الأمين في القليل – إنجيل لوقا 16 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
الأمين في القليل – إنجيل لوقا 16 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
الأمين في القليل – إنجيل لوقا 16 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو16: 10 ـ 13): ” اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟. وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟. لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأنهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ “.
المعلِّمون الأكثر خبرة وامتيازًا عندما يرغبون في تثبيت أي تعليم هام في عمق أذهان تلاميذهم، فإنهم لا يغفلون أي نوع من التفكير يستطيع أن يلقي ضوءًا على الغرض الرئيسي لأفكارهم. فمرّة ينسجون الحجج معًا، ومرة أخرى يستخدمون أمثلة مناسبة، وهكذا يجمعون من كل حدب وصوب أي شيء يخدم غرضهم. وهذا ما نجد أن المسيح أيضًا يفعله في أماكن كثيرة، وهو الذي يعطينا كل حكمة. لأنه كثيرًا ما يكرّر نفس الحجج بعينها حول الموضوع أيًا كان لكي ما يُرشد ذهن سامعيه إلى الفهم لكلماته بدقة. لذا أتوسَّل إليكم أن تنظروا ثانية إلى مغزى الدروس الموضوعة أمامنا. لأنه هكذا ستجدون أن كلماتنا صحيحة، وهو يقول: ” الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضًا في الكثير”.
لكن قبل أن أسترسل، أعتقد أنه من المفيد أن نتأمل في ما هي مناسبة مِثَْل هذا الحديث، ومن أي أصل نشأ، لأن بهذا سيصير معنى الكلام واضحًا جدًّا. كان المسيح آنذاك يُعلِّم الأغنياء أن يشعروا ببهجة خاصة في إظهار الشفقة والعطف نحو الفقراء، وفى مد يدّ العون لكل من هم في احتياج، وهكذا يكنزون لهم كنوزًا في السماء، ويتفكرون مقدمًا في الغنى المُذخر لهم، لأنه قال: ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو 9:16). لكن إذ هو إله بالطبيعة، فهو يعرف جيدًا كسل الذهن البشرّى من جهة كل عمل جاد وصالح. ولم يغب عن معرفته، أن البشر في طمعهم في المال والثروة يسلِّمون ذهنهم لحب الربح، وإذ تتسلّط عليهم هذه الشهوة، فإنهم يصيرون قساة القلوب ولا يبدون مشاركة وجدانية في الألم، ولا يظهرون أي شفقة أيًّا كانت للفقراء رغم أنهم قد كدّسوا ثروات كثيرة في خزائنهم. لذلك فأولئك الذين يتفكرون هكذا ليس لهم نصيب في هبات الله الروحية، وهذا ما يظهره (الرب) بأمثلة واضحة جدًّا إذ يقول: ” الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضًا في الكثير “.
يا رب اشرح لنا المعنى، وافتح عين قلبنا. لذلك أنصتوا إليه بينما هو يشرح بوضوح ودقة ما قاله. ” إن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على الحق؟” (لو 11:16)، فالقليل إذن هو مال الظلم، أي الثروة الدنيوية التي جُمعت في الغالب بالابتزاز والطمع. أما مَنْ يعرفون كيف يعيشون بالتقوى، ويعطشون إلى الرجاء المكنوز لهم، ويسحبون ذهنهم من الأرضيات، ويفكّرون بالأحرى في الأمور التي فوق، فإنهم يزدرون تمامًا بالغنى الأرضي، لأنه لا يمنح شيئًا سوى الملذات والفجور والشهوات الجسدانية الوضيعة، والأبهة التي لا تنفع، بل هي أبهة مؤقتة وباطلة وهكذا يعلّمنا أحد الرسل الأطهار قائلاً: ” لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة” (1يو 16:2).
لكن مثل هذه الأشياء هي لا شيء بالمّرة لمن يحيون حياة رزينة وتقيّة، لأنها أشياء تافهة، ومؤقتة، ومملوءة بالنجاسة وتؤدى إلى النار والدينونة، ونادرًا ما تستمر إلى نهاية حياة الجسد، وحتى إن استمرت، فإنها تزول على غير توقع عندما يحّل أي خطر بأولئك الذين يمتلكونها. لذلك يوبخ تلميذ المسيح الأغنياء بقوله: ” هلّم الآن أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ وثيابكم قد أكلها العث ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما يكون شهادة عليكم” (يع 1:5ـ3). فكيف صدأ الذهب والفضة؟ بكونهما مخزونين بكميات هائلة، وهذا بعينه هو شهادة ضدهم أمام منبر الدينونة الإلهي، لكونهم غير رحومين، لأنهم جمعوا في كنوزهم كميات كبيرة لا يحتاجون إليها، ولم يعملوا أي اعتبار لمن كانوا في احتياج، مع أنه كان في استطاعتهم ـ لو هم رغبوا ـ أن يصنعوا خيرًا بسهولة لكثيرين، ولكنهم لم يكونوا أمناء في القليل.
لكن بأي طريقة يمكن للناس أن يصيروا أمناء؟ هذا ما علَّمنا إياه المخلِّص نفسه بعد ذلك، وأنا سأشرح كيف …
طلب أحد الفريسيين منه أن يأكل خبزًا عنده في يوم السبت، وقَبِلَ المسيح دعوته، ولما مضى إلى هناك جلس ليأكل، وكان كثيرون آخرون أيضًا مدعوين معه، ولم يكن أحد منهم تظهر عليه سمات الفقر، بل على العكس كانوا كلهم من الوجهاء وعلية القوم ومحبّين للمجالس الأولى ومتعطشين للمجد الباطل كما لو كانوا متسربلين بكبرياء الغنى. فماذا قال المسيح لمن دعاه: ” إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة، بل إذا صنعت ضيافة فادعُ المساكين الجدع والعرج والعمي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافئوك، لأنك تُكافئ في قيامة الأبرار” (لو 12:14ـ14). هذا هو إذن ما اعتقد أنه معنى أن يكون الإنسان أمينًا في القليل، أي أن تكون له شفقة على مَنْ هم في احتياج، ويوزِّع مساعدة ممّا لديّه لمن هم في ضيق شديد. لكن نحن بازدرائنا بالطريق المجيد والذي له مجازاة أكيدة، فإننا نختار طريقًا معيبًا وبلا مكافأة، وذلك بأن نعامل باحتقار مَنْ هم في فقر مدقع، بل ونرفض أحيانًا أن نسمح لكلماتهم أن تدخل آذاننا، بينما نحن من ناحية أخرى نُقيم وليمة مكلّفة وببذخ شديد إما لأصدقاء يعيشون في رغد، أو لمن اعتادوا أن يمدحوا أو يداهنوا جاعلين كرمنا فرصة لإشباع حبنا للمديح.
لكن هذا لم يكن هو قصد الله من سَمَاحِه لنا أن نمتلك ثروة، لذلك فإن كنا غير أمناء في القليل بعدم تكييف أنفسنا وفقًا لمشيئة الله، وبإعطاء أفضل قِسْم من أنفسنا لملذاتنا وافتخاراتنا، فكيف يمكننا أن ننال منه ما هو حق؟ (أو ما هو حقيقي). وماذا يكون هذا الحق؟ هو الإنعام الفائض لتلك العطايا الإلهية التي تزيّن نفس الإنسان، وتجعل فيها جمالاً شبيهًا بالجمال الإلهي. هذا هو الغنى الروحي، وليس الغنى الذي يسمِّن الجسد المُمسك بالموت، بل هو بالأحرى ذلك الغنى الذي يُخلِّص النفس ويجعلها جديرة بأن يُقتدى بها، ومكرَّمة أمام الله، والذي يكسبها مدحًا وأمجادًا حقيقية.
لذلك فمن واجبنا أن نكون أمناء لله، أنقياء القلب، رحومين وشفوقين، أبرارًا وقديسين، لأن هذه الأمور تطبع فينا ملامح صورة الله، وتكمِّلنا كورثة للحياة الأبدية، وهذا إذن هو ” الحق “.
وكون أن هذا هو مغزى ومقصد كلمات المخلِّص، فهذا هو ما يمكن لأي شخص أن يعرفه بسهولة مما يلي، لأنه يقول: ” إن لم تكونوا أمناء فيما هو للغير فمن يعطيكم ما هو لكم؟”. وأيضًا نحن نقول إن ” ما هو للغير” هو الغنى الذي نمتلكه، لأننا لم نولد أغنياء بل على العكس، فقد وُلِدنَا عُراة، ويمكننا أن نؤكد هذا عن حق بكلمات الكتاب: ” لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء” (1تي 7:6)، لأن أيوب الصبور قد قال أيضًا شيئًا من هذا القبيل: ” عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك” (أي 21:1). لذلك، فلا يملك أى إنسان بمقتضى الطبيعة أن يكون غنيًا، وأن يحيا في غنى وفير، بل إن الغنى هو شيء مُضاف عليه من خارجه، فهو مجرد إمكانية (أى يمكن أن يوجد أو لا يوجد)، فلو باد الغنى وضاع فهذا أمر لا يخلّ بأي حال بخصائص الطبيعة البشريّة، فإنه ليس بسبب الغنى نكون كائنات عاقلة وماهرين في كل عمل صالح، بل إن هذه هي خاصية للطبيعة البشرية أن نتمكّن من عمل هذه الأشياء. لذلك كما قلت فإن ” ما هو للغير ” لا يدخل ضمن خصائص طبيعتنا، بل على العكس فمن الواضح أن الغنى إنما هو مُضاف إلينا من الخارج. ولكن ما هو لنا، وخاص بالطبيعة البشريّة هو أن نكون مؤهَّلين لكل عمل صالح، كما يكتب الطوباوي بولس: ” قد خُلقنا لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها” (أف 10:2).
لذلك فعندما يكون البعض غير أمناء ” فيما هو للغير”، أي في تلك الأشياء التي هي مضافة إليهم من الخارج، فكيف سينالون ما هو لهم؟ كيف سيصيرون شركاء الخيرات التي يعطيها الله والتي تزيِّن نفس الإنسان وتطبع فيها جمالاً إلهيًا، يتشكّل فيها روحيًا بواسطة البّر والقداسة، وبتلك الأعمال المستقيمة التي تُعمل في مخافة الله.
لذلك ليت مَنْ يمتلكون منا ثروة أرضية، يفتحون قلوبهم لأولئك الذين هم في احتياج وعوز، ولنظهر أنفسنا أمناء ومُطيعين لوصية الله، وتابعين لمشيئة ربنا في تلك الأشياء التي هي من خارج وليست هي لنا لكي ما ننال ما هو لنا، الذي هو ذلك الجمال المقدس والعجيب، الذي يُشكلِّه الله في نفوس الناس إذ يصوغهم على مثاله، بحسب ما كنا عليه في الأصل.
أما أنه شيء مستحيل لشخص واحد بعينه أن يقسّم ذاته بين متناقضات ويمكنه مع ذلك أن يحيا حياة بلا لوم، فالرب يوضح هذا بقوله: ” لا يقدر خادم أن يخدم سيدين لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يكرم الواحد ويحتقر الآخر” (لو 13:16). وهذا في الواقع مثال واضح وصريح ومناسب جدًّا لشرح الموضوع الذي أمامنا، لأن الذي يترتب على هذا هو خُلاصة المناقشة كلها: ” لأنكم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال”، وهو يقول: لأنه لو كان لإنسان أن يكون خادمًا لسيدّين لهما مشيئتان مختلفتان ومتضادتان، وفكر كل واحد منهما غير قابل للتصالح مع الآخر، فكيف يمكنه أن يرضيّهما كليهما؟ لأنه بسبب كونه منقسمًا في سعيه أن يعمل ما يوافق عليه كل منهما، يكون هو نفسه في تعارض مع مشيئتيهما معًا، وهكذا فإن نفس الشخص يلزمه حتمًا أن يُظهر أنه شرير وصالح، لذلك يقول (الرب)، إنه لو قرَّر أن يكون أمينًا للواحد فإنه سيبغض الآخر، وهكذا سيعتبره طبعًا كلا شيء، لذلك يستحيل أن نخدم الله والمال. فمال الظلم، الذي يُقصَد به الغنى، هو شيء يُسلِّم للشهوانية، وهو معرَّض لكل لوم، ويولِّد الافتخار ومحبة اللّذة، ويجعل الناس غلاظ الرقبة وأصدقاء للأشرار ومتكبِّرين، نعم، أية رذيلة دنيئة لا يسببها في أولئك الذين يمتلكونه؟!
لكن مسرّة الله الصالحة تجعل الناس لطفاء هادئين متواضعين في أفكارهم، طويلي الأناة، رحومين، ولهم صبر نموذجي، غير محبين للربح، غير راغبين في الغنى وقانعين بالقوت والكسوة فقط، ويهربون على الأخص من محبة المال الذي هو أصل لكل الشرور (1تي 10:6)، ويباشرون بفرح الأتعاب لأجل التقوى، ويهربون من محبة اللّذة، ويتحاشون باجتهاد كل شعور بالتعب والكلل في الأعمال الصالحة، ودائمًا يُقدِّرون السعي إلى الحياة باستقامة وممارسة كل اعتدال باعتبار أن هذه الأشياء هي التي تربح لهم المكافأة. هذا هو “ما هو لنا” وما “هو الحق “، هذا هو ما سيسبغه الله على مَنْ يحبون الفقر، ويعرفون كيف يوزعون ـ على من هم في احتياج ـ ” ما هو للغير” ويأتي من الخارج، أي غناهم الذي يُعرَف أيضًا باسم المال. فليتّه يكون بعيًدا عن ذهن كل واحد منا أن نكون عبيدًا له (المال)، لكي بهذا يمكننا بحريّة وبدون عائق أن نحني عنق ذهننا للمسيح مخلّصنا كلنا، الذي به ومعه لله الآب يحق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين أمين.