عدم الاهتمام بالطعام واللباس – إنجيل لوقا 12 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
عدم الاهتمام بالطعام واللباس – إنجيل لوقا 12 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
عدم الاهتمام بالطعام واللباس – إنجيل لوقا 12 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو12: 22ـ31) ” وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: مِنْ أَجْلِ هَذَا أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ لأن اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ اللِّبَاسِ. تَأَمَّلُوا الْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلاَ مَخْزَنٌ وَاللهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ الطُّيُورِ!. وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟. فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ وَلاَ عَلَى الأَصْغَرِ فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِالْبَوَاقِي؟. تَأَمَّلُوا الزَّنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ الْعُشْبُ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ فِي الْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللهُ هَكَذَا فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟. فَلاَ تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ تَقْلَقُوا. فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ. بَلِ اطْلُبُوا مَلَكُوتَ اللهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ “.
إن ناموس موسى قد رتَّبه الله للإسرائيليين لكى يرشدهم إلى ما كان واجبًا عليهم ليفعلوه، ولكى يضع أمامهم بوضوح كل ما كان لمنفعتهم. وهذا جعلوه أمرًا ذا بهجة عظيمة فقالوا: ” طوبى لنا نحن أبناء إسرائيل لأن الأمور التى ترضي الرب قد صارت معروفة لدينا” (باروخ4:4). ولكني أؤكد لكم أنه يناسبنا نحن ويلائمنا بالأكثر أن نستخدم هذه الكلمات، لأن الذي كلَّمنا ليس نبيًّا ولا حتى ملاكًا، بل هو الابن في شخصه الذاتي، الذي هو رب الملائكة القديسين والأنبياء. وهذا ما يعلِّمنا إياه بوضوح الحكيم بولس خادم أسراره، فيكتب هكذا: ” الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثًا لكل شيء، الذي به أيضًا عمل العالمين” (عب1:1ـ2). لذلك، فطوبى لنا نحن، فقد تعلَّمنا منه هو ذاته إرادته الصالحة والمخلِّصة، والتي بها يرشدنا إلى كل سعي فاضل، وهكذا إذ نكمل حياة جديرة بالمحاكاة، التى تليق بالمختارين، فإننا سنملك معه.
لذلك، لاحظ كيف أنه بعناية وبمهارة فائقة يصوغ الرب حياة الرسل القديسين نحو الرفعة الروحية، ولكنه يفيدنا نحن أيضًا معهم، لأنه يريد أن جميع البشر يخلصون، وأن يختاروا الحياة الحكيمة والأكثر امتيازًا. لأجل هذا السبب فهو يجعلهم يتخلُّون عن الاهتمام غير الضروري، ولا يسمح لهم أن يمارسوا عملاً ما بقلق وباستعجال لأجل الرغبة في جمع ما يزيد عن ضرورياتهم، ففي هذه الأمور، فإنَّ الزيادة سوف لا تضيف شيئًا لمنفعتنا، لذلك يقول ” لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا جسدكم بما تلبسون لأن الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس“. فهو لم يقل ببساطة “لا تهتموا” بل أضاف ” لحياتكم “، ويقصد بذلك لا تنشغلوا باهتمام في هذه الأشياء، بل أعطوا اهتمامكم لأشياء ذات أهمية أعلى بكثير، لأن الحياة فى الواقع هي أكثر أهمية من الطعام والجسد أكثر أهمية من اللباس. لذلك، حيث أن هناك خطر يحيط بنا بخصوص الحياة والجسد كليهما، وهناك ألم وعقاب مقضيًّا بِهِما على أولئك الذين لا يعيشون باستقامة، فلنطرح عنا جانبًا كل هَمّ من جهة اللباس والطعام.
وبجانب هذا، كيف لا يكون أمرًا دنيئًا بالنسبة لأولئك الذين يحبون الفضيلة، والساعين باجتهاد نحو الفضائل السامية والمقبولة من الله، أن يسكروا مزينين بزينة أنيقة مثل الصبية الصغار، وأن يسعوا وراء الموائد الفاخرة! لأن هذه يتبعها للتوِّ حشد متوحِّش من الشهوات الأخرى أيضًا، وتكون النتيجة الارتداد عن الله، لأنه مكتوب: ” لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم” (1يو2: 15)، وأيضًا: ” ألا تعلمون أن محبة العالم هي عداوة لله” (يع4:4). فواجبنا إذن أن نحفظ أقدامنا بعيدًا عن جميع الشهوات، وأن نجعل بالأحرى لذَّتنا في الأمور التي ترضي الله.
ولكن ربما تجيب على هذا وتقول: ” مَن سيعطينا إذن ضروريات الحياة؟”. وجوابنا على هذا كالآتي: إن الرب جدير بأن يُصدَّق، وهو وَعَدَك بوضوح بهذه الأشياء، وبواسطة الأمور الصغيرة يعطيك تأكيدًا كاملاً أنه سيكون صادقًا أيضًا في الأمور العظيمة، فهو يقول: ” تأمَّلوا الغربان، إنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مَخدَع ولا مخزن والله يقيتها“. كذلك أيضًا عندما كان يُقوِّينا نحو الثبات الروحي، فإنه علَّمنا أن نحتقر حتى الموت ذاته بقوله ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها” (لو12: 4، مت10: 28). وبنفس الطريقة لكى يُظهر لك عنايته، فإنه استخدم أشياء بلا قيمة تمامًا لكى يُثبِت بها كلامه فيقول: ” أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحد منها لا يسقط بدون أبيكم، وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة، فلا تخافوا أنتم أفضل من عصافير كثيرة” (مت10: 29ـ31). هكذا أيضًا بواسطة العصافير وزهور الحقل فإنه يغرس فيك إيمانًا ثابتًا غير متزعزِع. وهو لا يسمح لنا مطلقًا بالشك، بل بالتأكيد إنه سيعطينا مراحمه، ويمد يده المرِيحة ليهبنا كفاية في كل الأشياء. وبالإضافة إلى ذلك، إنه أمر رديء جدًّا، أنه بينما أولئك الذين هم تحت نير العبودية الجسدية يعتمدون على سادتهم كمصدر كاف لتزويدهم بالطعام واللباس، لا نضع نحن ثقتنا في الله ضابط الكل، عندما يعدنا أن يعطينا ضروريات الحياة.
وأي فائدة توجد على الإطلاق في حياة الترف: ألا تجلب معها بالأحرى الدمار الكامل؟ لأنه سريعًا ما يدخل مع لذَّات التنعُّم، مخازي الشهوانية الوضيعة والحقيرة ـ الأشياء التي عندما تقترب منا، تكون مقاومتها صعبة. وأيضا أن نكتسي بلباس فخم أمر لا فائدة له بالمرَّة، لأنه يقول: ” تأملوا الزنابق كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم ولا سليمان فى كل مجده كان يلبس كواحدة منها“. وهذا أيضًا حقيقي لأن كلاً من الزنابق والزهور الأخرى التي تنبت في الحقول، فإن بهاء ألوانها يحوي جمالاً بارعًا بسبب تنوُّع درجات الألوان، وبسبب اختلاف ترتيبها، فتتألَّق في لونها الأرجواني الطبيعي، أو تضيء بلمعان ألوان أخرى، ومع ذلك فإن كل ما يفعله الإنسان بفنِّه ليُحاكِى جمالها، إما عن طريق مهارة الرسام أو بفنِّ الزخرفة والتطريز، فانه يعجز تمامًا عن الوصول إلى الحقيقة، وحتى ولو كان العمل ناجحًا كإنتاج فنِّي، فإنه نادرًا ما يقترب من الحق.
لذلك فإن كانت هذه الإيضاحات عن طريق الفن، هي أدنى كثيرًا من مجد الزنابق وجمال ألوان الزهور الأخرى، فكيف لا يكون صوابًا أنه ولا سليمان، رغم أنه كان ملكًا عظيمًا جدًّا، فإنه في كل مجده لم يكن يلبس كواحدة منها؟ فباطل إذن تعبنا لأجل اللباس الجميل. يكفي الناس العقلاء أن يكون لباسهم كما تقتضيه الضرورة، محتشمًا، ويسهل اقتناؤه ويصاحب هذا قليل من الطعام الضروري الذي يكفى حاجات الطبيعة. ولتكن وليمتهم فى المسيح كافية للقديسين، فتكون وليمة روحية، إلهية، وعقلية بالإضافة للمجد الذي سوف يأتي بعد ذلك. لأنه ” سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” (في3: 21)، وكما يقول الرب نفسه: ” سيضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم” (انظر مت13: 43). إذن فأي ثياب مهما كانت فإن العَظَمَة التي في المسيح تفوقها جدًّا في البهاء.
وبنظرة أخرى، لا يليق بأولئك الذين سيصيرون قدوة ومثالاً للآخرين في السلوك المقدس، أنهم بإهمالهم يسقطون هم أنفسهم في تلك الأمور، التى بمجرَّد أن يصيروا معلمين للعالم، سيكون واجبًا عليهم أن يحثُّوا الآخرين على تركها. لأن تثقُّل التلاميذ بالاهتمام بالانشغالات العالمية سيكون له ضرر غير قليل يصيب غيرتهم وحماسهم، يؤثِّر على فائدة كرازتهم المقدسة. بل على العكس من واجبهم أن يهملوا تمامًا بعقل ثابت هذه الأمور، وأن يهتمُّوا بحماس وببساطة بالانتصارات الرسولية. ولهذا السبب فهو يشجب بحق تمامًا وصراحة الانشغال بالأمور الزمنية، فهو يقول: ” إن هذه كلها تطلبها أمم العالم“، وينهضهم إلى الاقتناع الراسخ الذي لا يهتز إنه بالتأكيد وفى جميع الأحوال سيكون عندهم ما يكفيهم، لأن أباهم الذي في السماء يعلم جيدًا ما يحتاجون إليه. وفي مناسبة ملائمة جدًّا يدعوه ” الآب ” حتى يَعلَموا أنه لن ينسى أولاده، بل هو شفوق ومُحب لهم.
إذن فلنطلب ليس ذلك الطعام غير الضروري والزائد عن اللزوم، بل كل ما يؤدِّي إلى خلاص النفس، وليس ملابس كثيرة الثمن، بل أن نخلِّص جسدنا من النار ومن الدينونة. وليتنا نفعل هذا طالبين ملكوته، وكل ما يساعدنا على أن نصير شركاء ملكوت المسيح، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.