الاعتراف بالمسيح وإنكاره – إنجيل لوقا 12 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
الاعتراف بالمسيح وإنكاره – إنجيل لوقا 12 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
الاعتراف بالمسيح وإنكاره – إنجيل لوقا 12 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو12: 8 ـ10) ” وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ النَّاسِ يَعْتَرِفُ بِهِ ابْنُ الإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ. وَمَنْ أَنْكَرَنِي قُدَّامَ النَّاسِ يُنْكَرُ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلاَ يُغْفَرُ لَهُ “.
هنا أيضًا يا من تُحبون أن تسمعوا، املأوا نفوسكم بكلمات القداسة، اقبلوا في داخلكم معرفة التعاليم المقدسة لكي إذ تتقدمون بنجاح في الإيمان، فإنكم تحصلون على أكليل المحبة والثبات في المسيح، لأنه يمنحه ليس لضعاف القلوب التي تهتز بسهولة، ولكن بالأولى لأولئك الذين يستطيعون أن يقولوا بحق ” لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (فى1: 21). لأن هؤلاء الذين يعيشون بقداسة، يعيشون للمسيح، أولئك الذين يحتملون الأخطار لأجل التقوى يربحون الحياة غير الفاسدة، إذ يكلَّلون معه أمام منبر قضائه. هذا هو ما يعلِّمنا إياه بقوله: ” كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان أيضًا قدام ملائكة الله“.
إذن فهو شيء يعلو فوق كل الأشياء الأخرى وهو جدير بانتباهنا، أن نفحص من هو الذي يعترف بالمسيح، وبأية طريقة يمكن أن يعترف بالمسيح، بأية طريقة يمكن أن يُعترف به بحق وبلا لوم، لذلك فإن بولس الحكيم جدًّا يكتب لنا: ” لا تقُل في قلبك من يصعد إلى السماء؟ أي ليُحدِر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية؟ أي ليُصعِد المسيح من الأموات، لكن ماذا يقول الكتاب؟ الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك، أي كلمة الإيمان التي نكرز بها، لأنك إن اعترفت بفمك بأن يسوع هو الرب وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات فسوف تحيا، لأن بالقلب يؤمن الإنسان للبِر وبالفم يُعترف للخلاص” (رو10: 6ـ10).
يشرح الرسول بهذه الكلمات سر المسيح بطريقة ممتازة جدًّا. فأول كل شيء يجب أن نعترف أن الابن المولود من الله الآب، هو الابن الوحيد لجوهره، وأنه هو الله الكلمة، وهو رب الكل، وليس كَمَن وُهِبَت له الربوبية من الخارج، بالانتساب، بل هو الرب بالطبيعة وبالحق مثل الآب تمامًا، ويجب بعد ذلك أن نؤمن أن ” الله أقامه من الأموات“، أي أنه عندما صار إنسانًا، فإنه قد تألم من أجلنا بالجسد، ثم قام من الأموات.
فالابن إذن ـ كما قلت ـ هو رب، ولكن لا يجب أن يُحسب بين أولئك الأرباب الآخرين الذين يُعطَى لهم ويُنسَب إليهم اسم الربوبية، لأنه ـ كما قلت ـ هو وحده الرب بالطبيعة، لكونه الله الكلمة، الذي يفوق كل شيء مخلوق، وهذا ما يعلِّمنا إياه الحكيم بولس بقوله: “ لأنه وإن وُجد ما يُسمَّى آلهة في السماء أو على الأرض ـ كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون ـ لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن منه، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به ” (1كو8: 65).
ولكن رغم أنه يوجد إله واحد الذي اسمه الآب، ورب واحد الذي هو الابن، ولكن لا الآب كفَّ عن أن يكون ربًّا بسبب كونه الله بالطبيعة، ولا الابن توقَّف عن أن يكون هو الله بسبب كونه ربًّا بالطبيعة، لأن الحرية الكاملة هى صفة الجوهر الإلهي الفائق وحده، وأن يكون بعيدًا عن نير العبودية، أو بالأحرى فإن الخليقة تكون خاضعة تحت قدميه. لذلك، رغم أن كلمة الله الوحيد الجنس صار مثلنا، وإذ اتخذ قياس الطبيعة البشرية، فإنه وُضع تحت نير العبودية، لأنه دَفَع عن قصد ـ الدرهمين لجباة الضرائب اليهود بحسب ناموس موسى، إلا أنه لم يخبئ المجد الذي سكن فيه، لأنه سأل المغبوط بطرس ” ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمِن بنيهم أم مِن الأجانب؟ ولما قال مِن الأجانب، عندئذ أجابه: إذن البنون أحرار” (مت18: 25ـ26).
كذلك فالابن في طبيعته الذاتية هو رب لأنه حر، كما يعلِّمنا الحكيم بولس أيضًا ويكتب: ” ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2كو3: 18)، ” وأمَّا الرب فهو الروح، وحيث روح الرب فهناك حرية” (2كو3: 17).
لذلك لاحظ كيف يؤكِّد أن الروح هو رب. لا كمن يملك البنوة إذ أنه هو الروح وليس الابن، بل لكونه واحدًا مع الابن في الجوهر، الذي هو رب وحر، وقد تبرهن بهذه المساواة الطبيعية معه أن له تلك الحرية التى تليق بالله.
إذن، فمن يعترف بالمسيح أمام الناس أنه إله ورب، فسوف يعترف به المسيح أمام ملائكة الله. ولكن متى؟ واضح أنه في الوقت الذي سوف ينزل فيه من السماء في مجد أبيه مع الملائكة القديسين عند نهاية هذا العالم، وعندئذ سوف يكلِّل المعترِف الحقيقي به، الذي له إيمان غير متزعزع وأصيل، وهكذا يقدم اعترافه، وهناك أيضًا سوف يضيء جماعة الشهداء القديسين الذين احتملوا الضيقات كل الحياة وحتى الدم، وكرَّموا المسيح باحتمالهم وصبرهم، لأنهم لم ينكروا المخلص، ولا كانوا يجهلون مجده، بل احتفظوا بولائهم له. مثل هؤلاء سوف يُمدحون من الملائكة القديسين الذين أيضًا سوف يُمجِّدون المسيح مخلِّص الجميع، لأنه منح القديسين تلك الكرامات التى تحق لهم بنوع خاص، وهذا ما يعلنه المرتل أيضًا، ” وتُخبر السموات بعدله، لأن الله هو الديان” (مز49: 6 س)، وهذا سوف يكون نصيب أولئك الذين يعترفون به.
أما الباقون، الذين أنكروه واحتقروه، فسوف ينكرهم، عندما يقول لهم الديان، كما تكلم أحد الأنبياء القديسين فى القديم: ” كما فعلت سيُفعل بك، وعملك يرتدّ على رأسك” (عوبديا15) وسوف ينكرهم بهذه الكلمات: ” اذهبوا عنى يا فاعلى الاثم، إننى لست أعرفكم ” (لو13: 27). مَن هم هؤلاء الذين سوف ينكرهم؟ أولاً: هم أولئك الذين عندما ضغط عليهم الاضطهاد ولاحقتهم المحن، تركوا الإيمان. إن رجاء مثل هؤلاء سوف يفارقهم تمامًا من جذوره، ولمثل هؤلاء لا تكفي كلمات بشرية لوصف حالتهم، لأن الغضب والدينونة والنار التى لا تُطفأ سوف تبتلعهم.
وبطريقة مماثلة، فإن معلِّمي الهرطقة وتابعيهم ينكرونه لأنهم يجترئون ويقولون إن كلمة الله الوحيد الجنس ليس هو الله بالطبيعة وبالحق، ويطعنون في ولادته التي لا يُنطَق بها، بقولهم إنه ليس من جوهر الآب، بل وبالأحرى يحسبون من هو خالق الكل ضمن الأشياء المخلوقة. ويصنِّفون ذلك الذي هو رب الكل مع أولئك الذين هم تحت نير العبودية، رغم أن بولس يؤكد أننا يجب أن نقول إن ” يسوع رب” (في: 11).
كما أن تلاميذ ” ثرثرة نسطوريوس الباطلة ” أيضًا ينكرونه بقولهم بابنين، واحد زائف، والآخر حقيقي: الحقيقي هو كلمة الآب، والزائف هو الذي يملك كرامة واسم ابن بالانتساب فقط. وهو بأسلوبهم هذا فقط هو ابن، ونَبَت من نسل المبارك داود بحسب الجسد. إن دينونة هؤلاء أيضًا هى ثقيلة جدًّا، لأنهم ” ينكرون الرب الذي اشتراهم” (2بط2: 1) ولم يفهموا سر تدبيره فى الجسد، لأنه يوجد ” رب واحد وإيمان واحد” كما هو مكتوب (أف4: 5).
فنحن لا نؤمن بإنسان وبإله، ولكن برب واحد الكلمة الذي هو من الله الآب، الذي صار إنسانًا واتَّخذ لنفسه جسدنا. فلذلك فإن هؤلاء أيضًا يُحسبون ضمن من ينكرونه.
وقد علَّمنا الرب أن التجديف هو جريمة عظيمة جدًّا يرتكبها الناس، بقوله أيضًا: ” كل من قال كلمة على ابن الانسان يُغفَر له، وأمَّا من جدَّف على الروح القدس فلا يُغفر له“. فبأية طريقة يجب أن نفهم هذا أيضًا، إذا كان المخلِّص يقصد هذا، وهو أنه إذ استُعمِلَت كلمة احتقار من أي إنسان منا تجاه إنسان عادي فإنه سوف يَحصل على الغفران إذا ما تاب، فإن الأمر يكون خاليًا من أي صعوبة، لأن الله إذ هو صالح بالطبيعة، فإنه سوف يبرئ من كل لوم جميع الذين يتوبون. ولكن إن كان التجديف موجه إلى المسيح نفسه، مخلِّص الكل، فكيف يمكن أن يتبرَّأ أو ينجو من الدينونة ذلك الذي يتكلم ضده؟ فما نقوله إذن هو هذا: أي شخص، لم يتعلم بعد معنى سر المسيح، ولم يفهم أنه إذ هو بالطبيعة الله، وقد وضع نفسه ونزل إلى حالتنا، وصار إنسانًا، ثم يتكلم هذا الإنسان، أي شيء ضده (المسيح)، ويجدف لحدٍّ ما، ولكن ليس بدرجة الشر التى تفقده الغفران، فالله سوف يغفر لأولئك الذين أخطأوا عن جهل. ولكى أُوضِّح ما أعنيه بمثال، فإن المسيح قال في موضع ما: ” أنا هو الخبز الحي النازل من السماء والمعطي الحياة للعالم” (يو6: 51).
لذلك فبسبب أن البعض لم يعرفوا مجده، بل ظنُّوا أنه إنسان، فإنهم قالوا ” أليس هو ابن النجار الذي نحن عارفون بأبيه وأمه، فكيف يقول إنِّي نزلت من السماء؟”. وفى مرة أخرى بينما كان واقفًا يعلِّم في المجمع حتى تعجَّب منه الجميع، لكن البعض قالوا: ” كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم” (يو7: 15)، لأنهم لم يكونوا يعرفون طبعًا أن ” فيه مذخر كل كنوز الحكمة والعِلم“(كو2: 3).
مثل هذه الأمور يمكن أن تُغفر، إذ قيلت بتهوُّر عن جهل.
أما من جهة أولئك الذين قد جدّفوا على اللاهوت نفسه فإن الدينونة محتَّمة والعقاب أبدي في هذا العالم وفي الآتى. لأنه يقصد بالروح هنا ليس فقط الروح القدس ولكن كل طبيعة الألوهة، وكما هو معروف إنها هي طبيعة الآب والابن والروح القدس. والمخلِّص نفسه يقول فى مكان ما: ” الله روح” (يو4: 24). فالتجديف على الروح هو على كل الجوهر الفائق، لأنه كما قلت، إن طبيعة الألوهة كما أُعلِنَت لفهمنا هي الثالوث القدوس المسجود له الذي هو واحد. ليتنا إذن كما يقول يشوع ابن سيراخ في حكمته: ” نضع بابًا ومزلاجًا للسان” (يشوع ابن سيراخ28: 25)، ونقترب بالأكثر نحو الله ولنقل: “ضع يا رب حافظًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتيَّ، ولا تمل قلبي إلى كلام الشر” (مز140: 3 س). لأن تلك التجاديف هى كلمات رديئة ضد الله. وهكذا إن كنا نخاف الله حقًّا فالمسيح سوف يباركنا، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.