الكنز السماوي – إنجيل لوقا 12 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو12: 32ـ34) ” لاَ تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاسًا لاَ تَفْنَى وَكَنْزًا لاَ يَنْفَدُ فِي السَّمَاوَاتِ حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ. لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضًا“.
يتنازل المخلِّص مرَّة أخرى لينعم علينا بطريق يؤدِّي إلى الحياة الأبدية، ويفتح لنا باب الخلاص بسِعَة، حتى عندما نسافر على هذا الطريق، ونزيِّن النفس بكل فضيلة، يمكننا أن نصل إلى المدينة التي هي فوق، والتي شهد عنها النبي إشعياء أيضًا قائلاً: “وستنظر عيناك أورشليم، المدينة الغنيَّة، الخيمة التي لا تُقلَع أوتادها إلى الأبد” (إش33: 20س). لأن تلك الخيمة التي في السماء هي غير متزعزعة، والفرح الذي لا ينتهي هو نصيب أولئك الذين يسكنون فيها. والرب يرينا طبيعة الطريق الذي يقودنا إلى هناك بقوله: ” لا تخف، أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت“. هذا، إذن هو حقًا العزاء الروحاني، والطريق الذي يقودنا إلى الإيمان اليقيني.
لذلك، أظن أنه يجب علىَّ قبل كل شيء أن أُوضِّح لكم السبب الذي لأجله تكلم المخلِّص بكلمات مثل هذه، لأنه بذلك يصير المعنى الكامل للفقرة التى أمامنا أكثر وضوحًا للسامعين. لذلك عندما يعلِّم المخلِّص تلاميذه أن لا يكونوا محبِّين للمال، فهو أيضًا يحوِّلهم عن القلق الدنيوي، وعن الأتعاب الباطلة والترف وأُبَّهة الملابس الفاخرة، وكل العادات الرديئة التى تتبع هذه الأمور، ويحثهم بالحري أن يكونوا جادِّين بشجاعة في السعي وراء الأمور التى هي صالحة وممتازة جدًّا، بقوله: ” لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون. لأن الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس” وأضاف أيضًا إلى هذا: ” إن أباكم الذي في السماء يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه” (لو12: 22 و23 و30).
فقد أَعلَن كقاعدة عامة ـ نافعة وضرورية للخلاص ـ ليس فقط للرسل القديسين، بل لكل الساكنين على الأرض، أن الناس يجب أن يطلبوا ملكوته، وهم متيقِّنون أن ما يعطيه هو سيكون كافيًا لهم، حتى أنهم لن يكونوا فى احتياج إلى أي شيء بالمرَّة. لأنه ماذا يقول؟ ” لا تخف أيها القطيع الصغير“. وهو يعنى بـ” لا تخف“، أنهم ينبغي أن يؤمنوا بكل يقين، وبلا أدنى شك أن أباهم السماوي سيعطي وسائل الحياة للذين يحبونه. وهو لن يهمل خاصته، بل بالحري سوف يفتح يده لهم (انظر مز104: 28) وهى التي تُشبِع دائمًا الكون كله بالخير.
وما هو البرهان على هذه الأمور؟ هو يقول إنَّ ” مسرَّة أبيكم الصالحة أن يعطيكم الملكوت“، وذلك الذي يعطي أشياء عظيمة وثمينة بهذا المقدار، ويعطي ملكوت السموات، فكيف يمكن أن تكون إرادته غير مستعدَّة للشفقة علينا، أو كيف لا يُزوِّدنا بالطعام واللباس؟ لأن أي خير أرضي يتساوى مع الملكوت السماوي؟ أو ما هو الذي يستحق أن نقارنه بتلك البركات، التى سيعطيها الله لنا، والتي لا يستطيع الفهم أن يدركها، ولا الكلمات أن تصفها ” ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب إنسان، الأمور التي أعدها الله للذين يحبونه” (1كو2: 9). فحينما تَمدح الغِنى الأرضي، وتَعجَب بالسلطان العالمي، فإن هذه الأشياء ليست سوى العدم بالمقارنة بتلك التي أعدَّها الله لنا. لأنه مكتوب: ” لأن كل جسد كعشب وكل مجد إنسان كزهر عشب” (1بط1: 24). وإن تكلَّمت عن الغِنَى الزمني وأسباب الترف وعن الولائم، فهو يقول: ” العالم يمضي وشهوته” (1يو2: 17)، لذلك فأمور الله تفوق بدرجة لا تُقارَن ما يمتلكه هذا العالم، لذلك فإن كان الله يعطي ملكوت السموات لأولئك الذين يحبونه، فكيف يمكن أن يكون غير راغب أن يعطى اللباس؟
وهو يدعو الذين على الأرض ” القطيع الصغير”.لأننا أقلّ من جموع الملائكة، الذين لا يحصون، ويتفوَّقون بغير قياس في القوة على أمورنا المائتة. وهذا أيضًا قد علَّمنا إياه المخلِّص نفسه، في ذلك المَثَل الوارد في الأناجيل، والذي صيغ ببراعة ممتازة لأجل تعليمنا، لأنه قال: ” أي إنسان منكم له مئة خروف وأضاع واحدًا منها، ألا يترك التسعة والتسعين على الجبال، ويذهب ليطلب ذلك الذي ضل، وإذا وجده فالحق أقول لكم، فإنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين الذين لم يضلُّوا” (لو15: 4ـ5). لاحظوا إذن أنه بينما عدد المخلوقات العقلية يصل إلى مئة، فإن القطيع الذي على الأرض ليس سوى واحد من مئة. ولكن رغم أنه صغير، فى الطبيعة كما في العدد والكرامة، بالمقارنة بجماعات وفِرَق الأرواح غير المحصاة التى هي فوق، إلاَّ أنَّ صلاح الآب الذي يفوق كل وصف قد أَعطَى له أيضًا نصيبًا مع تلك الأرواح المتعالية، وأعني نصيبًا في ملكوت السموات، لأنه قد أعطى الأذن بالدخول لكل من يريد أن يصل إلى هناك.
ونحن نتعلم من كلمات المخلِّص، الوسائل التي نصل بواسطتها إلى الملكوت، لأنه يقول: “بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة“. هذه ربما تكون وصية قاسية ويصعب على الأغنياء أن يحتملوها، لأنه هو نفسه قد قال فى موضع ما: ” ما أعسر دخول الأموال إلى ملكوت الله” (لو18: 24). ومع ذلك فالوصية ليست مستحيلة بالنسبة للذين لهم قلب كامل. فهيَّا بنا، واسمحوا لي أن أُوجِّه كلمات قليلة لأولئك الأغنياء. حوِّل انتباهك قليلاً عن تلك الأمور الزمنية. كُف عن مِثْل هذا الفكر الدنيوي جدًّا، وثبِّت عين عقلك على العالم الآتي فيما بعد، لأنه بلا نهاية. أما هذا العالم فهو محدود وزمنه قصير وفترة حياة كل فرد هنا محدودة بمقياس، أما حياته فى العالم الآتي فهي غير فانية، بل هي دائمة. لذلك فليكن سعينا هو الجري وراء الأمور الآتية، بلا تذبذب أو تردُّد، ولنختزن ككنز لنا، الرجاء فيما سيكون فيما بعد، فلنجمع لأنفسنا مقدَّمًا تلك الأمور، التي بواسطتها سنُحسب عندئذ جديرين بالهبات التى يمنحها الله لنا.
إنه يحثنا أن نعتني بأنفسنا العناية الواجبة، لذلك هيا بنا نُفكِّر في الأمر بيننا وبين أنفسنا بالرجوع إلى الحسابات البشرية العادية. لنفترض أن واحدًا منا أراد أن يبيع مزرعة خصبة وفيرة الإنتاج، أو إن شئت فعندما يكون هناك بيت جميل جدًّا في بنائه، فإن واحدًا منكم ـ الذي يملك كثيرًا من الذهب ووفرة من الفضة ـ تكون له الرغبة فى شرائه، أفلا يشعر بالسعادة عندما يشتريه، ويقدِّم في الحال النقود التي كانت موضوعة فى خزائنه، بل وقد يضيف إلى ما يمتلكه نقودًا أخرى يقترضها؟ لا أظن أنه يمكن أن يكون هناك شك فى هذا الأمر، بل سوف يشعر بالسعادة في تقديم أمواله، لأن الصفقة لن تعرضه للخسارة بل بالحري فإنَّ توقُّعه للأرباح المستقبلة ستجعله فى نشوة فرح. والآن فإن ما أقوله هو مشابه لهذا إلى حد ما. فإله الكل يقدِّم لك الفردوس لتشتريه، وهناك سوف تحصد حياة أبدية، وفرحًا لا نهاية له، ومسكنًا مكرَّمًا ومجيدًا، ولمجرد وجودك هناك سوف تكون مبارَكًا بحق وسوف تملك مع المسيح. لذلك تعال واقترب، بحماس واشتياق، واشترِ المملكة، واحصل على الأمور الأبدية بهذه الأشياء الأرضية. أعطِ ما هو فانٍ، واربح ما هو ثابت ومضمون، أعطِ هذه الأشياء الأرضية واربح تلك التى فى السماء، أعطِ ما لابد أن تتركه ولو كان ضد إرادتك، لكى لا تفقد الأمور الآتية. أقرِض الله أموالك، حتى تكون غنيًّا بالحقيقة.
