مثل شجرة التين – إنجيل لوقا 13 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو6:13ـ9)[1]: ” وَقَالَ هَذَا الْمَثَلَ: كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَرًا وَلَمْ يَجِدْ. فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَرًا فِي هَذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟. فَأَجَابَ وقال له: يَا سَيِّدُ اتْرُكْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضًا حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَرًا وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا“.
يُظهِر المرنِّم اللطف الفائق للمسيح مخلّصنا كلنا بهذه الكلمات: “ يا رب من هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده” (مز 4:8). لأن الإنسان من جهة طبيعته الجسدية هو تراب ورماد، ليس من جهة هيئته الجسدية بل بالأحرى بسبب أنه يستطيع أن يكون بارًا وصالحًا ولائقًا لكل فضيلة. لذلك يعتني به الخالق لكونه خليقته وكي يزيِّن به الأرض لأنه كما يقول إشعياء النبي: ” لم يخلقها باطلا (بل) للسكن صوَّرها” (إش 18:54)، فهي مسكونة بالطبع بكائن حيّ عاقل يمكنه بعيني الذهن أن يدرك خالق الكون وصانعه وأن يمجّده مثل الأرواح العلوية. ولكن بسبب أنه انحرف بعيدًا نحو الشر بسبب حيل الحيّة الخادعة، وبسبب أنه قُيِّدَ بسلاسل الخطية وابتعد تماما عن الله، فالمسيح لكي يُمكِّنه أن يرتفع مرة ثانية إلى فوق؛ جاء لكي يبحث عنه ويشكِّله من جديد على الصورة التي كان عليها في الأول، ومنحه التوبة كطريق يقوده للخلاص.
لذلك فهو يقدِّم مثلاً حكيمًا، لكن ينبغي علينا أولاً أن نشرح ما هي المناسبات التي أدت إلى ذلك، أو ما هي الضرورة التي دعت الرب أن يقدِّم هذا المثل. فقد كان هناك البعض الذين أخبروا المسيح مخلّصنا كلنا أن بيلاطس قَتَل ـ بطريقة وحشيّة وبلا شفقة ـ بعض الجليلين وخلط دمهم بذبائحهم. وآخرون أخبروا عن برج سلوام الذي سقط وقَتَل ثمانية عشر شخصًا تحت أنقاضه. ويشير المسيح بعد ذلك لهذه الأشياء بقوله لسامعيه: ” الحق أقول لكم إنكم إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون“. هذا هو أساس وأصل المثل الحالي، وما يهدف إليه.
والآن فالمعنى الظاهري لهذه الفقرة لا يحتاج إلى كلمة واحدة لتفسيره، لكن عندما نفحص في المغزى الداخلي والخفي، فإننا نؤكد ما يلي: كان حقاً على الإسرائيليين بعد صلب مخلّصنا أن يقعوا في البلايا التي يستحقونها، فحوصرت أورشليم وذُبح السكان بسيف العدو ولم يَهلَكوا هكذا فقط، بل أُحرقت بيوتهم بالنار، وحتى هيكل الله قد دُمِرَ. لذلك فمن المحتمل أنَّ الرب يشبِّه مجمع اليهود بشجرة تين، لأن الأسفار المقدَّسة تشبّههم أيضاً بنباتات مختلفة، مثلاً بالكرمة وبالزيتونة وحتى الغابة، لأن هوشع النبي يقول مرّة عن أورشليم أو بالأحرى عن سكانها: “ إسرائيل كرمة ممتدة” (هوشع 1:10س)، ويقول إرميا النبي أيضًا: ” زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك. بصوت ضجة عظيمة، أوقد ناراً عليها فانكسرت أغصانها” (إر 16:11). ويقارنها أحد الأنبياء القديسين بجبل لبنان فيتكلّم هكذا: ” افتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك” (زك 1:11)، لأن الغابة التي كانت في أورشليم والناس الذين كانوا هناك وكانت أعدادهم كبيرة أُبيدوا كما بنار. لذلك فكما قلت، فإن الرب يأخذ شجرة التين التي تكلّم عنها في المثل كرمز للمجمع اليهودي أي للإسرائيليين. ويقول: ” هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة فلم أجد“. وأنا أرى أن الرب يشير لنا بهذه الثلاث سنوات إلى ثلاث فترات متعاقبة لم يأتِ أثناءها المجمع اليهودي بأية ثمار. ربما يمكن للمرء أن يقول إن الفترة الأولى منها كانت تلك التي عاش فيها موسى وهارون وأبناؤه الذين خدموا الله متقلّدين وظيفة الكهنوت بحسب الناموس. الفترة الثانية كانت فترة يشوع ابن نون والقضاة الذين جاءوا من بعده، والفترة الثالثة كانت تلك التي ازدهر فيها الأنبياء المباركون إلى زمن مجيء يوحنا المعمدان. أثناء تلك الفترة لم تأتِ إسرائيل بأي ثمر.
