد شيء أنفع للناس أكثر من العطايا المقدَّسة، وإحدى هذه البركات التي تستحق أن نقبلها ـ والتي تجعل أولئك الذين قد حُسبوا أهلاً لها كاملين في الغبطة؛ هي الحكمة التي يعطيها الله. لأن الحكمة هي بصيرة الذهن والقلب، ومعرفة كل ما هو صالح ونافع.
وإنه من واجبنا أيضًا أن نُفْـتَن بعطايا مثل هذه، حتى عندما نُحسب مستحقين لها فإنه يمكّننا أن نفهم كلمات المخلّص باستقامة وبدون خطأ لأن هذا نافع لنا لأجل تقدّمنا الروحي، ويقودنا إلى حياة بلا لوم وتستحق المديح. لذلك فإذ قد صرنا شركاء في الحكمة التي من فوق، هيّا بنا لنفحص معنى المَثَل الموضوع أمامنا الآن.
ومع ذلك، أظنه من الضروري أن نذكر أولاً ماذا كانت المناسبة التي قادته (المسيح) للكلام عن هذه الأمور، أو ماذا قصد أن يوضِّح وهو يصوِّر ويصف بطريقة رائعة المَثَل الموضوع أمامنا. لذلك فالمخلِّص كان يكمِّلنا في فن فعل الصلاح ويوصّينا أن نسلك باستقامة في كل عمل حسن، وأن نكون جادين في تزيين أنفسنا بالأمجاد التي تأتى من السلوك في الفضيلة. لأنه يريدنا أن نكون محبين ومستعدين للاتصال بعضنا مع بعض، مسرعين في العطاء، ورحومين، ومعتنين بعمل المحبة للفقراء. ومثابرين بشجاعة في تأدية هذا الواجب باجتهاد. وهو ينصح أغنياء العالم خاصة أن يكونوا حريصين على فعل هذا. ولكي يرشدهم إلى الطريق الذي يليق تمامًا بالقديسين، فإنه يقول: ” بيعوا أمتعتكم وأعطوا صدقة، اصنعوا لأنفسكم أكياسًا لا تبلى وكنزًا في السموات لا يفنى ” (لو 33:12). فالوصّية بالحقيقة صالحة وحسنة ومخلِّصة ومفيدة، ولكن لم يغب عن علمه أنه من المستحيل للغالبية أن يمارسوها. لأن ذهن الإنسان قد صار منذ القديم عاجزًا عن تأدية تلك الواجبات الثقيلة والصعبة، وأن التخلّي عن الثروة والممتلكات والمتع التي تعطيها، ليس أمرًا مقبولاً تمامًا لأي واحد يكون مغلفًا ومقيدًا كما بحبالٍ لا تنحل، تلك التي تربط الذهن بشهوة اللّذة.
ولأنه صالح ومحب للبشر، لذلك فإنه أمدّهم بمعونة خاصة لئلا يأتي بعد الثروة هنا، فقر أبدى لا نهاية له، ولئلا بعد ملذات الزمان الحاضر يأتيهم العذاب الأبدي. لذلك يقول لهم: ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو 9:16).