والطريقة التى تُقرض بها يُعلِّمنا إياها بقوله: ” بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياسًا لا تفنى وكنزًا لا ينفد (أي كنزًا أبديًّا) في السموات“. ونفس هذا الكلام يعلمنا إياه أيضًا داود المبارك في المزامير، حيث يتكلم بالوحي عن كل رجل صالح ورحوم: ” فرَّق، أعطى المساكين، برّه يبقى إلى الأبد” (مز111: 9 س). لأن الغِنَى الدنيوي له أعداء كثيرون، فاللصوص عديدون، وعالمنا هذا مليء بالظالمين الذين اعتاد بعضهم أن يسلبوا بوسائل خفيَّة، بينما البعض الآخر يستعملون العنف لينتزعوا المال حتى من أصحابه عندما يقاومونهم، أما الكنز الذي يوضع فوق في السماء فلا يسرقه أحد لأن الله هو حافظه، وهو الذي لا ينام.
وبجانب هذا، فهو أمر سخيف جدًّا، أنه بينما نحن نأتمن عادة الأشخاص المستقيمين على ثروتنا الأرضية ولا نشعر بالخوف من أي خسارة قد تنتج من ثِقتنا في استقامة أولئك الذين استلموها منا، فإننا لا نأتمن الله عليها وهو الذي يستلم منا هذه الأمور الأرضية، كأنها قَرض وهو يعدنا أنه سوف يعطينا أمورًا أبدية مُضافًا إليها الأرباح. لأنه يقول: ” كيلاً جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا يعطون فى أحضانكم” (لو6: 38). وكون الكيل فائضًا، فهذا برهان مباشر على وفرتها (الأشياء الأبدية) العظيمة جدًّا.
اهربوا إذن بعيدًا عن هذا الغِنَى المحب للذَّة، الذي هو والد الشهوات الوضيعة، وهو المحرِّض على الدنس الجسدي، وهو صديق الطمع وصانع الافتخار الباطل، فهو يربط الذهن البشري بأغلال لا تنفك مؤديًِّا به إلى التخنُّث والتراخي من جهة كل ما هو صالح، وهو يمد عنقًا متصلِّبة ومتعالية ضد الله، لأنه لا يخضع لذلك النير الذي يقود إلى التقوى.
كن رقيقًا، ورحيمًا، وراغبًا فى التواصل مع الآخرين، وبشوشًا. لأن الرب صادق، وهو الذي يقول: ” حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا“. لأن كل أشواق أولئك الذين يقدَّرون تلك الأشياء الزمنية هي موضوعة فيها، بينما أولئك الذين يشتهون تلك الأشياء التي في السماء فإنهم يوجِّهون عين ذهنهم إلى هناك. لذلك، فكما قلتُ: كن صديقًا لرفقائك ورحومًا بهم. وبولس المبارك يجعلني أتحدَّث إليك حيث يكتب: ” أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر ألا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على الغِنَى غير اليقيني، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتُّع، وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، مدَّخرين لأنفسهم كنوزًا سوف تكون أساسًا للمستقبل، لكي يمسكوا بالحياة الأبدية” (1تي6: 17 و18 و19). هذه هي الأشياء التي إن مارسناها بجديَّة، فسوف نصير ورثة لملكوت السموات، بالمسيح يسوع، الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين