جئت لألقى نارًا على الأرض – إنجيل لوقا 12 ج9 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو12: 49 – 53) “ جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟. وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟. أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً. لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ وَالاِبْنُ عَلَى الأَبِ وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا“.
الله الآب أرسل لنا الابن من السماء لأجل خلاص الكل. لأنه قد أعطى للإسرائيليين الناموس كمعين لهم وذلك بحسب الكتاب، وأيضًا تحدث إليهم بواسطة الأنبياء القديسين عن تلك الأشياء التى كانت نافعة لخلاصهم، وقد وعدهم بالخلاص الذي بواسطة المسيح. لكن عندما جاء الزمان الذي كان ينبغي أن تتم فيه الأشياء التي تنبأ بها الأنبياء منذ القديم، أشرق علينا الرب الذي هو الله. وهو يخبرنا سبب ذلك بهذه الكلمات: ” جئتُ لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت!”. لذلك تعالوا لنفحص ما هى طبيعة هذه النار التي يتحدث عنها هنا. هل هي نافعة لمن هم على الأرض؟ هل هي لأجل خلاصهم؟ أم أنها تُعذِّب الناس وتُسبِّب هلاكهم مثل تلك النار المعدَّة لإبليس وملائكته؟
لذلك نحن نؤكِّد أن النار التي أرسلها المسيح هي لأجل خلاص البشر ونفعهم. وقد تفضَّل الله ومنحنا أن تمتلئ قلوبنا بها. لأن النار هنا هي رسالة الإنجيل المخلِّصة وقوَّة وصاياه. فنحن الذين على الأرض الذين كنا باردين وأموات بسبب الخطية، ونجهل ذاك الذي هو الله بالطبيعة وبالحق، تضرم فينا هذه النار حياة التقوى ونصير “حارِّين في الروح“، بحسب تعبير الطوباوي بولس. وبالإضافة إلى هذا نصير نحن شركاء الروح القدس الذي هو كنار داخلنا، لأننا قد اعتمدنا بالنار والروح القدس، لأننا قد عرفنا الطريق إلى هذا بما يقوله المسيح لنا، فى هذه الكلمات: ” الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5).
علاوة على هذا، فمن عادة الكتاب الموحَى به من الله أن يُعطِي أحيانًا اسم النار للكلمات الإلهية والمقدَّسة وللفاعلية والقوة التي بالروح القدس، والتي بها نصير كما قلت: “حارِّين في الروح“. لأن أحد الأنبياء القديسين تكلم الله فيه من جهة المسيح مخلِّصنا هكذا: ” يأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تُسرُّون به، هوذا يأتي قال الرب، ومن يحتمل يوم مجيئه، أو من يَثبُت عند ظهوره، لأنه مثل نار المُمحّص، ومثل أشنان القصَّار، فيجلس كمن هو منقِّيًا وممحِّصًا… كالفضة وكالذهب” (ملا 3: 1ـ3 س). وهو هنا يقصد الجسد المقدس بالحق وغير الدنس، الذي قد وُلِد من العذراء القديسة بواسطة الروح القدس بقوة الآب، لأنه هكذا قيل للعذراء المباركة: ” الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلى تظّللك” (لو1: 35). وهو دعاه ” ملاك العهد” لأنه يُعرِّفنا مشيئة الآب الصالحة، ويخدم هذه المشيئة بالنسبة لنا. لأنه هو نفسه قال لنا: ” لأنِّي أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يو15:15). وأيضًا إشعياء النبي يكتب هكذا من جهته: ” لأنه يولد لنا ولد نُعطَى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعَى اسمه ملاك المشورة العُظمَى” (إش9: 6س). لذلك كما أن الذين يعرفون كيف يُنقُّون الذهب والفضة، فإنهم يذيبون الشوائب التى فيهما باستخدام النار، كذلك أيضًا مخلِّص الكل ينقى قلوب كل الذين قد آمنوا به، بواسطة تعاليم الإنجيل بقوة الروح.
وفضلاً عن ذلك قال إشعياء النبي أيضًا إنه، ” رأى رب الجنود جالسًا على كرسي عال ومرتفع، وحوله وقف السيرافيم يُسبِّحونه” بعد ذلك قال هو لنفسه: ” ويل لي إنِّي هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود” (إش6: 1 و2 و3 و5). ولكنه يضيف إلى هذا أنه ” طار إليَّ واحد من السيرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومسَّ بها فمي وقال إنَّ هذه قد مسَّت شفتيك فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك” (إش6:6و7)، فأي تفسير إذن يجب أن نضعه للجمرة التي مسَّت شفتي النبي وطهَّرته من كل خطية؟ من الواضح أنها رسالة الخلاص، وإقرار الإيمان بالمسيح، فإن كل من يعترف به بفمه يتطهَّر تمامًا وفي الحال. وهذا الأمر يؤكده لنا بولس قائلاً: ” لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت” (رو10: 9).
لذلك نحن نقول إن قوة الرسالة الإلهية تشبه جمرة حيَّة وتشبه النار. ورب الكل قال في موضع ما لإرميا النبي، ” هأنذا جاعل كلامي في فمك نارًا“، ” وهذا الشعب حطبًا فتأكلهم” (إر5: 49) وأيضًا ” أليس كلامي هكذا كنار يقول الرب” (إر23: 29 س). لذلك فبحق قال لنا ربنا يسوع المسيح، ” جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟” (لو12: 49). لأن بعضًا من الجمع اليهودى آمنوا به، وباكورة هؤلاء كانوا التلاميذ القديسين. والنار إذ تشتعل مرة فإنها حالاً ما تمسك بكل العالم، وفي الحال يصل التدبير إلى كماله سريعًا، أي أنه قد احتمل آلامه الثمينة على الصليب وأَمَر رباطات الموت أن تتوقف. لأنه قام في اليوم الثالث من بين الأموات.
وهو يعلِّمنا هذا بقوله: ” ولي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تكمل!” (لو12: 50). ويقصد بصبغته، موته بالجسد، ويقصد بكونه ينحصر بسببها، أنه كان حزينًا ومضطربًا إلى أن اكتملت، لأنه ما الذي كان سيحدث حينما تكتمل؟ الذي كان سيحدث هو أن رسالة الإنجيل المخلِّصة يُكرَز بها ليس في اليهودية فقط. وهو يقارن هذا بالنار عندما يقول: ” جئت لألقي نارًا على الأرض“، بل ينبغي أن تنتشر الآن إلى العالم كله، لأن الكرازة بوصايا وبمجد معجزاته الإلهية كان منحصرًا في اليهودية فقط قبل صليبه الثمين وقيامته من الأموات، ولكن بسبب أن إسرائيل أخطأوا إليه، إذ قتلوا رئيس الحياة فإنه قام سالبًا ـ القبر ـ الغنيمة التي كان قد اغتنمها. وفى الحال أَعطى وصية لرسله القديسين قائلاً: “ اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيكم به” (مت28: 19، 20). لذلك ها أنتم ترون أن تلك النار الإلهية والمقدسة قد انتشرت في كل الأمم بواسطة الكارزين القديسين.
وقد تحدث المسيح عن الرسل القديسين والبشيرين، بواسطة أحد الأنبياء في موضع ما فقال: ” وسيحدث فى ذلك اليوم أني أجعل رؤوس الألوف ليهوذا كمصباح نار بين الحطب وكمشعل نار بين الحزم، فيأكلون كل الشعوب حولهم عن اليمين وعن اليسار” (زك12: 6). وكأنهم أكلوا الشعوب كنار واغتذوا بالأرض كلها، وأشعلوا كل سكانها، الذين ـ كما قلت ـ كانوا باردين وكانوا يعانون من موت الجهل والخطية.
هل تريد أن ترى تأثيرات هذه النار الإلهية والعقلية؟ اسمع إذن مرَّة أخرى كلماته: ” أتظنون أني جئت لأعطي سلامًا على الأرض، كلا أقول لكم، بل انقسامًا” (لو12: 51). ومع ذلك فالمسيح هو سلامنا بحسب الكتب ” أنه نقض حائط السياج المتوسط،… لكي يوحِّد الشعبين في إنسان واحد جديد، صانعًا سلامًا، ويصالح الاثنين فى جسد واحد مع الآب” (أف2: 4، 15). لقد وحَّد الأشياء السفلى بالأشياء العليا، فكيف يكون أنه لم يأت ليعطي سلامًا على الأرض؟ فماذا نقول إذن عن هذه الأشياء؟ ذلك السلام هو مُكرَّم، وهو بالحق أمر سامي جدًّا، ذلك أنه معطَى لنا من الله لأن الأنبياء أيضًا يقولون: ” يا رب أعطنا سلامك لأن كل شيء قد أعطيتنا” (إش26: 12س). لكن ليس كل سلام هو بالضرورة يخلو من العيوب. لأنه يوجد أحيانًا سلام غير مضمون، مثل هذا السلام يفصل عن محبة الله أولئك الذين لا تمييز لهم ولا فحص عندهم بل هم يرفعون من قيمة هذا السلام أكثر مما يستحق. ومثلاً فإن التصميم على تحاشي الأشرار، وعلى أن نرفض أن تكون فى سلام معهم وأعني به أن لا نقبل أن نشاركهم فى نفس عواطفهم ـ هو شيء مفيد ونافع لنا. وبنفس الطريقة فإن الاتجاه المضاد هو مؤذي لأولئك الذين آمنوا بالمسيح وأدركوا معرفة سرّه، فمن غير النافع لمثل هؤلاء أن يرتضوا اتِّباع نفس المشاعر مثل أولئك الذين ابتعدوا عن الطريق المستقيم، وسقطوا فى شبكة الضلال الوثني، أو أُمسكوا فى حبائل الهرطقات الخبيثة، إنه لأمر كريم أن نقاوم مثل هؤلاء، وأن نتهيَّأ للحرب ضدهم وأن نفتخر بالتمسُّك بمشاعر عكس مشاعرهم. وحتى إن كان ذلك الذي لا يؤمن هو أب، فيكون الابن غير ملام عندما يناقضه ويقاوم آراءه.
وبنفس الطريقة أيضًا لو كان الأب مؤمنًا ومخلِصًا لله، لكن له ابن عاصي وله دوافع شريرة وهو يقاوم مجد المسيح، فإن الأب يكون أيضًا غير مُلام لو تجاهل العواطف الطبيعية من الأبوة له. ونفس الوضع يكون من جهة الأم والابنة، والكنَّة والحماة. لأنه من الصواب أن أولئك الذين هم فى ضلال ينبغي أن يتبعوا ذوي التفكير الصحيح، وليس العكس، إن أولئك الذين اختاروا أن تكون لهم مشاعر صحيحة ولهم معرفة سليمة بمجد الله يجب ألا يستسلموا للأشرار.
وهذا أعلنه المسيح لنا أيضًا بطريقة أخرى فقال: ” من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني” (مت10: 37). لذلك عندما تُنكِر أباك بالجسد لأجل تقواك تجاه المسيح، فإنك ستقتني لك أبًا أي الآب الذي هو في السموات. ولو أنك تخلَّيت عن أخيك لأنه أهان الله برفضه أن يخدمه، فالمسيح سيقبلك كأخ له، لأنه مع إنعاماته الأخرى قد أعطانا هذه العطية أيضًا قائلاً: ” أُخبِر باسمك إخوتي” (مز21: 22 س). اترك أمك بحسب الجسد واتخذ لك تلك التي هي فوق، أورشليم السماوية ” التى هي أمنا جميعًا” (غلا4: 26). وهكذا سوف تجد نَسَبًا مجيدًا وعاليًا في أسرة القديسين. ومعهم ستصير وارثًا لمواهب الله، التي لا يمكن للعقل أن يدركها ولا للسان أن يخبر بها، التي يمكن أن نُحسَب أهلاً لها بنعمة ورأفة ومحبة المسيح، مخلِّصنا كلنا، الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.