الوكيل الأمين الحكيم – إنجيل لوقا 12 ج8 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو12: 41ـ 48) “ فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: يَا رَبُّ أَلَنَا تَقُولُ هَذَا الْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضاً؟. فَقَالَ الرَّبُّ: فَمَنْ هُوَ الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الْعُلُوفَةَ فِي حِينِهَا؟. طُوبَى لِذَلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هَكَذَا!. بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. وَلَكِنْ إِنْ قَالَ ذَلِكَ الْعَبْدُ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. يَأْتِي سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا فَيَقْطَعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ. وَأَمَّا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ فَيُضْرَبُ كَثِيراً. وَلَكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ“.
إنه أمر صالح ويؤدِّي إلى خلاصنا أن نوجِّه نظرة سريعة نفَّاذة من عقلنا إلى كلام الله، لأنه مكتوب عن الكلمات التى يقولها الله: ” من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور، أو فهيم حتى يعرف معناها” (هو14: 9س)، لأن مجرد السماع وقبول الكلمة المنطوقة في الأذن، هو أمر مشترك بين الناس: للحكماء ولغير الحكماء، لكن عادة النفاذ العميق إلى الأفكار النافعة يوجَد فقط لدى من هم بالحق حكماء. لذلك فلنطلب هذا الأمر من المسيح، لنقتدى بالطوباوي بطرس ذلك التلميذ المختار، ذلك الوكيل الأمين، والمؤمن الحقيقى، الذي عندما سمع المسيح يقول كلامًا له منفعة عظيمة لهم، طلب أن يشرح له (الرب) ما قاله، ولم يَدَع الأمر يعبر بدون فهم، لأنه لم يكن قد أدرك معناه بوضوح بعد، لأنه قال: ” يا رب ألنا تقول هذا المثل أم للجميع أيضًا؟” (لو12: 14). إنه يسأل: هل هذا قانون عام يسري على الكل بالتساوي، أم هو يناسب فقط أولئك الذين هم أعلى من الباقين؟ فما الذي أزعج التلميذ الحكيم، أو ما الذي جعله يرغب أن يتعلَّم أمورًا كهذه من المسيح؟ لذلك فسوف نناقش هذه النقطة أولاً.
إذن توجد بعض وصايا تناسب فقط أولئك الذين قد وصلوا إلى الكرامات الرسولية، أولئك الذين امتلكوا معرفة أكثر من المعتاد وامتلكوا فضائل روحية أعظم، بينما هناك وصايا أخرى تخُص من هم فى حالة أدنى، ويمكننا أن نرى مما كتبه المغبوط بولس إلى بعض تلاميذه أن هذا الكلام الصحيح ـ بحسب ما قلته: ” سقيتكم لبنًا لا طعامًا لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون، بل والآن أيضًا لا تستطيعون، أما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرُّن قد صارت لهم الحواس مدرَّبة على التمييز بين الخير والشر” (كو3: 2)، (عب5: 14). فمثلاً كما أن الأحمال الثقيلة جدًّا يمكن أن يحملها أشخاص لهم بِنيَة قوية جدًّا، وهذا ما لا يقدر عليه ذوو البنية الضعيفة، هكذا يمكننا أن نتوقَّع بصواب مِن أصحاب الذهن القوي أن يُتمِّموا الوصايا البسيطة والسهلة جدًّا والخالية من كل صعوبة، فإنها تناسب أولئك الذين لم يصلوا بعد إلى هذه القوَّة الروحية. لذلك فإن الطوباوي بطرس إذ فكَّر في نفسه في قوة الكلام الذي قاله المسيح، سأل بصواب، هل يشير كلام الرب إلى كل المؤمنين، أم هم وحدهم أي الذين دعوا، وخاصة أولئك الذين شُرِّفوا بعطية السلطات الرسولية؟
وماذا كان جواب ربنا؟ إنه استخدم مثالاً واضحًا صريحًا جدًّا، ليظهِر أن الوصية موجَّهة بنوع خاص إلى أولئك الذين يشغلون مركزًا أكثر كرامة، وقد قُبِلوا في رتبة المعلِّمين. لأنه يقول: ” فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم طعامهم فى حينه” (لو12: 42). إنه يقول: ” لنفترض رب بيت كان مزمعًا أن يسافر في رحلة، أَوْكَلَ لواحد من عبيده الأُمناء مهمَّة تدبير كل بيته، لكى يعطي أهل البيت (أي خدَمَه)، الطعام المستحق لهم في حينه. ويقول، لذلك عندما يعود إلى بيته، إن وجده يفعل هكذا كما أمره، سيكون ذلك العبد مغبوطًا جدًّا ويقول إنه سوف يقيمه على جميع أمواله. ولكن إن كان مهملاً وكسولاً ويُسرّ بضرب العبيد رفاقه ويأكل ويشرب مُستسلِمًا لأهوائه وشهواته، فحينما يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها فإنه سيشقّه من وسطه، أي أنه سيعاقبه بأشر عقوبة”.
هذا هو المعنى البسيط والواضح للفقرة، والآن إن ثبَّتنا ذهننا بدقَّة في النص، سنرى ما هو المقصود به، وكيف أنه نافع لأولئك الذين دُعُوا إلى الرسولية، أي إلى وظيفة المعلِّم. لقد أقامهم المخلِّص كوكلاء على خَدمَه ـ أي على أولئك الذين تمَّ ربحهم بواسطة الإيمان لكى يعرفوا مجده ـ أناس أمناء ولهم فهم عظيم ومتعلِّمين جيدًا في التعاليم المقدسة. وقد أقامهم وأمرهم أن يعطوا العبيد رفقاءهم ما يحق لهم من الطعام، وذلك ليس اعتباطًا وبدون تمييز، بل بالأحرى فى الوقت المناسب وأقصد به الطعام الروحي كما يكفي لكل فرد ويناسبه. لأنه لا يليق أن نقدِّم تعليمًا عن كل النقاط لكل الذين قد آمنوا بالمسيح، لأنه مكتوب: ” معرفة اعرف نفوس قطيعك” (أم27: 23 س). لأن الطريقة التى بها نثبِّت في طريق الحق مَن قد بدأ الآن أن يصير تلميذًا هي مختلفة تمامًا، إذ أننا نستعمل فيها تعليمًا بسيطًا لا يكون فيه شيء عميق أو صعب الفهم، ناصحين إيَّاه أن يهرب من ضلال تعدُّد الآلهة، وبطريقة مناسبة نُقنعه أن يعرف بواسطة جَمَال الأشياء المخلوقة، الصانِع والخالِق العام الذي هو واحد بالطبيعة، وهو الله بالحقيقة. وتلك الطريقة تختلف عن الطريقة التي نُعلِّم بها أولئك الذين هم أكثر ثباتًا فى الذهن، ويقدرون أن يفهموا ما هو العُلُو والعمق والطول والعرض، وأن يدركوا تعريفات اللاهوت الفائق. لأنه كما سبق وقلنا: ” وأما الطعام القوي فللبالغين“.
لذلك فمن يُقسِّم لرفقائه في العبودية بحكمة، في الوقت المناسب نصيبهم بحسب احتياجهم أي طعامهم، فإنه يكون مغبوطًا جدًّا بحسب كلمة المخلِّص، لأنه سيُحسَب مستحقًّا لأمور أعظم، وسوف ينال مكافأة مناسبة لأمانته. إنه يقول ” لأنه يقيمه على جميع أمواله“. وهذا قد علَّمنا إياه المخلِّص في موضع آخر، حيث يمتدح العبد الأمين والنشيط بقوله: ” نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك” (مت25: 21).
ويقول الرب إنه لو أهمل واجبه في أن يكون مجتهدًا وأمينًا، وازدرى بالسهر في هذه الأمور كأنَّ السَّهَر ليس مهمًّا، وجعل ذهنه يسكر بالاهتمامات الدنيويَّة، وسقط في سلوك غير لائق، فيتسلَّط بالقوَّة، ويظلم أولئك الخاضعين له، ولا يعطيهم نصيبهم، فإنه سيكون في قمَّة التعاسة. لأني أظن أن هذا هو المقصود بأنه يُقطع. ويقول “ويجعل نصيبه مع الخائنين“. لأن كل من أساء إلى مجد المسيح، أو تجاسر أن يستخف بالقطيع المؤتمن على رعايته، فإنه لا يختلف مِن أي ناحية عن أولئك الذين لم يعرفوا الرب أبدًا، ومثل هؤلاء الأشخاص سيُحسبون بحق ضمن أُولئك الذين لم يعرفوا الرب أبدًا. ومثل هؤلاء الأشخاص سيحسبون بحق ضمن أولئك الذين ليس لهم محبة نحو الرب، لأن المسيح أيضًا قال ذات مرَّة للمغبوط بطرس: ” يا سمعان بن يونا، أتحبني! ارع خرافي، وارع غنمي” (يو21: 16، 17). لذلك إن كان من يرعى خرافى يحبها، هكذا بالطبع فمن يهملها ويترك الخراف التى قد أؤتمن عليها بدون رعاية، فإنه يبغضها، وإن أبغضها فسيعاقَب، ويكون عرضة للدينونة المحكوم بها على غير المؤمنين (الخائنين)، لأنه يُدان بسبب إهماله وازدرائه، وهكذا كان ذلك الذي نال الوزنة ليتاجر بها في الروحيات ولم يفعل، بل بالعكس أحضر ما قد أُعطيَ له بدون ربح قائلاً ” يا سيد عرفتُ أنك إنسان قاس تحصد حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبذر، فخفتُ ومضيتُ وأخفيتُ وزنتك في الأرض، هوذا الذي لك” (مت25: 24 ـ25). لكن الذين أخذوا الخمس وزنات أو أكثر منها، وتعبوا وأحبُّوا الخدمة، قد شُرِّفوا بكرامات مجيدة لأن واحدًا منهم سمع القول: ” ليكن لك سلطان على عشر مدن” (لو19: 17ـ19) بينما ذلك العبد المستهتِر والكسول لاقى أقصى دينونة. لذلك فهو خطر أو بالحري يُسبِّب هلاك الناس، أن يكون الإنسان مهملاً في تأدية واجبات الخدمة، ولكن تأديتها بغيرة لا تكل يجلب لنا الحياة والمجد. وهذا يعني أن نتكلم مع العبيد رفقائنا بطريقة سليمة وبدون خطأ في الأمور التي تخص الله، وكل ما من شأنه أن ينفعهم فى الوصول إلى المعرفة والمقدرة على السلوك باستقامة. والمغبوط بطرس أيضًا يكتب إلى بعض الأشخاص قائلاً: ” ارعوا رعية الله التي بينكم، ومَتَى ظهر رئيس الرعاة تنالون مكافأتكم” (انظر 1بط5: 2ـ4).
ولأن بولس أيضًا يعرف أن الكسل هو باب الهلاك، يقول: “ويل لي إن كنتُ لا أُبشِّر” (1كو9: 16).
وكون تلك العقوبة المرَّة والحتميَّة تهدِّد كل من هم كسالى في هذا الواجب، هذا ما أظهره المخلِّص في الحال بإضافة مثالين واحدًا بعد الآخر فقال: ” لأن العبد الذي يَعلَم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيُضرَب كثيرًا، ولكن الذي لا يَعلَم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرَب قليلاً“. والآن فإن الذنب لا جدال فيه في حالة مَن عرف إرادة سيده لكنه أهملها بعد ذلك، ولم يفعل ما كان يجب عليه أن يعمله. فإنَّ هذا ازدراء واضح، لذلك يستحق ضربات كثيرة، لكن لأي سبب أُوقِعَت ضربات قليلة على من لم يعرف إرادة سيده ولم يفعلها ! لأنه ربما يسأل أحد، كيف يمكن لمن لم يعرف إرادة سيده أن يكون مذنبًا؟ السبب، هو لأنه لم يعرفها رغم أنه كان في مقدوره أن يتعلَّمها. لكن إن كان الذي تُوقَع عليه ضربات كثير بعدل وهو الذي عرف إرادة سيده واحتقرها؟ ” فكل من أعطِيَ كثيرًا يُطلب منه كثيرًا، ومن يودعونه كثيرًا يطالبونه بأكثر” (لو12: 48).
لذلك، فمن يعلمون دينونتهم كبيرة جدًّا، وهذا أوضحه تلميذ المسيح، بقوله: ” لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم” (يع3: 1). لأن إعطاء المواهب الروحية يكون بسخاء لأولئك الذين هم رؤساء الشعب، لأنه هكذا كتب بولس الحكيم أيضًا فى مكان ما إلى تيموثاوس المغبوط: ” ليعطك الرب فهمًا فى كل شيء” (2تى2: 7) و” لا تُهمل الموهبة التي فيك التي أُعطِيَت لك بوضع يدي” (انظر 2تى1: 6). فهؤلاء الذين أعطاهم مخلِّص الكل كثيرًا هكذا، يطالبهم بكثير. وما هى الفضائل التي يطلبها؟ الثبات فى الإيمان، سلامة التعليم، أن يكونوا راسخين جدًّا في الرجاء، صابرين بلا تزعزع ولهم قوة روحية لا تُغلَب، فرحين وشجعان فى كل إنجاز ممتاز جدًّا، لكي بذلك نكون أمثلة للآخرين في الحياة الإنجيلية لأننا إن عشنا هكذا، فالمسيح سوف ينعم علينا بالإكليل، الذي به ومعه يليق لله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس، إلى أبد الآبدين. آمين.