الدعوة إلى العشاء العظيم – إنجيل لوقا 14 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو15:14ـ24) ” فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَهُ: طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ اللهِ. فَقَالَ لَهُ: إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيمًا وَدَعَا كَثِيرِينَ. وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ الْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ. فَابْتَدَأَ الْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ الأَوَّلُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ حَقْلاً وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ فَلِذَلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ.فَأَتَى ذَلِكَ الْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ الْبَيْتِ وَقَالَ لِعَبْدِهِ: اخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا الْمَسَاكِينَ وَالْجُدْعَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْى. فَقَالَ الْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ وَيُوجَدُ أَيْضًا مَكَانٌ. فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي “.
ومرة أخرى، إن معنى الدروس المطروحة أمامنا يضطرني أن أقول إن ثمار الأعمال الصالحة إنما هي جديرة بالثناء، لأن تعب القديسين ليس بلا مكافأة، لأنهم يتعبون بمشقة لكي يحيوا تلك الحياة التي هي حقًا جديرة بالإعجاب عند الله والناس. فبولس الحكيم يكتب: ” الله ليس بظالم حتى ينسى تعبكم ومحبتكم التي أظهرتموها نحو اسمه” (عب 10:6)، وأيضًا يستخدم كلمات مُشابهة في موضع آخر: ” لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا، ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى، لأن الأشياء التي تُرى وقتية أما التي لا تُري فأبدية ” (2كو 17:4). لأن الأشياء الوقتية هي الأرضية، وهي التي نقول عنها إنها تُدعى الأشياء التي تُرى. أما تلك الأشياء الآتية والتي لا تُرى في الوقت الحاضر، بل هي الأمور المرجوة عند الله فهي مخزونة لنا في منازل لا يمكن أن تتزعزع.
أما لِمَنْ أُعدت هذه الأشياء، ولِمَنْ سوف تُعطى، فهذا شرحه لنا المخلّص هنا، موضحًا كما في صورة بالمثل الموضوع أمامنا، طبيعة وفاعلية التدبير، ولكن من الضروري على كل حال أن أذكر أولاً المناسبة التي أدت إلى هذا الحديث.
كان الرب يأكل في وليمة عند أحد الفريسيين بصحبة آخرين كثيرين مجتمعين من أصدقاء دعاهم إلى الوليمة، وهكذا فإن مخلّص الجميع لكي يفيد أولئك المجتمعين هناك ـ إذ أنه يحب الرحمة بالحري وليس الكرامة والعظمة ـ فإنه يقود هذا الذي دعاه إلى الكمال، بألاّ يسمح له بأن يصرف بإسراف أو يهدف إلى أن يظهر بأكثر مما تسمح له موارده المالية لكي يحصل على مديح الناس، لأنه قال: ” إذا صنعت غذاءً أو عشاءً فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الأغنياء ولا جيرانك. بل المساكين، الجدع والعمي”، لأنه يقول: ” إن هؤلاء الذين يفعلون هكذا يكافأون في قيامة الأبرار”. وهكذا فإن واحد من أولئك المتكئين معهم على المائدة، عندما سمع مثل هذه الكلمات الباهرة قال: ” طوبى لمن يأكل خبزًا في ملكوت الله”. ربما هذا الرجل لم يكن روحانيًا ولكنه كان لا يزال نفسانيًا وغير مؤهَّل أن يفهم ما قاله المسيح فهمًا سليمًا. لأنه لم يكن بعد واحدًا من الذين آمنوا ولا كان قد اعتمد بعد، لأنه افترض أن مجازاة القديسين بسبب أعمال محبتهم المتبادلة سوف تكون بأشياء مختصة بالجسد وبسبب أنهم كانوا حتى هذا الوقت إلى هذه الدرجة من غباوة القلب حتى يفهموا فكرة دقيقة، فإن المسيح صاغ لهم مثلاً يوضح بما يحويه من صور ملائمة، طبيعة التدبير المزمع أن يؤسِّسه لأجلهم، ويقول: ” إنسان صنع عشاءً عظيمًا ودعا كثيرين، وأرسل عبده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء قد أُعد”.
دعونا أولاً أن نتساءل هنا، ما السبب في أن المدعوين قد دُعوا إلى عشاء وليس إلى غذاء؟ بل بالحرى وقبل هذا أيضًا، مَنْ هو الإنسان الذي قيل عنه في المثل إنه أرسل عبده ليدعو إلى العشاء، وأيضًا مَنْ هو الداعي، ومن هم الذين دُعُوا ولكنهم احتقروا الدعوة.
لذلك فينبغي أن نفهم أن المقصود بالإنسان هنا هو الله الآب. إن التشبيهات قد صيغت لتمثل الحقيقة، ولكنها ليست الحقيقة نفسها، لذلك فخالق الكون وأبو المجد صنع عشاءً عظيمًا، أي عيدًا لكل العالم تكريمًا للمسيح. إذن ففي أزمنة هذا العالم الأخيرة ظهر الابن لأجلنا. وفى ذلك الوقت أيضًا عانى الموت لأجلنا، وأعطانا جسده لنأكل، لأنه هو الخبز الذي من السماء الواهب حياة للعالم ونحو المساء أيضًا وعلى ضوء السرج كان يُذبح الخروف بحسب ناموس موسى. لذلك ولسبب معقول نقول إن الدعوة التي بواسطة المسيح تُدعى عشاءً.
وبعد ذلك، من هو الذي أُرسل، والذي يُقال عنه إنه عبد؟ ربما يكون المقصود هو المسيح نفسه. لأنه مع أن الله الكلمة هو بطبيعته إله، والابن الحقيقي لله الآب، الذي ظهر منه، إلاّ أنه أخلى ذاته ليأخذ شكل العبد. ولأنه أيضًا إله من إله فهو رب الكل، ولكن يمكن استخدام لقب عبد بصواب عنه من جهة بشريته. ومع أنه ـ كما قلت ـ قد أخذ شكل عبد إلاّ أنه رب بسبب كونه إلهًا.
ومتى أرسل؟ يقول: ” وقت العشاء” لأن الكلمة الابن الوحيد لم ينزل من السماء في بداية هذا العالم ليصير في الهيئة مثلنا، بل بالحرى نزل عندما أراد الكلي القدرة نفسه ذلك، أي في هذه الأزمنة الأخيرة كما سبق أن قلنا أيضًا منذ قليل.
وما هي طبيعة الدعوة؟ ” تعالوا! لأن كل شيء قد أُعد”. لأن الله الآب قد أعد في المسيح لسكان الأرض تلك العطايا التي مُنِحَت للعالم بواسطته، التي هي غفران الخطايا، والتطهير من كل دنس، وشركة الروح القدس، والتبّني المجيد له، وملكوت السموات. وإلى هذه البركات دعا المسيح إسرائيل بواسطة وصايا الإنجيل قبل أن يدعو كل الآخرين، لأنه يقول في موضع ما بصوت المرنم: ” أنا أقمت منه ملكًا ـ أي بواسطة الله الآب ـ على صهيون جبل قدسه، لأكرز بأمر الرب” (مز 6:2) وأيضًا: ” أنا لم أُرسل إلاّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (مت 24:15).
فهل كان تصميمهم إذن لصالحهم؟ هل نظروا بإعجاب إلى لطف ذلك الذي دعاهم، وإلى وظيفة هذا الذي حمل الدعوة؟ ليس هكذا، لأنه يقول: ” فابتدأ الجميع للتو برأي واحد يستعفون ـ كما لو كان بغرض واحد، وبلا إبطاء يعتذرون. قال الأول: إني اشتريت حقلاً وأنا مضطر أن أخرج وأنظره. أرجوك أن تعفيني، وقال آخر: ” إني اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماضٍ لأمتحنها، أرجوك أن تعفيني، وقال آخر: إني تزوجت بامرأة فلذلك لا أقدر أن أجيء”. إنك تلاحظ أنهم إذ استسلموا تمامًا وبحماقة لهذه الأمور الأرضية، فإنهم لم يتمكنوا أن يروا الأمور الروحية، لأنهم إذ قد انغلبوا من محبة الجسد فقد صاروا بعيدين عن القداسة وأصبحوا شهوانيين وجشعين للثروة. إنهم يطلبون تلك الأمور السفلى ولا يعتبرون بالمرة ذلك الرجاء والمواعيد المذخرة عند الله. كان الأفضل جدًّا أن يربحوا أفراح الفردوس بدلاً من الحقول الأرضية وبدلاً من الفرحة المؤقتة ـ وهذا هو المقصود بأزواج البقر ـ أن يجمعوا أثمار البر، لأنه مكتوب: ” ازرعوا لأنفسكم بالبر، واحصدوا كغلة الكرم ثمر الحياة” (هو 12:10 س). أمَا كان يجب عليهم ـ بدلاً من الإنسال الجسدي للأطفال ـ أن يختاروا بالأحرى الإثمار الروحاني؟ لأن الأول مُعرَّض للموت والفساد أما الآخر فهو أبدي وذا غِنى دائم للقديسين.
ويقول المثل إن رب البيت لما سمع رَفْضَهُم، فإنه غضب وأمر أن يجمعوا من الشوارع والأزقة، المساكين والجدع والعمي والعرج. فمَنْ هم الذين يمكن أن نفهم عنهم ـ كما قلت لكم ـ أنه من أجل الأراضي والفلاحة والإنجاب الجسدي للأولاد ـ رفضوا أن يأتوا؟ إنهم بالضرورة هم هؤلاء الذين وقفوا في صدارة المجمع اليهودي، الذين هم ذوو ثروات طائلة، عبيد الشهوات، الذين عقولهم منصبَّة على الربح، الذي يركزون عليه كل اجتهادهم. لأنه في كل الكتاب الموحى به نراهم مستوجبين اللوم بسبب هذا الأمر نفسه.
فأولئك إذًا الذين هم أعلى مقامًا من جماعة الشعب العام لم يُخضعوا أنفسهم للمسيح عندما قال لهم: ” احملوا نيري عليكم” (مت 29:11). بل رفضوا الدعوة ولم يقبلوا الإيمان وظلوا بعيدًا عن الوليمة، وازدروا بالعشاء العظيم بسبب عصيانهم المتقسِّي. أما عن كون الكتبة والفريسيين لم يؤمنوا بالمسيح، فهذا ظاهر بما يقوله لهم: ” أخذتم مفتاح المعرفة، فلم تدخلوا والداخلون منعتموهم” (لو 52:11). لذلك فبدلاً منهم دعا الذين كانوا في الشوارع والأزقة الذين ينتسبون إلى عامة الشعب اليهودي الذين كان عقلهم مريضًا غير ثابت، مُظلمًا ومتوقفًا لأن مثل هؤلاء يمكن أن نعتبرهم عميان وعرج ولكنهم صاروا أقوياء وأصحاء في المسيح وتعلَّموا أن يمشوا باستقامة وقبلوا النور الإلهي في عقولهم. أمَّا عن أن جمعًا كبيرًا من اليهود لا يمكن إحصاءه بسهولة قد آمن، فهذا يمكن أن نعرفه من سفر أعمال الرسل.
والمَثَل يقول إنه بعد أن دعا هؤلاء الذين في الشوارع، فإن الذي كانت وظيفته أن يدعو إلى العشاء قال لصاحب البيت: ” يُوجد أيضًا مكان”. فقال السيد لخادمه: ” اخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي لأني أقول لكم إنه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي”.
أرجوكم أن تلاحظوا هنا دعوة الأمم بالإيمان بعد أن دخل الإسرائيليون. كان الأمم في الزمان القديم لهم ذهن غير مثقف، وسذجًا في الفهم، أي أنهم كانوا خارج المدينة، كما لو كانوا يعيشون في إباحية، ويشابهون البهائم أكثر من البشر، ويستخدمون العقل قليلاً، وبسبب هذا الاعتبار فإن الداعي إلى العشاء أرسل إلى الطرق خارج المدينة وإلى السياجات في الحقول. بل والأكثر من هذا، فإنه أُمِرَ مِنْ هذا الذي أرسله، لا أن يدعوهم ويحضهم فقط بل وأيضًا يُلزمهم. إن الإيمان بالنسبة لجميع الناس هو فعل إرادي، وببلوغ البشر بحريتهم الخاصة إليه يكونون مقبولين لدى الله وينالون عطاياه بوفرة. ولكن كيف (في هذا المثل) أن الناس يُلزَمون بالدخول. هذا ذُكر هنا أيضًا عن قصد، وكان هذا ضروريًا بل وضروريًا على نحو جازم بالنسبة للأمم الذين كانوا مُقيَّدين بطغيان لا يُحتمل، والذين كانوا واقعين تحت نير الشيطان، والذين كانوا ممسوكين بشباك خطاياهم التي لا تنحل، والذين كانوا جاهلين تمامًا بهذا الذي هو بالطبيعة والحق، الله، فكان يَلزَم أن تكون دعوتهم بإلحاح كما لو كانت باستخدام القوة، حتى يكونوا قادرين أن يتطلّعوا نحو الله، ويتذوّقوا التعاليم المقدَّسة، وأن يتركوا ضلالهم السابق، وأن يخرجوا من يد الشيطان. لأن المسيح قال أيضًا: ” لا يقدر أحد أن يُقبل إلىّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” (يو44:6). إن الجذب هنا يعنى ضمنًا أن الدعوة هي فعل بالقوة، وهذا لا يصنعه إلاّ الله. ونجد أيضًا المغبوط داود يخاطب الله بعبارات مشابهة بخصوصهم (الأمم): ” بلجام وزمام تكبح (تقيِّد) فك هؤلاء الذين لا يقتربون إليك” (مز 9:31 س). ها أنت ترى كيف أن رب الكل بلجام يُحوّل إلى نفسه هؤلاء الذين انحرفوا عنه، لأنه صالح ومحب لجنس البشر ويريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون.
لذلك فقد ظل رؤساء الشعب الإسرائيلي بعيدين عن العشاء لأنهم كانوا عنيدين ومتكبرين وعصاة ومحتقرين للدعوة الفائقة جدًّا، لأنهم انحرفوا نحو الأشياء الأرضية، وثبَّتوا عقولهم نحو انشغالات هذا العالم الباطلة. أما عامة الجمع فقد دُعوا (إلى الوليمة) وبعدهم مباشرة وبدون إبطاء الوثنيون. لأن ربنا يسوع المسيح بعد أن قام من الأموات صرخ نحو رسله القديسين قائلاً: ” دُفع إلىّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم إنَّ يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (مت 18:28، 19).