حبة الخردل والخميرة (ملكوت الله) – إنجيل لوقا 13 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو18:13ـ21): ” فَقَالَ: مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللهِ وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟. يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا. وَقَالَ أَيْضاً: بِمَاذَا أُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟. يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ “.
هذه المقارنة هي من النوع الممتاز وهي مناسبة لكي يضع أمامهم ما حدث وما تمّ عند الكرازة الإلهية والمقدَّسة بالإنجيل، هذه الكرازة بالإنجيل يعطيها هنا اسم ملكوت السموات، لأنه عن طريق الإنجيل نقتني نحن حق الاشتراك في ملكوت المسيح. ففي البداية كُرز بالإنجيل لأشخاص قليلين، وعلى نطاق ضيق، لكن فيما بعد اتسعت دائرة تأثير الإنجيل وانتشر ووصل إلى كل الأمم، لأنه في البداية كَرَزَ به الرب في اليهودية فقط حيث كان التلاميذ المباركين قليلين جدًّا في العدد، لكن بعد أن عصى إسرائيل، ورفضوا الإنجيل أُعطيت الوصية للرسل الأطهار أن ” يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم” (انظر متى 19:28). فكما أن حَبَّة الخردل هي أصغر في الحجم من جميع البذور لكنها تنمو وترتفع إلى علو عظيم، أكبر جدًّا عما هو معتاد بين الأشجار، حتى أنها تصير مأوى لطيور السماء. كذلك أيضًا ملكوت السموات الذي هو الكرازة الجديدة والمقدَّسة بالخلاص، والتي بها ننقاد إلى كل عمل صالح ونعرف ذلك الذي هو الله بالطبيعة وبالحق، تلك الكرازة قد تمّ توجيهها في البداية إلى أشخاص قلائل، وبينما كانت تلك الكرازة صغيرة ومحدودة أولاً فإنها نَمَتْ وانتشرت بعد ذلك انتشارًا سريعًا. وصارت هذه الجماعة النامية ملجأ لكل من يهرب إليها طالبًا الخلاص. هؤلاء لأنهم بشر صغار بالمقارنة بالله، يمكن تشبيههم بالطيور.
إن ناموس موسى قد أُعطى للإسرائيليين، ولكن حيث إن سكان الأرض لم يكن ممكنًا إنقاذهم بواسطة الظل الذي كان يحتويه الناموس بعبادته المادية، لذلك كان أمرًا ضروريًا أن يُكرز ببشارة الإنجيل الخلاصية. وهكذا انتشرت سريعًا هذه الكرازة إلى كل من يحيا تحت السماء. وهذا ما أشار به إلينا حرف الناموس الموسوي في لغز لأنه هكذا يقول: “ وكلَّم الرب موسى قائلاً: اصنع لك بوقين من فضة مسحولين[1] تعملهما فيكونان لك لمناداة الجماعة ولارتحال المحلات ” (عدد 1:10 ،2). وقال بعد ذلك في الحال: “وبنو هارون الكهنة يضربون بالأبواق، فتكون لكم فريضة أبدية في أجيالكم” (عدد 8:10). والقصد بهذا الكلام هو أن نفهم كلاً من التدريب الإعدادي للناموس والكمال الذي يتم الوصول إليه في المسيح بواسطة طريقة الحياة بالإنجيل والتعليم الذي يفوق الظلال والرموز.
إذن فالناموس هو بوق، وكذلك أيضًا بشارة الإنجيل المخلِّصة هي بوق، لأنه بهذا الاسم أيضًا يذكرها (البشارة) إشعياء النبي فيقول: ” يكون في ذلك اليوم أنه يضرب ببوق عظيم” (إش 13:27). لأنه قد انطلق في الواقع بوق عظيم بواسطة صوت الرسل القديسين دون إلغاء البوق الأول، بل احتووه أيضًا في كرازتهم، لأنهم كانوا دائمًا يبرهنون على كل ما يقولون بخصوص المسيح، من الناموس والأنبياء، مستخدمين شهادات الأزمنة القديمة.
