مثل الابن الضال – إنجيل لوقا 15 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لوقا15: 11ـ 32) ” وَقَالَ: إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الاِبْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ. فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً!. أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ. وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ الاِبْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. فَقَالَ الأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ وَاجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ. وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ. لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ. وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصًا. فَدَعَا وَاحِدًا مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟. فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ له الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِمًا. فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْيًا لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِى ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ. فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ لأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ “.
إني أسمع أحد الأنبياء القديسين وهو يحاول أن يربح البعيّدين عن الله إلى التوبة. فيقول: ” ارجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثرت بإثمك خذوا معكم كلامًا وأرجعوا إلى الرب” (هو 1:14 و2). لذلك فأي نوع من الكلام يأمرهم بإرشاد الروح، أن يأخذوه معهم؟ ألا يكون لائقًا بالذين يرغبون أن يتوبوا، أن يرضوا الله، الذي هو شفوق ويحب الرحمة؟ لأنه قد قال بواسطة أحد الأنبياء القديسين: ” ارجعوا أيها البنون العصاة لأشفى عصيانكم” (إر 22:3). وأيضًا يقول بصوت حزقيال: ” ارجعوا، توبوا وارجعوا عن كل معاصيكم يا بيت إسرائيل، اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها، لكي لا تصير لكم مهلكة .. لأني لا أُسر بموت الخاطئ. بل أن يرجع ويحيا” (حز 30:18 و31). ونفس هذا الحق يعلِّمه لنا المسيح هنا في هذا المَثَل الجميل، الذي سأحاول أن أبحثه بأقصى طاقة ممكنة عندي، وسأجمع نقاطه الهامة باختصار وسأشرح وأدافع عن الأفكار التي يحويها.
يرى البعض أن الابنين في المَثَل يشيران إلى الملائكة القديسين، من ناحية وإلينا نحن سكان الأرض من الناحية الأخرى. وأن الابن الأكبر، الذي عاش بتعقّل، يمثل مجموع الملائكة القديسين، بينما الابن الأصغر المنحرف يمثل الجنس البشرى. وهناك آخرون بينّنا يعطون المَثَل تفسيرًا مختلفًا، قائلين: إن الابن الأكبر السالك حسنًا يشير إلى إسرائيل حسب الجسد، بينما الابن الأصغر الذي اختار أن يعيش في الشهوات والملذات والذي ابتعد بعيدًا عن أبيه، إنما يشير إلى جمهور الأُمم الوثنيين. هذه الشروحات أنا لا أوافق عليها وأرجو ممن يحب التعلّم، أن يبحث ما هو حقيقي وما ليس عليه اعتراضات.
لأن ما أقوله هو كما يأتي ” أعط فرصًا للحكيم، وقدم معرفة للأبرار” (أم 9:9)، كما يوصي الكتاب، لأنهم من الشروحات التي تُعطى لهم سوف يفحصون عن المعنى المناسب، فإن كنا، نشير بالابن المستقيم إلى الملائكة، فإننا لا نجده يتكلّم الكلمات التي تليق بالملائكة، ولا نجده يشارك الملائكة فرحهم بالخطاة التائبين الذين يرجعون من حياة دنسة إلى حياة وإلى سلوك جدير بالإعجاب. لأن مخلّص الجميع يقول: ” إنه يكون فرح في السماء قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب ” (لو 7:15)، بينما الابن الموصوف لنا في هذا المثل، باعتباره مقبولاً من أبيه، ويسلك حياة بلا لوم، يَظهَر أنه غاضب، بل ويصل في مشاعره غير الحبيّة إلى درجة أنه ينسب اللوم إلى أبيه بسبب محبته الطبيعية لابنه الذي خَلُص. فالمَثَل يقول: ” إنه لم يرد أن يدخل البيت”. لأنه اغتاظ بسبب قبول الابن التائب ومن ذبح العجل المسمَّن ولأن أباه صنع له وليمة. ولكن هذا كما قلت، يختلف عن مشاعر الملائكة القديسين. لأنهم يفرحون ويسبِّحون الله حينما يرون سكان الأرض يَخلُصُون. لأنه حينما أخضع الابن نفسه ليولد بالجسد من امرأة في بيت لحم، حمَّل الملائكة عندئذ الأخبار السارة إلى الرعاة قائلين: ” لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، لأنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب” ويتوجون الذي ولد بالتمجيد والتسابيح قائلين: ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفى الناس المسرة“ (لو 10:2 و11 و14).
ولكن إن كان أي أحد يقول: إن إسرائيل حسب الجسد هو المقصود بالابن الأكبر في المثل الذي كان متمسكًا بوصية أبيه فإننا أيضًا لا نستطيع أن نوافق على هذا الرأي، ذلك لأنه من غير المناسب على الإطلاق أن نقول عن إسرائيل إنه عاش حياة بلا لوم. ففي كل الأسفار الموحَى بها نجد شعب إسرائيل متَّهمين بأنهم متمرِّدون وعصاة؛ لأنهم قد أُخبروا بصوت إرميا: ” ماذا وَجَدَ فيَّ آباؤكم من جور حتى ابتعدوا وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً؟” (إر 5:2). وتكلّم الله أيضًا بعبارات مشابهة بصوت إشعياء: ” هذا الشعب قد اقترب بفمه، وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عني، وهم يعلِّمون تعاليم هي وصايا الناس” (إش 13:29). فكيف يستطيع أحد أن يطبِّق على أولئك الذين يُوجِّه إليهم اللوم هذه الكلمات المستعملة في المثل عن الابن الأكبر المتمسِّك بوصية أبيه؟ لأنه قال: ” ها أنا أخدُمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك”، لأنهم لم يكونوا ليُلاموا على طريقة حياتهم لو لم يتعدوا الوصايا الإلهية، وبذلك أدوا بأنفسهم إلى حياة مستهترة مدنَّسة.
وأيضًا يقول البعض إن العجل المسمَّن الذي ذبحه الأب حينما رجع ابنه إنما يشير إلى مخلِّصنا. ولكن كيف يمكن للابن الأكبر الذي يوصَف أنه حكيم وفطين ومتمسِّك بواجبه والذي يُشير به البعض إلى الملائكة القديسين ـ كيف يمكن لذلك الابن أن يعتبر ذبح العجل سببًا للغضب والغيظ؟ كما أننا لا نستطيع أن نجد برهانًا على أن القوات السماوية قد حزنت حينما احتمل المسيح الموت بالجسد أي حينما ذُبح المسيح لأجلنا. إنهم بالحرى فرحوا، كما قلت عندما رأوا العالم يَخلُص بدمه المقدَّس، وأيضًا ما هو السبب الذي جعل الابن الأكبر يقول: ” جديًا لم تعطني قط”. فأي بركة كانت تنقص الملائكة القديسين، إذ أن رب الكّل قد أنعم عليهم ـ بيد سخيّة بفيض من المواهب الروحية؟ وهل كانوا يحتاجون إلى أية ذبيحة فيما يخص حالتهم؟ لأنه لم يكن هناك احتياج أن يتألم عمانوئيل أيضًا نيابة عنهم. ولكن إن تخيّل أحد كما سبق أن قلت، إن المقصود بالابن الأكبر هو إسرائيل حسب الجسد، فكيف يستطيع أن يقول بالحق: ” جديًا لم تعطني قط؟”، لأنه، سواء دعوناه عجلاً أم جديًا فالمسيح هو الذي يجب أن يُفهم أنه هو الذبيحة المقدَّمة لأجل الخطية. ولكنه قُدِّمَ ذبيحة ليس لأجل الأمم فقط، بل أيضًا لكي يفدي إسرائيل، الذي بسبب تعدياته الكثيرة للناموس، قد جلب على نفسه لومًا عظيمًا، وبولس الحكيم يشهد لهذا الأمر قائلاً: ” لذلك يسوع أيضًا لكي يقدِّس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب ” (عب 12:13).
فما هو موضوع المَثَل إذن؟ دعونا نفحص المناسبة التي قادت إليه، فإننا بذلك سنتعلَّم الحقيقة. لذلك فإن لوقا المبارك نفسه قد تكلَّم قليلاً عن المسيح مخلِّصنا قبل هذا المَثَل فقال: ” وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. فتذمَّر الفريسيون والكتبة قائلين: هذا الإنسان يقبل الخطاة ويأكل معهم” (لو 1:15و2). لذلك، فلأن الفريسيين والكتبة اعترضوا على رحمته ومحبته للإنسان، وبِشَرٍ وبعدم تقوى لاموه على قبول وتعليم الناس الذين كانت حياتهم مدنَّسة، فكان من الضروري أن يضع المسيح أمامهم هذا المَثَل، ليريّهم هذا الأمر ذاته بوضوح: إن إله الكّل يريد من الإنسان الثابت والراسخ، والذي يعرف أن يعيش حياة مقدَّسة وقد وصل إلى ما يستحق أعلى مديح لأجل تعقّله في السلوك، يريد من هذا الإنسان أن يكون مُخْلِصًا في إتباع مشيئته، لكن حينما يُدعَى أي واحد إلى التوبة حتى إن كان من الذين يعيشون حياة ملومة جدًّا، فإنه ينبغي بالحري أن يفرح ولا يكون عنده غيظ مضاد للمحبة من جهة التائبين.
لأننا نحن أحيانًا نختبر شيئًا من هذا النوع لأنه يوجد البعض الذين يعيشون حياة كاملة مكرّمة ثابتة، ويمارسون كل نوع من أعمال الفضيلة، ويمتنعون عن كل شيء مخالف لشريعة الله، ويتوّجون بمديح كامل في نظر الله والناس. بينما البعض الآخر ربما يكونون ضعفاء عاثرين، ومنحطين إلى كل نوع من الشر ومذنبين بأفعال رديئة، محبين للدنس والطمع وملوثين بكل إثم. ومع ذلك يحدث كثيرًا أن يرجع أحد هؤلاء إلى الله في سن متقدّم ويطلب غفران خطاياه السابقة: إنه يصلي طالبًا الرحمة، وإذ يترك عنه إستعداده للسقوط في الخطية، وتشتعل فيه الرغبة للحياة الفاضلة، أو ربما حينما يوشك على الاقتراب من نهاية حياته، فإنه يطلب المعمودية الإلهية ويغتسل من خطاياه تاركًا شروره، فإن الله يكون رحيمًا به. وقد يحدث أحيانًا أن يتذمر بعض الأشخاص من هذا، بل ويقولون: ” هذا الإنسان الذي كان مذنبًا بكذا وكذا من الأعمال الشريرة، وقد تكلّم بكذا وكذا من الكلمات، هذا الإنسان لم يفِ دين سلوكه الرديء أمام قاضي العدل، بل إنه حُسب أهلاً لنعمة سامية وعجيبة وقد حُسب بين أبناء الله، وكُرِّم بمجد القديسين”. مثل هذه الشكوى ينطق بها الناس أحيانًا نتيجة ضيق العقل الفارغ. وشكواهم لا تتفق مع غرض أب الجميع. لأن الآب يفرح فرحًا عظيمًا حينما يرى الذين كانوا ضالين يحصلون على الخلاص، وهو يرفعهم ثانية إلى ما كانوا عليه في البداية، معطيًا لهم ثياب الحرية مزينًا إياهم بالحُلة الأولى، ويضع خاتمًا في يدهم، أي السلوك باستقامة، الذي يرضي الله ويليق بالأحرار.
لذلك فإن واجبنا أن نُخضِع أنفسنا لما يريده الله، لأنه يشفي الذين هم مرضى، وهو يرفع الساقطين، ويمد يده بالمعونة للذين يعثرون، ويرد إليه الذين ابتعدوا عنه، وهو يُشكِّل من جديد في شكل حياة ممدوحة وبلا لوم أولئك الذين كانوا يتمرَّغون في وحل الخطية، إنه يفتش عن أولئك الذين ضلوا، وهو يقيم من الموت الذين كانوا يعانون من الموت الروحي.
دعونا نفرح أيضًا، هيا نفرح، مع الملائكة القديسين ونسبِّح الله لأنه صالح ومحب للبشر، ولأنه رحيم ولا يذكر الشر، لأنه إن كنا نفكر هكذا فالمسيح سوف يقبلنا، الذي به ومعه لله الآب كل تسبيح وسيادة مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.