تمييز زمن المسيح – إنجيل لوقا 12 ج10 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لوقا 12: 54 ـ 59) “ ثُمَّ قَالَ أَيْضًا لِلْجُمُوعِ: إِذَا رَأَيْتُمُ السَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَغَارِبِ فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ. فَيَكُونُ هَكَذَا. وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ الْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ. فَيَكُونُ. يَا مُرَاؤُونَ تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَأَمَّا هَذَا الزَّمَانُ فَكَيْفَ لاَ تُمَيِّزُونَهُ؟. وَلِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟. حِينَمَا تَذْهَبُ مَعَ خَصْمِكَ إِلَى الْحَاكِمِ ابْذُلِ الْجَهْدَ وَأَنْتَ فِي الطَّرِيقِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ لِئَلاَّ يَجُرَّكَ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الْحَاكِمِ فَيُلْقِيَكَ الْحَاكِمُ فِي السِّجْنِ. أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ“.
أولئك الأطباء المدقِّقون في عملهم والذين صاروا ماهرين بالممارسة الكثيرة، يشفون المرضى من أمراضهم باستخدام أنواع متعددة من الأدوية، والتي بواسطتها يُسكِّنون الآم الناس المبرحة، جامعين من كل الأصقاع كل ما من شأنه أن يفيدهم. وهذا ما يفعله المسيح مخلِّص الكل هنا أيضًا، لأنه طبيب الأرواح وهو يخلِّصنا من أمراض النفس، لأنه قال أيضًا بواسطة واحد من الأنبياء القديسين: ” ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم” (إر3: 22). وإذ قد عرف النبى إرميا هذا الأمر، قدَّم توسلاته إليه بهذه الكلمات: ” اشفني يا رب فأُشفى، خلِّصني فأخلُص لأنك أنت مجدي” (إر17: 14 س).
لذلك لاحظوا كيف يُعِد لنا دواء النصح، ليس كما اعتاد أن يوجِّه كلامًا مباشرًا، بل إن جاز القول يخلطه، وكما لو كان ينسج معه صُوَرًا توضيحيَّة مأخوذة من أمثلة، ليجعل الحديث أكثر نفعًا جدًّا، لأنه يكلم الجموع قائلاً: ” إذا رأيتم السحاب تطلع من المغرب فللوقت تقولون إنه يأتي مطر فيكون هكذا، وإذا رأيتم ريح الجنوب تهب تقولون إنه سيكون حر فيكون “. لأن الناس يُركِّزون انتباههم على أشياء من هذا النوع، وبمداومة الملاحظة والممارسة يخبرون مقدمًا متى سيسقط المطر أو بحدوث عواصف شديدة. ويلاحظ المرء أن البحَّارة على الأخص ماهرون جدًّا في هذا الأمر. لذلك فهو يقول، ألا يليق حسنًا بأولئك الذين يمكنهم أن يحسبوا أشياء من هذا النوع، ويتنبأون إن كانت العواصف على وشك الحدوث، أن يُثبتوا نظرة نفاذة من عقولهم على الأمور ذات الأهمية أيضًا وما هي هذه الأمور؟
إن الناموس أظهر مقدَّمًا سر المسيح، وأنه بالتأكيد سوف يشرق في الأزمنة الأخيرة على سكان الأرض، وأنه سيصير ذبيحة لأجل خلاص الجميع. لأن الناموس قد أوصى أيضًا بذبح حَمَل كمثال له نحو المساء، وعند إضاءة المصابيح (خر12: 6) نفهم ـ أنه عندما يميل العالم إلى نهايته مثل النهار ـ فإنه ستتم الآلام العظيمة والثمينة والخلاصية حقًّا، وينفتح باب الخلاص على مصراعيه لأولئك الذين يؤمنون به، ويكون نصيبهم سعادة غامرة. لأننا نجد أيضًا المسيح يدعو العروس في نشيد الأنشاد والتي تمثِّل شخصية الكنيسة ويصفها بتلك الكلمات: ” قومي، تعالي يا حبيبتي يا جميلتي، لأن الشتاء قد مضى والمطر مَرَّ وزال، الزهور ظهرت في الأرض وبلغ أوان القضب” (نش2: 10ـ12). لذلك كما قلت، إن سلامًا كالنهر الهادئ كان على وشك أن يظهر بالنسبة لمن يؤمنون به. لكن ضد هؤلاء الذين في عِظَم خبثهم ازدروا بصلاحه ورفضوا المخلِّص، هناك غضب وشقاء مقضي به، وكما لو كان شتاء من العذاب والعقوبة، وذلك من العاصفة التى سيكون من العسير الإفلات منها، لأنهم كما يقول المزمور: ” نار وكبريت، وريح السموم، نصيب كأسهم” (مز10: 6س). ولماذا هذا؟ لأنهم كما قلت رفضوا النعمة التى هي بالإيمان، ولذلك فذنب خطاياهم لا يمكن أن يُمحى، وينبغي لهم أن يتحملوا ـ كما يستحقون ـ العقوبة اللائقة لمن يحبون الخطية. لأنه هكذا عندما يكلم اليهود يقول: ” الحق أقول لكم إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم” (يو8: 24).
وكون الأنبياء الطوباويون أيضًا بشَّروا بسر المسيح بطرق متنوعة، فهذا ما لا يمكن لأحد أن يتشكك فيه. لأن واحدًا منهم هكذا يتكلم باسم شخص الله الآب قائلاً: ” ها أنا واضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة وكل من يؤمن به لا يخزى” (رو9: 33، إش8: 14). لأن أولئك الذين هم في خطاياهم، هم مملوؤن خزيًا، لأنه هكذا قيل في موضع ما عن الإسرائيليين الذين انتهكوا ناموس موسى: ” كخِزي السارق إذا وُجد هكذا يكون خزي بني إسرائيل” (إر2: 26). لكن الذين هم في المسيح بالإيمان، ويفلتون من دنس الخطية هؤلاء يكونون ليس فقط غير مملوءين بالخزي، بل تكون لهم تلك الدالة التى تليق بالأحرار.
لذلك يقول، كان من واجبهم، نعم من واجبهم، لكونهم يملكون الفهم ويقدرون أن يميِّزوا وجه السماء والأرض أن يفحصوا الأمور المستقبلة أيضًا، وألاَّ يَدَعوا تلك العواصف التي تأتي على هذا العالم أن تفلت من ملاحظتهم، لأنه ستكون ريح جنوبية ومطر، أي عذاب ناري لأن ريح الجنوب ساخنة وإنزال تلك العقوبة شديد وحتمي، مثل المطر النازل على من يباغتهم فجأة. لذلك لا ينبغي لهم أن يدعوا زمن الخلاص يعبر عليهم دون أن ينتبهوا له، ذلك الزمن الذي جاء فيه مخلِّصنا، الزمن الذي فيه وَصَلَت معرفة الحق الكاملة إلى البشرية، وأشرقت النعمة التي تطهر الخطاة. وذلك، ليس بواسطة الناموس، لأن ” الناموس لا يكمل شيئًا” (عب7: 19)، إذ له فقط الأمثلة والظلال، بل بالأولى بالإيمان بالمسيح، غير رافضين الناموس بل متمِّمينه بعبادة روحية. لأن الحكيم جدًّا بولس الرسول كتب يقول: ” أفنُبطِل الناموس بالإيمان، حاشا” ذلك الذي قد أعلن عنه بطرق عديدة مسبقًا بواسطة موسى والأنبياء.
لذلك فمن واجبنا أن نسهر ونسعى بسرعة كي نصل إلى الخلاص من خطايانا، أمَّا الوسيلة للإفلات من اللوم قبل أن نصل إلى نهاية حياتنا الطبيعية، فإنه أظهرها بقوله: ” ولماذا لا تحكُمون بالحق من قِبَل نفوسكم. حينما تذهب مع خصمك إلى الحاكم، ابذل الجهد وأنت في الطريق لتتخلَّص منه، لئلا يَجُرّك إلى القاضي، ويسلِّمك إلى الحاكم فيلقيك الحاكم في السجن. أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير” (لو 12: 57–59).
ربما يتخيل البعض أن معنى هذا النص عسير الفهم، لكنه سيصير سهلاً جدًّا لو فحصنا هذا التشبيه بما يحدث بيننا. وهو يقول، لنفترض أن أحدهم قدَّم ضدك شكوى أمام أحد المسئولين إلى المحكمة، وجعلك تؤخذ إلى هناك. لذلك بينما أنت ” في الطريق” أي قبل أن تصل إلى القاضي ” اجتهد” أي لا تملَّ من استخدام كل جهدك حتى تتخلَّص منه، وإلاَّ سيسلِّمك للقاضي، وآنذاك عندما يَثبُت أنك مدين له، فإنك ستسلَّم إلى الحاكم، والحاكم سيلقي بك في السجن حتى توفى الفلس الأخير.
نحن كلنا بلا استثناء الذين على الأرض مدانون بالآثام، والذي له قضية ضدنا ويلومنا هو الشيطان الخبيث، لأنه هو ” العدو والمنتقم” (مز8: 2). لذلك بينما نحن في الطريق أي لم نصل بعد إلى نهاية حياتنا هنا (على الأرض)، لنخلِّص نفوسنا منه، لنتخلَّص من الخطايا التي نحن قد أذنبنا بها، فلنغلق فمه، ولنتمسَّك بالنعمة، أي بالمسيح. هذه التي تحرِّرنا من كل دين وعقوبة، وتخلِّصنا من الخوف والعذاب، لئلا إن لم نتطهَّر من دنسنا، فإننا نقف أمام القاضي ونسلَّم إلى الحاكم، أي المعذبين الذين لا يمكن لأحد أن يفلت من قساوتهم، بل بالحري سينتقمون انتقامًا دقيقًا عن كل خطية، سواء كانت كبيرة أم صغيرة.
إن الذين يفتشون عن زمن مجيء المسيح ولا يجهلون سره بل يعرفون جيدًا أن الكلمة مع أنه إله، أشرق على سكان الأرض وأنه صار مثلنا كواحد منا، هؤلاء هم بعيدون تمامًا عن هذا الخطر، فالمسيح يحرِّرهم من كل لوم. وهو يبارِك بغبطة زائدة أولئك الذين يؤمنون به ويعترفون به كإله وابن الله، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.