ولكنني أتخيّل أن البعض يعترضون على هذا قائلين: ” ولكن انظر، فإنها قد أكملت الخدمة التي أمر بها الناموس وقدَّمت الذبائح التي هي عبارة عن دم الضحايا وحرق البخور”. ولكن على هذا نجيب: أنه في كتابات موسى كان هناك فقط ظل للحق (وليس الحق ذاته)، وخدمة مادية وبدائية. لم تكن هناك بعد خدمة بسيطة نقية وروحية مثل التي نؤكد أن الله يحبها أصلاً والتي تعلَّمناها من المسيح الذي قال: ” الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو 24:4). لذلك، فإن ما يعتبر أنه المشيئة الحسنة للآب، التي هي أيضًا مشيئة الابن، فإن العبادة التي كانت تتكون من ظلال ورموز هى غير مقبولة وخالية تمامًا من الثمر من جهة ما يختص بالرائحة الروحانية الحلوة، ولذلك رُفضت هذه الخدمة، لأن المخلِّص يعلِّمنا هكذا عندما يقول لله الآب في السماء: “ بذبيحة وتَقدُمة لم تُسَرَّ، محرقة وذبيحة خطية لم تطلب” (مز 6:39 س). وأيضًا يقول الرب نفسه بفم إشعياء لمن كانوا يريدون إتمام الذبائح: ” لأن مَنْ طلب هذا من أيديكم؟ لا تدوسوا دوري بعد، لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة، البخور هو مكرهة لي” (إش12:1ـ13). لذلك هو يقول: ” هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد، أقطعها، لماذا تبطل الأرض أيضًا” (لو 7:13)، كما لو كان يود أن يقول: دعْ موضع شجرة التين العقيمة فارغًا، لأنه سيزرع مكانها فيما بعد أشجار أخرى، وهذا أيضًا قد تم لأن جموع الأمميين قد دُعوا ليحلوا محلهم ويمتلكوا ميراث الإسرائيليين. إنهم صاروا شعب الله، زرع الفردوس، نبتة صالحة ومكرّمة تعرف كيف تثمر ثمرًا ليس في ظلال ورموز، بل بالأحرى بخدمة طاهرة وكاملة بلا عيب أي تلك التي تُقدَّم بالروح وبالحق لله الذي هو كائن غير مادي.
لذلك
قال صاحب الأرض إن شجرة التين التي لم تأت بثمر على مدى فترة طويلة يلزم إنَّ تُقطع. لكن الكرَّام توسل إليه قائلاً: “ يا سيد أتركها هذه السنة أيضًا حتى أنقب حولها وأضع زبلاً، فإن صنعت ثمرًا وإلاّ ففيما بعد تقطعها” (لو 8:13 ،9).
