المتكأ الأخير – إنجيل لوقا 14 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو7:14ـ11): ” وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ الأُولَى قائلاً لهم: مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَأ الأَوَّلِ لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَانًا لِهَذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ. بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ “
لا يكف
المخلص عن إجراء عمل أو آخر إلاّ ويكون مفعمًا بالفوائد، كما يرشد بالتحذيرات والنصائح كل من يقترب منه نحو التصرّف اللائق، ويعلّمه تلك الرزانة التي تليق بالقديسين، كما يقول بولس: ” لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح” (2تي 17:3)، وهو يُمسِك بكل فرصة مهما كانت بسيطة، ويرسم لنا بكلماته نصائح جديرة جدًّا بانتباهنا، وهو بهذا يُشبه مزارعًا نشيطًا، لأنه يقطع من أذهاننا كل ما يستوجب اللوم والتوبيخ وما يجلب العار على أولئك الذين يرتكبونه، ويزرع فينا كل ثمر الفضيلة، لأننا كما يقول الكتاب، ” فلاحة الله” (1كو 9:3).
والفائدة التي يكشفها لنا هنا أيضًا، هذه نتعلّمها من الفقرة التي قُرِأت الآن، لأنه كان يأكل يوم السبت مع أحد الفريسيين بحسب دعوة الأخير له. أما هدفه من ذلك ودافعه إليه، فقد شرحناه في اجتماعنا السابق، ولكن نظرًا لأنه لاحظ بعضًا من المدعوين يتمسكون بغباء بالمتكآت الأعلى، كشيء مهم ويستحق السعي إليه، ولأنهم كانوا توَّاقين إلى المجد الباطل، فلأجل منفعتهم ومنفعتنا فإنه ينطق بتحذير عاجل قائلاً: ” متى دُعيت من أحد، فلا تتكئ في المُتَكَأ الأول لعل أكرم منك يكون قد دُعي منه، فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك أعط مكانًا لهذا، فحينئذ تبتدئ بخجل تأخذ الموضع الأخير”.
والآن
فربما تبدو هذه الأمور للبعض أنها تافهة، وغير جديرة بانتباه كثير، ولكن حينما يُثبِّت أي واحد عين ذهنه عليها، فإنه يعرف أن هذه الأمور تنقذه من لوم كثير له وتجعل حياته منتظمة انتظامًا عظيمًا. فأولاً، إن الجري وراء الكرامات غير مناسب ولا يليق بنا، بل يُظهر أننا أغبياء، وقحين، متعجرفين، ممسكوين بما لا يناسبنا بل بما يناسب الآخرين الذين هم أعظم وأعلى منا وكل من يتصرف هكذا هو مكروه، وكثيرًا ما يكون أيضًا موضع سخرية عندما يُعيد للآخرين رغم إرادته ـ الكرامة التي لم تكن له ـ لأنه حينما يأتي مَنْ هو أكرم منك، فذلك الذي دعاك وإياه سوف يقول لك أعط مكانًا لهذا، آه! أي خزي عظيم يكون عندما يتم هذا العمل! إنه مثل السرقة وإعادة الأشياء المسروقة فينبغي، أن يرد ما قد أخذه، لأنه ليس له حق في أن يأخذه. أما الرجل المتواضع والجدير بالثناء، الذي بدون خوف من اللوم يحق له الجلوس بين الأولين، ولا يبحث عن هذا المُتَكَأ، بل يقدِّم للآخرين ما يحق لهم وهو يبدو غير مغلوب من المجد الباطل، مثل هذا سوف يحصل على الكرامة كما يحق له، لأنه سوف يسمع: ” الذي دعاه يقول: ارتفع إلى فوق”.
لذلك فالفكر المتواضع هو خير عظيم يفوق الوصف لأنه يُخلِّص أصحابه من اللوم والاحتقار ومن تهمة المجد الباطل، أما محب المجد الباطل فيقول: نعم! ” إنني أحب أن أكون مشهورًا ومعروفًا وليس مُحتَقَرًا ومهمَلاً ومعدودًا ضمن غير المعروفين “. فإن كنت ترغب في المجد البشرى الزائل، فأنت إنما تضل عن الطريق المستقيم والذي به يمكن أن تصير لامعًا حقًا، وتصل إلى المديح الذي يستحق الاقتداء به، لأنه مكتوب: ” لأن كل جسد كعشب، وكل مجد إنسان كزرع عشب” (1بط 24:1)، كما يلوم داود النبي هؤلاء الذين يحبون الكرامات الزمنية، وعنهم يتكلّم هكذا: ” وليكونوا كعشب السطوح الذي ييبس قبل أن يُقطع” (مز 6:128 س). فكما أن العشب الذي ينبت على السطوح ليس له جذر عميق ثابت، ولذا يجف بسهولة، فهكذا أيضًا من يَجّل الكرامة العالمية، فبعد أن يكون بارزًا لوقت قصير، كزهره فإنه، ينحط أخيرًا إلى العدم.
لذلك فإن رغب أحد بينكم أن يجلس أعلى من الآخرين، فدعه يربح ذلك بمرسوم سماوي، وأن يكلّل بتلك الكرامات التي يمنحها الله. دعه يتفوّق على كثيرين بأن تكون له شهادة الفضائل المجيدة. أما أساس الفضيلة فهو الفكر المنخفض الذي لا يحب التفاخر، نعم إنه التواضع، وهذا يحسبه المغبوط بولس جديرًا بكل احترام، لأنه يكتب لمثل من يرغبون باشتياق في السعي إلى القداسة: ” أحبوا التواضع” (انظر كو 12:3)، كما أن تلميذ المسيح يمدح التواضع فيكتب هكذا: ” وليفتخر الأخ المتضع بارتفاعه وأما الغنى فباتضاعه، لأنه كزهر العشب يزول” (يع 9:1). لأن الفكر المعتدل والمنضبط يُمجَّد من الله، لأنه يقول: ” القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله” (مز 17:50 س).
ولكن كل من يظن أمورًا عظيمة عن نفسه وهو متشامخ ومعجب بنفسه ويرفع نفسه بغطرسة فارغة، فهو مرفوض ومكروه، وهو يتبع منهجًا مضادًا لمنهج المسيح الذي قال: ” تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 29:11)، لأنه مكتوب: ” يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة” (1بط 5:5) كما أن الحكيم أيضًا يبيّن في أماكن كثيرة أمان الفكر المتضّع، ففي مرة يقول: ” لا ترتفع لئلا تسقط” وفى مرة أخرى يوضِّح في تصوير مجازي نفس الشيء ويقول: ” المعلي بابه يطلب الكسر” (أم 19:17). إن مثل هذا الشخص مكروه من الله بعدل، إذ أنه قد أخطأ إلى نفسه، وقد استهدف بحماقة أن يرتفع فوق حدود طبيعته. فعلى أي أساس يفكّر الإنسان الذي على الأرض أفكارًا عظيمة عن نفسه؟ بالتأكيد إن فكره ضعيف، وينقاد بسهولة إلى الملذات الدنيئة، كما أن جسده خاضع تحت طغيان الفساد والموت وأيضًا أَجَل حياته قصير ومحدود. وليس هذا هو كل شيء، لأننا وُلدنا عراة، ولذلك فالغنى والثروة والكرامة العالمية إنما تأتينا من خارجنا وهى ليست ملكًا لنا في الواقع، لأن هذه الأشياء ليست من خصائص طبيعتنا. لذلك فلأي سبب ينتفخ فكر الإنسان؟ ماذا هناك عنده حتى يرفعه إلى التشامخ والتباهي؟ فإذا نظر أي واحد منا إلى حالته بذهن متفهّم، فإنه سيصير مثل ابرآم الذي لم يفتر من جهة طبيعته فدعا نفسه ” تراب ورماد” (تك 27:18)، وآخر يقول أيضًا: ” كم بالحري الإنسان الرمة وابن آدم الدود” (أي 6:25). وهذا الذي هو دود ورمّة وتراب ورماد، هذا العدم نفسه يصير عظيمًا ورائعًا ومكرَّمًا أمام الله إذا ما عرف نفسه، لأنه يُكلَّل من الله بكرامة ومدح، لأن مخلّص ورب الكل يعطي نعمة للمتواضعين، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.