هذه إذًا هي نصيحة ذلك الذي يرشدهم إلى ما يمكنهم أن يعملوه لأنه يقول، إن كنتم لا تقتنعون بالتخلي عن الغنى الميّال للذة وتقتنعوا ببيع مالكم، وتقتنعوا بالتوزيع لمن هم في احتياج، فعلى الأقل اجتهدوا في ممارسة الفضائل الصغرى. ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم “، أي لا تعتبروا ثرواتكم هي ملك لكم وحدكم، بل ابسطوا أيديكم لأولئك المحتاجين وساعدوا الفقراء والمتألمين، عزوا أولئك الذين قد سقطوا في ضيق شديد، عزوا الحزانى، والمضغوطين بأمراض جسدية والمحتاجين للضروريات، وعزوا أيضًا القدِّيسين الذين يعتنقون الفقر الاختياري حتى يمكنهم أن يخدموا الله بدون ارتباك. إن فعلكم هذا لن يكون بغير مكافأة لأنه عندما تفارقكم الثروة الأرضية ببلوغكم إلى نهاية حياتكم، عندئذ فإن هؤلاء سيجعلونكم شركاء في رجائهم، وشركاء في العزاء المُعطى لهم من الله. ولأنه صالح ومتعّطف على البشر فإنه بمحبة وسخاء سوف يسكب فرحه على أولئك الذين تعبوا في هذا العالم، وخصوصًا أولئك الذين بحكمة واتضاع وهدوء، حملوا حمل الفقر الثقيل. ويقدّم بولس الحكيم نصيحة مماثلة لأولئك الذين يحيون في غنى ووفرة، من جهة أولئك الذين يعيشون في بؤس: ” لكي تكون فضالتكم لإعوازهم. كي تصير فضالتهم لإعوازكم” (2كو 14:8). ولكن هذه إنما هي نصيحة مَنْ يأمر ببساطة بما نطق به المسيح: ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم”، لكي بذلك تكون الوصية مستحقة جدًّا لإعجابنا.
ولكي يوضِّح أننا إن رفضنا أن نتصّرف هكذا فهذا سيؤدي إلى دمارنا، وسيهبط بنا إلى النار التي لا تُطفأ وإلى حسرة لا تنفع، فإنه يرسم لنا المَثَل الحاضر. لأنه يقول: ” كان إنسان غنى يلبس الأرجوان والبز وهو يتنعم كل يوم مترفهًا. وكان مسكين اسمه لعازر الذي طُرح عند بابه مضروبًا بالقروح”.
أرجوكم أن تلاحظوا هنا وأن تنتبهوا بدقة إلى كلمات المخلِّص، لأنه بينما كان سهلاً عليه أن يقول: ” كان هناك إنسان غنى اسمه كذا كذا، أي مَنْ كان، إلاّ أنه لا يقول هذا، بل يدعوه فقط ” إنسان غني”، بينما يذكر الإنسان المسكين بالاسم. ماذا نستنتج من هذا؟ إن هذا الإنسان الغني بسبب كونه غير رحوم، لم يكن له اسم في حضرة الله، لأنه قد قال في موضع ما بصوت المرتّل بخصوص أولئك الذين لا يخافونه: ” لا أذكر أسماءهم بشفتي” (مز 4:15 س)، بينما المسكين ـ كما قلت ـ يُذكر بالاسم بلسان الله. ولكن فلننظر إلى كبرياء الغني المنتفخ بأمور ليست لها أهمية حقيقية، إذ يقول إنه كان يلبس الأرجوان والبز، أي أن اهتمامه كان أن يتأنّق بملابس جميلة، وهكذا فإن ثيابه كانت ذات ثمنٍ غالٍ، وكان يعيش في ولائم مستمرة لأن هذا هو معنى ” يتنّعم كل يوم “، وبجانب هذا يضيف أنه كان ” يتنّعم مترفهًا” أي بإسراف. لذلك، فكل أبهة ذلك الإنسان الغنى كانت من أشياء من هذا القبيل كارتداء ملابس نظيفة ورقيقة، ومطرّزة بالبز، ومصبوغة بالأرجوان، لكي يلذِّذ عيون الناظرين، وماذا كانت النتيجة إنه لا يختلف إلاّ قليلاً عن الأشكال التي في التماثيل المنحوتة، والصور الزيتّية. فالذين يُعجبون بالرجل الغني هم عديمو الحس الخالون من المشاعر، وأما قلب الغني فمملوء بالكبرياء والعجرفة، ويفكر أفكارًا عالية ومنتفخة عن نفسه، ورغم أنه لا يملك في ذهنه أي امتياز، فإنه يجعل من الألوان المتدرّجة والمتنوّعة سببًا لكبريائه الفارغ. ولذته هي في الولائم الغالية، وفى الموسيقى والعربدة، وَلَديه عديد من الطهاة، الذين يجتهدون في إثارة النهم بالأطعمة المجهَّزة باهتمام كبير. والسقاة متزينّون بملابس مزخرفة، وعنده مغنون ومغنيّات وأصوات المتملقين. هذه هي الأشياء التي كان يعيش فيها الغني. إذ أن تلميذ المسيح يشهد لنا بهذا قائلاً: ” كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة” (1يو 16:2).
ويقول إنه في أثناء ذلك كان لعازر المضروب بالمرض والفقر، مطروحًا عند باب الغني، وكان الغني يسكن في قاعات عالية ومساكن واسعة فخمة البنيان، بينما كان المسكين مطروحًا، ملقىً هناك ومُهملاً ولا يُعطَى له أي اعتبار. وإذ كان محرومًا من أي شفقة أو عناية، كان يشتهي أن يجمع الفتات الساقط من مائدة الغني ليُشبِع جوعه .
كان المسكين علاوة على ذلك يتعذَّب من مرض خطير وعديم الشفاء، ويقول إن ” الكلاب تأتى وتلحس قروحه”، وإنها، كما يبدو، لم تأتِ لتؤذيه بل بالحري كأنها تتعاطف معه، وتعتني به، لأنها كانت تسَكِّن الآلام بألسنتها، وتزيل المعاناة المصاحبة لها، وتهدئ القروح وتلطّفها.
أما الغني فكان أكثر قسوة من الوحوش، لأنه لم يشعر بأي تعاطف مع المسكين أو أية شفقة عليه، بل كان مملوءًا من عدم الرحمة، وماذا كانت النتيجة؟ إن موجز المَثَل يعلّمنا الآتي، ولكنه أطول من أن أتحدّث عنه الآن. ولئلا يكون حديثي أكثر مما يلزم لمستمعيَّ، ومرهقًا فوق الطاقة لمَنْ يتحدَّث فإني أتوقف الآن لخيري وخيركم على أن أحّدثكم مرة أخرى عن هذه الأمور في اجتماعنا القادم إن منحني المسيح مخلِّصنا جميعًا المقدرة على فعل هذا، وهو الذي به ومعه لله الآب يحق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين .

 

(لو16: 19ـ 31)
يقدِّم إشعياء النبي المبارك في موضع ما، أولئك الذين بواسطة الإيمان بالمسيح تّم ربحهم للحياة، على أنهم يدعون ـ إن جاز التعبير ـ بعضهم بعضًا ويقولون: ” هلم نصعد إلى جبل الرب وإلى بيت إله يعقوب، فيعلِّمنا طريقه ونحن سنسلك فيها” (انظر إش 3:2). ونحن نؤكد أن الجبل المقصود هنا ليس هو أي جبل أرضّي، لأنه من الحماقة أن نتخيّل هذا، بل المقصود بالأحرى هو الكنيسة التي خلَّصها لنفسه. لأنها عالية وواضحة جدًّا للناس في كل موضع، وهى مُمجَّدة، لأنه لا يوجد فيها شيء يهبط بالناس إلى الأرض. لأن الذين يسكنون فيها لا يهتمون أبدًا بأي شيء من الأرضيات، بل بالأحرى يشتهون تلك الأشياء التي فوق، وكما يقول المرنِّم: ” لأنهم قد ارتفعوا جدًّا فوق الأرض” (مز 9:46 س)، بسبب شجاعتهم الكاملة وبسالتهم، ويسعون بلا توقف وراء كل ما يرضي الله.
ونحن نعتقد أنكم مثل هؤلاء، وأن رغبتكم الجادة في التعلُّم هي برهان واضح على هذا، لأنكم قد أتيتم طبعًا تطلبون تحقيق الوعد الذي أُعطي لكم؛ لكننا لم ننس ما وعدناكم به، ولكننا نوفي ديننا بأن نُضيف ما لا يزال ناقصًا من كلام إلى ما سبق أن قيل عن مثل لعازر والغني.
فالرب يقول: ” مات لعازر وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم ومات الغني أيضًا ودُفِنَ”. لاحظوا كلمات المخلِّص بعناية كبيرة، لأنه يقول عن المسكين إن الملائكة حملّته إلى حضن إبراهيم، ولكنه لم يقل شيئًا من هذا القبيل عن الغنّي، بل قال فقط إنه مات ودُفن. فإن أولئك الذين لهم رجاء في الله، يجدّون في رحيلهم من العالم خلاصًا من الكرب والألم. ويعلِّمنا سليمان أيضًا شيئًا مثل هذا بقوله: ” وفى ظن الناس يبدون أنهم (أي الأتقياء) يموتون، وأن خروجهم يُعتبر شقاء ورحيلّهم عنا ضياعًا، بينما هم في سلام، والرجاء في الخلود يملأهم” (حكمة 2:3ـ4).
إذ يُعطى لهم هناك قدر من العزاء يتناسب مع أعمالهم، أو ربما يفوق أتعابهم ويزيد عليها، لأن المسيح قال في موضع ما: ” كيلاً جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا سيعطون في أحضانكم” (لو 36:6). لأنه كما أن السفن التي تمخر في البحر تصمد أمام الأمواج العاتية وتقاوم عنف الرياح الشديدة، وفيما بعد عندما تصل إلى موانئ هادئة تصلح لراحتها، تكف هناك عن الاهتزاز. كذلك بنفس الطريقة أظن أن نفوس البشر، حينما تخرج من دوامة الأرضيات، فإنها تدخل في المنازل التي فوق، كما في ميناء خلاص.
وهو يقول إن لعازر حملته الملائكة القديسون إلى حضن إبراهيم. أما عن الغنّي فيقول إنه مات ودُفن، لأنه بالنسبة لذلك الغنّي الذي أظهر نفسه قاسيًا وعدّيم الرحمة، فإن الانفصال عن الجسد هو موت. فقد خرج من التنّعم إلى العذاب، ومن المجد إلى الخزي، ومن النور إلى الظلمة. هذه هي الأشياء التي كان على الغني أن يعانيها، وهو الذي كان شهوانيًا وبخيلاً وغير ميَّال للرحمة. وما كان يعذبه أكثر وهو في الجحيم أنه رأى لعازر في حضن إبراهيم؛ وتوسَّل إليه لكي يرسل نقطة ماء على لسانه لأنه كان معذّبًا كما في لهيب مستعر. فبماذا أجابه رئيس الآباء إبراهيم؟: ” يا ابني أذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا”. وكأنه يقول له: إنك كنت شغوفًا بهذه الأمور الزمنية، وكنت متسربلاً بالبز والأرجوان، وكنت متفاخرًا ومتكّبرًا، وكنت تصرف كل وقتك في ترف، وخصَّصت ثروتك لملذاتك وللمتملقين لك، ولم تتذّكر مرة واحدة المرضى والحزانى، ولم تشفق على لعازر عندما رأيته مطروحًا عند أبوابك. لقد كنت تراه يعاني من بؤس شديد، وكان فريسة لبلايا لا تُحتمل، لأنه كان مصابًا ببليتّين بآنٍ واحد، وكل واحدة أسوأ من الأخرى وهما: ألم قروحه الشديد، وعوزه إلى ضروريات الحياة. بل إن الحيوانات أراحت لعازر لأنه كان في ألم، وكانت الكلاب تلحس قروحه. ولكنك كنت قاسي القلب أكثر من الحيوانات. لذلك فأنت استوفيّت خيراتك في حياتك، ولعازر استوفى بلاياه، والآن هو يتعزّى وأنت تتعذّب، وكما يقول الكتاب المقدّس: ” الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة” (يع 13:2). فلو كنت قد قَبِلتَ لعازر ليكون شريكك في ثروتك لكنت الآن شريكًا له، ولكان قد أعطاك الله نصيبًا من عزاء لعازر، ولكنك لم تفعل هذا ولذلك أنت وحدك تتعذّب، لأن هذا هو العقاب المناسب لعديمي الرحمة، ولمن لا يشعرون بأي تعاطف مع المرضى. لذلك فلنصنع لأنفسنا أصدقاء بمال الظلم، ولننصت إلى موسى والأنبياء وهم يدعوننا إلى المحبة المتبادلة والموّدة الأخويّة، ليتنا لا ننتظر أن يعود أحد ممّن هم في الهاوية ليخبرنا بالعذابات التي هناك، إذ أن الكتاب المقدَّس صادق بالتأكيد، ونحن قد سمعنا أن المسيح سوف يجلس على كرسي مجده ليدين المسكونة بالعدل وأنه سوف يقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، وسوف يقول لِمْن هم عن يمينه: ” تعالوا يا مباركي أبى، رثوا الملك المُعد لكم قبل تأسيس العالم، لأني كنت جوعانًا فأطعمتموني، وكنت عطشانًا أيضًا فسقيتموني، وكنت عريانًا فكسوتموني، مسجونًا فأتيتم إلىَّ”. لكن لمن هم عن يساره سوف يقضي بدينونة ثقيلة قائلاً: ” اذهبوا إلى النار الأبدية المُعدة لإبليس وملائكته”، والتهمة الموجهة لهم هو أنهم فعلوا عكس ما قد امتدح القديسون من أجله تمامًا، ” لأني جعت فلم تطعموني، عطشت فلم تسقوني.. وبما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا” (انظر مت 31:25ـ45).
وربما يعترض البعض على هذا، ويقولون إنه توجد طرق كثيرة للحياة الحسنة، لأن الفضيلة متنوعة ومتعّددة، فلماذا حذف تلك الأنواع الأخرى، ويذكر فقط محبة الفقراء؟ نُجيب بأن هذا العمل هو أفضل من أي نوع آخر من أعمال الخير، لأنه يجعل في نفوسنا مماثلة لله وهذه المماثلة هي التي تُشكّلنا وتصوغنا حسب صورة الله، لأن المسيح أيضًا قال: ” كونوا رحماء كما أن أباكم الذي في السموات أيضًا رحيم” (لو 36:6). لأن من يسارع إلى إظهار الرحمة، وهو شفوق وعطوف، فهو يُحسب مع الساجدين الحقيقيين، لأنه مكتوب أن ” الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه، افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم” (يع 27:1). والحكيم بولس كتب أيضًا في موضع ما: ” ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع، لأنه بذبائح مثل هذه يُسرّ الله ” (عب 16:13)، فهو لا يحب بخور العبادة الناموسية بل يطلب بالأحرى عذوبة الرائحة الروحية الحلوة. ولكن الرائحة الروحية الحلوة لدى الله هي أن نُظهر شفقة تجاه الناس وأن نحتفظ لهم بالمحبة، وهذا أيضًا ما ينصحنا به بولس بقوله: ” لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلاّ بأن يحب بعضكم بعضًا” (رو 8:13)، فإن الشفقة على الفقراء هي وليدة المحبة.
لذلك هلّموا أيها الأغنياء كفوا عن اللّذة المؤقتة وجدّوا نحو الرجاء الموضوع أمامكم، اكتسوا بالرحمة والعطف، ابسطوا أيديكم لمن هم في احتياج، وأريحوا أولئك الذين هم في عوز، واعتبروا أحزان من هم في ضيق شديد هي أحزانكم ….

 

الغني ولعازر – إنجيل لوقا 16 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد