Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تحفظوا من الطمع – إنجيل لوقا 12 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تحفظوا من الطمع – إنجيل لوقا 12 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تحفظوا من الطمع – إنجيل لوقا 12 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو12: 13ـ21) ” وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ: يَا مُعَلِّمُ قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ. فَقَالَ لَهُ: يَا إِنْسَانُ مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا؟. وَقَالَ لَهُمُ: انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ. وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ. فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟. وَقَالَ: أَعْمَلُ هَذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي. وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي. فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَا غَبِيُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟. هَكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا للهِ “.

 

          يوصي القديس بولس كإنسان حكيم بمدوامة الصلاة فيقول: “ صلُّوا بلا انقطاع” (1تس5: 17)، وهذا بالحقيقة أمر مليء بالفائدة، ولكني أقول هذا، إن كل من يقترب من الله يجب عليه أن لا يفعل هذا بإهمال، ولا أن يُقدِّم توسُّلات غير لائقة، فيمكن للواحد منا أن يؤكد بحق أنه يوجد عديد من التوسلات غير المناسِبة، ومثل هذه ليست مناسِبة لله أن يعطيها، كما أن نوالها غير نافع بالنسبة لنا. وإذا وجَّهنا نظرة فاحصة من عقلنا إلى الفقرة التى أمامنا سوف نرى بدون صعوبة صِدق ما قلته، فقد اقترب من المسيح مخلِّصنا جميعًا واحد من الجمع وقال له: ” يا معلِّم قُل لأخي أن يقاسمني الميراث“، ولكن الرب قال له: ” يا إنسان من أقامني عليكما قاضيًا أو مقسِّمًا“؟ إن الابن فى الحقيقة عندما ظهر وصار مثلنا، فقد أقيم من الله الآب ” كرئيس وملك على صهيون جبل قدسه” بحسب كلمات المرتل (انظر مز2: 6)، وطبيعة وظيفته أعلنها هو نفسه بوضوح بقوله ” لأنِّي جئت لأكرز بأمر الله“، وما هو هذا؟ إن سيدنا المحب للفضيلة يريدنا أن نبتعد من كل الأمور الأرضية والزمنية، وأن نهرب من محبة الجسد، ومن همِّ انشغال الربح الباطل، ومن الشهوات الدنيئة، ولا نلقي بالاً لما فى الخزائن، وأن نحتقر الثروة وحب الربح، وأن نكون صالحين ومحبين بعضنا لبعض، وألا نكنز كنوزًا على الأرض، وأن نسمو فوق النزاع والحسد، ولا نتشاجر مع الإخوة، بل بالحري نفسح لهم المجال، حتى ولو كانوا يسعون لكسب فرصة أكثر منا، لأن الرب يقول: ” ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه” (لو6: 29)، بل بالأحرى نسعى وراء تلك الأمور النافعة والضرورية لخلاص النفس.

          فبالنسبة لأولئك الذين يعيشون هكذا، يضع المسيح لهم قوانين يصيرون بها لامعين وجديرين بالمديح، لأنه قال ” لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا ثوبين… ولا مزودًا، ولا نحاسًا فى مناطقكم ” (انظر مت10: 9، 10). ويقول أيضًا: ” اعملوا لكم أكياسًا لا تفنى، كنزًا لا ينفد في السموات ” (لو12: 33). وعندما اقترب منه شاب يسأله؟ ” يا معلِّم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ ” أجابه: ” اذهب بع كل أملاكك وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني ” (مت19: 16ـ21).

          لذلك، فلهؤلاء الذين يحنون رقاب أذهانهم المطيعة، يعطي وصايا ويُعيِّن لهم قوانين، ويضع لهم تعاليم، ويوزِّع عليهم الميراث السماوي، ويعطيهم بركات روحية، ويكون لهم مستودع لمواهب لا تنقص أبدًا. بينما لأولئك، الذين يفكرون فقط فى الأمور الأرضية، وقد وضعوا قلوبهم على الثروة، ولأولئك الذين تقسَّى ذهنهم، وصاروا بلا رحمة، بلا لطف أو محبة للفقراء، فإنه لمثل هؤلاء سوف يقول بعدل: “من أقامني عليكم قاضيًا أو مقسِّمًا؟” لذلك فهو يرفض ذلك الإنسان لأنه مزعج ولأنه لا يملك رغبة فى أن يتعلم ما يناسبه.

          ولكنه لا يتركنا بدون تعليم، لأنه إذ قد وجد فرصة مواتية، فإنه يضع حديثًا نافعًا وخلاصيًّا، ويعلن محذِّرًا إياهم: ” انظروا وتحفَّظوا من الطمع“، إنه يرينا فخ الشيطان، أي الطمع، وهو أمر مكروه من الله، والذي يدعوه الحكيم بولس ” عبادة الأوثان” (كو5:3)، ربما لأنه يتناسب فقط مع أولئك الذين لا يعرفون الله، أو كأنَّهم مُتساوون في الدنس مع أولئك الناس الذين يختارون عبادة الأصنام والحجارة. إنه فخ الأرواح الشريرة، الذي بواسطته يحدِرون نفس الإنسان إلى شباك الهاوية. لهذا السبب فهو يقول بحق تمامًا، محذِّرًا إياهم:    “ انظروا وتحفظوا لأنفسكم من كل طمع“، أي من الطمع كثيره وقليله، ومن الاحتيال على أي إنسان أيًّا كان، لأنه كما قلت، هو شيء بغيض عند الله والناس.

          لأنه من ذا الذي لا يهرب ممَّن يستخدم العنف وهو سلاَّب وطمَّاع، ومستعِد للظلم في تلك الأشياء التى لا حقَّ له فيها، والذي بيد جشعه يجمع ما ليس له؟ أي وحش مفترس لا يفوقه مثل هذا الإنسان المحتال في وحشيته؟ وأية أحجار لا يكون هو أكثر قساوة منها؟ لأن قلب الذي يتم الاحتيال عليه يتمزق، بل إنه أحيانًا يذوب من الألم الحارق كما لو كان الألم نارًا ولكن المحتال يسر بهذا ويبتهج، ويجعل آلام الذين يعانون سببًا لفرحه. ولأن الإنسان المُساء إليه هو بالضرورة وبصفة عامة لا حَوْل له ولا قوة، فإنه لا يستطيع شيئًا سوى أن يرفع عينيه إلى هذا الذي هو وحده قادر أن يغضب لأجل ما قد تألم به، وهو (الله)، لأنه عادل وصالح، يقبل توسلاته ويشفق على دموع المتألم ويعاقِب أولئك المخطئين.

          وهذا يمكنك أن تتعلَّمه مما يقوله هو بنفسه بفم الأنبياء القديسين: ” لذلك مِن أجل أنكم تسحقون رؤوس المساكين وتأخذون منهم هدايا مختارة، وبنيتم بيوتًا من حجارة منحوتة لكنكم لن تسكنوا فيها، وغرستم كرومًا شهية ولن تشربوا خمرها، لأني علمتُ ذنوبكم الكثيرة وخطاياكم الثقيلة” (عا5: 11، 12 س). وأيضًا: ” ويل للذين يَصِلون بيتًا ببيت ويقرنون حقلاً بحقل، حتى يأخذوا ما لجارهم. أتسكنون وحدكم فى الأرض؟ لأن هذه الأشياء قد بلغت أذني رب الجنود، لأنه مع أنَّ بيوتكم كثيرة فإنها تصير خرابًا، ومع أنها كبيرة وحسنة فإنها ستصير بلا ساكن، لأن الأرض التي يفلحها عشرة فدادين بقر تصنع بثًّا واحدًا، والذي يزرع ستة أرادب سوف يجمع ثلاثة مكاييل” (إش5: 8ـ10)، لأن البيوت والحقول هي ناتجة عن ظلم الآخرين، لهذا يقول عنها أنها تتبدَّد وتصير مهجورة (بلا ساكن)، وسوف لا تأتي بأية فائدة لمن يعملون بظلم، لأن غضب الله العادل منسكب عليهم، لذلك فلا فائدة في الطمع من كل ناحية.

  ولكي ننظر إليه بمنظار آخر، فإن الطمع لا يفيد شيئًا، لأنه كما يقول الرب، ” متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله“، وهذا واضح أنه حقيقي، لأن سِنِيّ حياة الإنسان لا تزداد بنسبة ثرائه، كما أن محصِّلة حياته لا تسير متوازية مع أرباحه الظالمة، وهذا قد أظهره المخلِّص وكشفه لنا بوضوح بأن أضاف بمهارة شديدة المَثَل الذي أمامنا مرتبطًا بحجته السابقة فيقول: ” رجُل غني أخصبت كورته وأَغَلَّت ثمارًا كثيرة“، تمعَّن بدقة، وتعجب من جمال فن الحديث، لأنه لم يُشر لنا إلى مقاطعة أعطَى جزء منها فقط حصادًا وفيرًا، بل كلها كانت خصبة ومثمرة لصاحبها، مما يدل على اتساع ثروته. وهذا يشبه قول أحد الرسل القديسين: ” هوذا أجرة الفَعَلَة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحصَّادين قد دخل إلى أذني رب الجنود” (يع5: 4)، لذلك يقول المخلِّص إن كل كورته قد أغلَّت محاصيل وفيرة.

          لذلك فما الذي فعله الرجل الغني، وهو محاط بوفرة من بركات كثيرة جدًّا تفوق كل إحصاء؟ إنه ينطق في ضيق وقلق بكلمات الفقر، فهو يقول: ” وماذا أعمل؟”، إن الإنسان الذي في احتياج إلى الضروريات يبث باستمرار هذه اللغة البائسة، ولكن انظر هنا! إن واحدًا من ذوى الأموال غير المحدودة يستخدم تعبيرات مشابهة. لقد قرر أن يبني مخازن أكثر اتساعًا، وعزم أن يمتِّع نفسه بمفرده فقط بتلك الموارد التى كانت تكفي مدينة مكتظَّة بالناس. إنه لا ينظر إلى المستقبل، ولا يرفع عينيه نحو الله، ولم يحسبه أمرًا جديرًا بأن ينفق ماله من أجله ليربح لقلبه تلك الكنوز التى هى فوق فى السماء، ولا يهتم بمحبة الفقير، ولا يرغب فى التقدير الذي يحصل عليه من جراء هذا، ولا يتعاطف مع المتألمين، فهذا أمر لا يؤلمه ولا ينهض فيه الشفقة. وما هو أكثر من ذلك مما هو غير معقول، إنه يقرِّر لنفسه سنيِّ حياته، وكأنه سوف يحصد هذا أيضًا من الأرض لأنه يقول: ” أقول لنفسي، يا نفس لك الخيرات موضوعة لسنين كثيرة، كلي واشربي وافرحي“، ولكن أيها الإنسان الغبي، يمكننا أن نقول لك، أنت فعلاً تملك مخازن كثيرة لغلالك، ولكن من أين تحصل على سنين عديدة لنفسك؟ لأنه بحُكم من الله قد قَصُرت أيامك. لأن الله قال له: ” يا غبي هذه الليلة سوف تُطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟ “.

          لذلك، فإنه أمْر حقيقي أنَّ حياة الإنسان ليست من ممتلكاته، أي ليست بسبب أن له أموالاً كثيرة. بل يكون مغبوطًا جدًّا وله رجاء مجيد ذلك الإنسان الذي هو غَنِي نحو الله. من هو هذا إذن؟ من الواضح أنه هو الذي لا يُحب الثروة بل بالأحرى يحب الفضيلة، والذي يكفيه القليل، (انظر لو10: 42)، وهو الذي يده مبسوطة لاحتياجات المعوزين، والذي يريح الفقراء ويُعزِّيهم بحسب إمكانياته وبأقصى ما في طاقته. إنه هذا الذي يجمع في المخازن التي هي فوق، ويكنز كنوزًا في السماء، مثل هذا سوف يجد أرباح فضيلته، ومكافأة حياته المستقيمة والتى بلا لوم، والمسيح سوف يباركه، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.

 

تحفظوا من الطمع – إنجيل لوقا 12 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

Exit mobile version