التلمذة للمسيح – إنجيل لوقا 14 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو25:14ـ35) ” وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ فَالْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟. لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ. قَائِلِينَ: هَذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ. وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟. وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذَلِكَ بَعِيدًا يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ. فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا. اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟. لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!”.
الذين يقودون جيوشًا استعدادًا للحرب وقد اكتسبوا لأنفسهم مجدًّا عسكريًا، عندما يكون وقت المعركة قد حان، يُعلِّمون الكتائب التي تحت قيادتهم كيف يربحون انتصارًا باهرًا إذ يصطفون هم أنفسهم بشجاعة في مواجهة فيالق العدو؛ ومخلِّص الكل إذ يتمثَّل بمهارة أولئك المذكورين هنا، يبيِّن بكل وضوح لكل مَنْ يتبعونه طريق الشجاعة الروحية: إنه بالتقدُّم بقوة لا يحدها عائق إلى كل ما فيه نصرة التقوى وبواسطة اجتهاد شديد لا يُقاوم، يمكنهم بعدل أن يحصلوا على الحق في أن يكونوا معه وأن يتبعوه.
إذن
فهذا الدرس يعلِّمنا بوضوح أي نوع من الأشخاص يريدنا أن نكون فهو يقول: ” إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا” (لو 26:14).
ربما يقول أحد: فماذا يا رب، هل أنت تحتقر العاطفة الطبيعية؟ هل تأمرنا أن نبغض بعضنا بعضًا وأن نتجاهل الحب الذي يحق للآباء من أبنائهم، وللزوجات من أزواجهن وللإخوة من إخوتهم؟ هل سنجعل مَنْ هم أعضاء في نفس العائلة أعداء لنا، وللذين من واجبنا بالأولى أن نحبهم يلزمنا أن نعتبرهم كأعداء وذلك لكي نكون معك ولكي ما يمكننا أن نتبعك؟
ليس هذا هو ما يقصده المخلّص، حاشا أن يكون له مثل هذا الفكر الباطل، فإن الذي يأمر بأن نحب حتى الأعداء وبأن نغفر لكل من يسيء إلينا إذ يقول:” أحبوا أعداءكم… وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم” (مت 44:5)، كيف يمكن أن يريدنا أن نبغض مَنْ هم مولودون من نفس الأسرة، وأن نغفل الإكرام الواجب بالوالدين، وأن نزدري بإخوتنا، بل نبغض أولادنا أيضًا وكذلك أنفسنا؟ لأن الذي قد نطق بالدينونة حتى على أولئك الذين يهملون قانون المحبة المتبادلة، لا يمكن أن يريد أن يكون لأحبائه ذهن متوحش أو فكر مقهور، لكن ما يريد أن يعلِّمه بهذه الوصايا هو واضح لأولئك الذين يمكنهم أن يفهموا ما قيل في موضع آخر عن نفس الموضوع: ” من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنةً أكثر مني فلا يستحقني” (مت 37:10). إذًا بإضافة عبارة ” أكثر مني ” يتضّح أنه يسمح لنا أن نحب لكن ألاّ نحبهم أكثر منه، لأنه يطلب لنفسه عاطفتنا الرئيسية. وذلك عادل جدًّا، لأن محبة الله فيمن هم كاملون في الذهن، فيها شيء ما أعلى وأسمى من الإكرام الواجب للوالدين وأسمى من العاطفة الطبيعية التي نشعر بها تجاه الأولاد.
لكن يلزمنا أن نوضّح ما هي المناسبة التي جعلت الرب يوجه كلماته نحو هذا الموضوع. إن النص الذي قرأناه من الإنجيل في اجتماعنا السابق كان عن وصف عشاء عظيم، دُعي إليه كثيرون من قِبل مَنْ صنع الوليمة، ولكن كان المدعوون غير مبالين بالدعوة، إذ ابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون. قال له واحد إنه اشترى حقلاً وإنه مضطر أن يخرج وينظره، وقال آخر إنه اشترى خمسة أزواج بقر، وقال ثالث إنه تزوج بامرأة، وبواسطة هذه الأعذار الواهية أغاظوا من دعاهم. لذلك فقد أُعطي لنا أن نفهم بمنتهى الوضوح أنه عندما يدعونا الله إليه ليجعلنا شركاء في جوده وإحسانه، فإنه يلزمنا أن نزدري بشهوات الجسد التي تخدم الجسد. وأن لا نعطي أي اعتبار لأمور هذا العالم بل يتحتّم أن نبذل قصارى جهدنا للتقدّم نحو تلك الأشياء التي لن نتخلَ عنها أبدًا والتي تملأنا بكل غبطة، إذ أن الله يمنحنا عطاياه بيد سخيّة مثل مَنْ يرحب بنا في وليمة ثمينة ويعطينا الحق أن نبتهج مع باقي القديسين برجاء البركات الآتية. لأن الأرضيات ليس لها سوى قيمة قليلة ولا تدوم إلا لبرهة قصيرة وهي تختص بالجسد وحده، الذي هو فريسة للفساد، ولكن الأمور الإلهية والروحية هي دائمًا وباستمرار تصاحب أولئك الذين حُسبوا أهلاً لنوالها وتصل إلى دهور لا نهاية لها. لذلك فأي قيمة يعلقها العاقلون على المزارع الأرضية أو على حب اللذة الجسدية، أو على الاحترام الواجب للأقرباء بالجسد، إن كان ينبغي أن تترك لأجل محبة المسيح، مزدرين بكل هذه الأشياء التي ذُكرت؟ لأن هناك أمثلة كثيرة كانت لأناس راغبين في حياة بلا لوم، الذين حتى بعد أن لمسوا ـ إن جاز القول ـ تراب حَلَبَة المصارعة، واختبروا المصارعة فيها، وكادوا أن يصلوا إلى حق نوال إكليل الدعوة السماوية، نجدهم قد ارتدوا إلى الخلف إما لارتباطهم بالأقرباء أو بسبب كونهم أضعف من أن يحتملوا معركة المثابرة، أو لكونهم تعرقلوا في فخاخ الشهوانية، وفضَّلوا بحماقة اللذة الحاضرة على البركات الموضوعة أمامهم بالرجاء. وأيضًا فإن خوف الموت قد أرعب كثيرين، وحينما جاء وقت الاضطهادات ـ حتى بواسطة الامتحان ينالون إكليل عدم الفساد ـ نجدهم وقد أنكروا الإيمان وتحاشوا واجب التألم بصبر، وأظهروا أنفسهم ضعفاء وجبناء، فسقطوا من ثباتهم، لذلك فلكي يخلق الرب فينا ذهنًا لا يتزعزع، ويجعلنا غير مكترثين بكل الأمور العالمية، لأجل محبتنا له، فإنه يأمرنا أن نبغض حتى أقرباءنا حسب الجسد، بل ونبغض أنفسنا حين يدعونا الوقت لهذا كما سبق أن قلت حالاً.
ثم يورد الرب بعد ذلك مثالين، ليشجع أحباءه ليبلغوا إلى ثبات لا يُقهر، وليؤسس أولئك الذين يريدون أن يصلوا إلى الكرامات بالصبر والاحتمال، ويجعل فيهم غيرة لا تتزعزع، لأنه يقول: ” ومَنْ منكم وهو يريد: أن يبني برجًا، لا يجلس أولاً ويحسب النفقة هل عنده ما يلزم لكماله، لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به ” (لو 28:14 و29). لأن الذين اختاروا أن يحيوا حياة مجيدة وبلا لوم يجب أن يختزنوا مقدمًا في ذهنهم غيرة كافية لتحقيق ذلك، وأن يتذكروا الذي يقول: ” يا ابني، إذا تقدمت لخدمة الرب أعدد نفسك للتجربة واجعل قلبك مستقيمًا واحتمل” (يشوع بن سيراخ 1:2 و2). أما أولئك الذين ليست لهم مثل هذه الغيرة فكيف يمكنهم أن يصلوا إلى الهدف الموضوع أمامهم؟
يقول الرب: ” وأي ملك إذا ذهب إلى مقاتلة ملك آخر في حرب، لا يجلس أولاً ويتشاور مع نفسه هل يستطيع بالعشرة آلاف التي له أنَ يتغلب على من هو أقوى منه؟”. ماذا يعني هذا الكلام؟ ” إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السموات” (أف 12:6). ونحن أيضًا لنا أعداء كثيرون: الذهن الجسداني، الناموس الذي يحارب في أعضائنا، الأهواء متعددة الأنواع: شهوة اللذة، شهوة الجسد، شهوة الغِنَى، وغيرها من الشهوات، وينبغي أن نصارع مع هذه الشهوات، فهذه هي كتيبة أعدائنا المتوحشين. كيف إذن سننتصر؟ بإيماننا كما يقول الكتاب: إننا ” بالله سوف نصنع ببأس وهو سيبيد أعداءنا” (مز 12:59 س)، وبهذه الثقة يقول واحد من الأنبياء القديسين: ” هوذا السيد الرب يعينني، فمن هو الذي يجعلني أخزى” (إش 9:50 س). وداود الإلهي يرنم أيضًا قائلاً: ” الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب عاضد حياتي ممن أرتعب” (مز 8:26 س). لأنه هو قوتنا وبه سوف ننال النصرة، لأنه قد أعطانا أن ندوس على الحيّات والعقارب وعلى كل قوة العدو. ولذلك يقول: ” الملح جيد ولكن إذا فسد الملح فبماذا يصلح؟ ” ثم يقول ” إنه يُطرح خارجًا” وقال أيضًا: ” ليكن لكم في أنفسكم ملح” (مر 50:9). أي أن يكون لكم الكلام الإلهي الذي يجلب الخلاص، لكن لو ازدرينا بالكلام الإلهي فإننا سوف نصير بلا طعم وأغبياء وعديمي الفائدة تمامًا. ومثل هذه الأشياء ينبغي لجماعة القديسين أن يطرحوها خارجًا، بعطية الرحمة والمحبة التي لهم من المسيح مخلّصنا كلنا، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.