يحق لنا إنَّ نتساءل الآن: مَنْ يكون الكرَّام؟ إن قال أحد إنه الملاك الذي عيَّنه الله كحارس لمجمع اليهود، فإنه لن يكون قد جانب التفسير المناسب، لأننا نتذكَّر أن زكريا النبي كتب أنَّ أحد الملائكة القديسين وقف يُقدِّم توسلات لأجل أورشليم فقال: ” يا رب الجنود إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟” (زك12:1)، ومكتوب أيضًا في سفر الخروج أنه عندما كان فرعون ملك مصر وجنوده يُسرعون في أثر الإسرائيليين وكانوا على وشك الالتحام معهم في معركة؛ أن ملاك الرب وقف بين معسكر الإسرائيليين ومعسكر المصريين ولم يقترب أحدهما من الآخر طوال الليل. لذلك لا يوجد ما يمنع أن نفترض هنا أن الملاك المقدَّس الذي كان حارسًا للمجمع اليهودي قدم توسلات لأجله وطلب مهلة، فربما يأتي المجمع بثمار لو أنه أذعن وخضع لله.
لكن لو كان لأحد أن يقول إن الكرّام هو الابن، فوجهة النظر هذه لها ما يبررها، لأنه هو شفيعنا لدى الآب (انظر 1يو 1:2)، أى” كفّارتنا”، وراعي نفوسنا الذي يشذّب نفوسنا دائمًا مما يضّرنا، ويملأنا ببذار عقلية ومقدَّسة لكي نأتِ له بثمر وهكذا تكلّم عن نفسه قائلاً: ” خرج الزارع ليزرع زرعه” (لو 5:8). ولا ينقص من مجد الابن أنه يتخذ صفة الكرّام، لأن الآب نفسه أخذ هذه الصفة أيضًا دون أن يتعرض لأي لوم بسبب ذلك، لأن الابن قال للرسل القديسين: ” أنا الكرمة وأنتم الأغصان، وأبي الكرّام” (انظر يو 1:15)، لأنه يلزم استخدام التعبير اللفظي من حين لآخر لكي يتمشّى مع الافتراضات الموضوعة.
لذلك، فلنعتقد أنه هو الشفيع لأجلنا وهو يقول: ” اتركها هذه السنة أيضًا حتى أنقب حولها وأضع زبلاً“. فما هو المقصود إذن بهذه السنة؟ من الواضح إنَّ هذه السنة الرابعة هي الزمن الذي يأتي بعد تلك الفترات السابقة أي هي تلك التي فيها صار كلمة الله الوحيد إنسانًا، يستحث بنصائحه الروحية الإسرائيليين الذين ذبلوا بالخطية، وينقّب حولهم ويدفّئهم ليجعلهم حارين في الروح، لأنه توعّدهم مرارًا بالخراب والدمار والحروب والمذابح والحرائق والأسَرْ والسخط الذي لا يخمد، بينما من الناحية الأخرى، فقد وعد أنهم إن آمنوا به وصاروا في النهاية أشجارًا مثمرة فسوف يعطيهم الحياة والمجد ونعمة التبني، وشركة الروح القدس وملكوت السموات. لكن إسرائيل كان عاجزًا عن أن يتعلم حتى من هذا أيضًا. لقد ظَلَّ شجرة تين عقيمة ويستمر هكذا. لذلك قُطعت الشجرة لكي لا تُشغل الأرض باطلاً ونبت عوضًا عنها ـ كنبات خصيب ـ كنيسة الأمم، الجميلة وحاملة الثمار والمتأصلة بعمق، والتي لا يمكن أن تتزعزع لأنهم قد حُسبوا كأولاد إبراهيم، وطُعِّموا في شجرة الزيتون الجيدة الأصل، لأن الأصل قد حُفظ، وإسرائيل لم يهلك تمامًا.
أما كونها استحقت القطع لأجل عقمها التام، فهذا أعلنه أيضًا يوحنا المعمدان بهذه الكلمات: ” والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا تُقطع وتُلقي في النار” (لو 9:3)[2].
[1] نلاحظ هنا إنَّ القديس كيرلس قد حذف في شرحه الأعداد من (1ـ5)، لكنه أشار بعد ذلك إلى أن ما جاء في هذه الأعداد كان هو المناسبة التي دعت الرب أن يقدِّم مثل شجرة التين.
[2] بقية هذه العظة وكل عظة 97 وبداية عظة 98 مفقودة في المخطوطة الأصلية.