إذن كان هناك بوقان مسحولان مصنوعان من الفضة، حيث الفضة تشير إلى البهاء، لأن كل كلمة من الله هي مجيدة وليس فيها شيء من ظلمة العالم. وطَرْقُ المعدن أظهر أن البوق المقدس والإلهي، أي كلاً من الكرازة الجديدة والقديمة ستتقدمان وتنميان إلى الأمام لأن ما يُطرق يمتد، كما لو كان امتداده باستمرار إلى الأمام كما يمتد في العرض والطول.
الآن عندما جاء المسيح لأجل سكان الأرض، فإن الناموس القديم تقدَّم ونما إلى تفسيره الروحي لأننا نكرز به نحن الذين قد بلغنا إلى الاستنارة الروحية في المسيح، وهكذا كان لابد لرسالة الإنجيل أنَ تنتشر إلى أن احتضنت العالم كله.
إن الناموس قد أعطى الكهنة أن يستخدموا الأبواق ليأمروا الشعب، أما المسيح فقد أعطى لخدَّام البشارة الجديدة ـ أي الرسل القديسين ـ الوصية بأن يكرزوا به وبتعاليمه. لأنهم يعلنون سره مستخدمين ـ كما لو كان ـ بوقين، والبوقان يكرزان به، لكونهم: ” منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة ” (لو 2:1)، حيث إنهم أضافوا ـ تأكيدًا لكلماتهم ـ الشهادات الصادقة للناموس والأنبياء.
وليس من العسير أن نرى رسالة الكرازة بالإنجيل، مع كونها صغيرة في البداية، لكنها قفزت حالاً، إلى ازدياد عظيم، حيث إن الله قد سبق وأخبر عن هذا بصوت إشعياء فقال: “ لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطى المياه البحر” (إش 9:11). لأن كرازة الخلاص تنفجر في كل موضع مثل بحر، وسيرها إلى الأمام لا يمكن مقاومته. وهذا أيضًا أخبرنا به إله الكل بوضوح بصوت النبي: ” والحق سيتدفق كمياه والبر كفيضان لا شيء يعيقه” (عا 24:5 س). لأنه يعطى اسمي الحق والبر لرسالة الإنجيل، ويمنحنا تأكيدًا أنه سيتدفق على العالم كمياه وفيضان، والذي تندفع مجاريه بقوة لا يمكن للإنسان أن يوقفها.
ملكوت الله والخميرة:
ونفس طريقة التفسير تنطبق حسنًا على ملكوت الله عندما يُقارن أيضًا بالخميرة، لأن الخميرة مع أنها صغيرة في الحجم لكنها تمسك بالعجين وتنتشر فيه كله وتنقل إليه بسرعة كل خواصها. وكلمة الله تعمل فينا بطريقة مشابهة، لأنه حينما نقبلها في داخلنا، فهي تجعلنا مقدّسين وبلا لوم، وتغزو ذهننا وقلبنا وتجعلنا روحيين كما يقول بولس الرسول: ” لتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1تس 23:5). وكون أن الكلمة الإلهية تنسكب إلى عمق ذهننا، هذا يُظهره إله الكل، حيث يقول بواسطة أحد الأنبياء القديسين: ” ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب، بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب، أجعل شرائعى في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم” (إر 30:31ـ33 س).
لذلك نحن نقبل في أذهاننا وأفهامنا الخميرة العقلية والإلهية، لكي بهذه الخميرة الثمينة والمقدَّسة والنقية نوجد روحيًا غير مختمرين بالشر إذ ليس فينا شيء من شر العالم لأن القوة المحييّة التي لتعليم الإنجيل إذ تدخل إلى الذهن فهي تحوِّل النفس والجسد والروح إلى خواصها الذاتية (انظر 1كو 7:5)، ولذلك نكون أنقياء ومقدَّسين وشركاء للمسيح الذي به وله مع الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.