ويل لكم أيها الناموسيون – إنجيل لوقا 11 ج16 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لوقا 11: 45ـ48) “ فأجاب وَاحِدٌ مِنَ النَّامُوسِيِّينَ وقال له: يَا مُعَلِّمُ حِينَ تَقُولُ هَذَا تَشْتِمُنَا نَحْنُ أَيْضاً. فَقَالَ: وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ النَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ الأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ. وَيْلٌ لَكُمْ لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. إِذًا تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ“.
إن التوبيخ هو دائمًا أمر عسير أن يحتمله أي إنسان، ولكنه ليس بغير فائدة للعاقلين، لأنه إنما يقودهم إلى التزام ممارسة تلك الأشياء التي تجعلهم مستحقين للكرامة، وتجعلهم محبين لاقتناء الفضائل، أما الذين يسرعون إلى الشرور بكل اهتمام، والذين جعلوا قلوبهم ضد قبول النصح، فإنهم ينجرفون بسرعة إلى خطايا أعظم عن طريق نفس الأسباب التي كان يجب أن تجعلهم أكثر تعقلاً، بل إنهم يتقسّون بواسطة كلمات الذين يحاولون أن ينفعوهم. وكمثل لهذه الحالة من التفكير أُنظر إلى أولئك الذين يدعون بالناموسيين عند اليهود. كان مخلِّص الجميع يوبِّخ الفريسيين كأناس منحرفين بعيدًا عن الطريق الصحيح وواقعين في ممارسات غير لائقة، إذ وبَّخهم على كونهم منتفخين، ومرائين، ومحبين للتحيات في الأسواق، وراغبين في الجلوس في المتكآت الأولى في المجامع، بل ودعاهم أكثر من ذلك قبور تظهر جميلة من الخارج، ولكن من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة (مت23: 27). وعندما قال هذه الكلمات، تذمَّرت فئة الناموسيين الأغبياء، ونهض واحد منهم وعارض تصريحات المخلِّص وقال: ” يا معلم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضًا“.
يا له من غباء عظيم! أي عَمَى في العقل والفهم من جهة كل شيء ضروري! إنَّ هؤلاء الناس يعرِّضون أنفسهم للتوبيخ، بل بالأحرى أن قوة الحق أظهرتهم أنهم مستحقون كذلك لنفس الاتهامات كالفريسيين، وأنهم يفكرون مثلهم ويشاركونهم في أعمالهم الشريرة ما داموا يعتبرون أن ما يقوله المسيح عن الآخرين قد قيل ضدهم هم أيضًا، وإلاَّ فأخبرني لأي سبب تغضب! لأنه حينما يوجِّه أي لوم إلى الفريسيين فأنت تقول إنك أيضًا تُشتَم، إذن فأنت تعترف بأعمالك، وأنت تدرك طبعًا في نفسك بأن سلوكك مثلهم. ولكن إن اعتبرت هذا توبيخًا واجبًا لهم على أي شيء من هذا النوع، ورغم ذلك فإنك لا تُغيِّر سلوكك، فإن سلوكك هذا هو الذي يستحق اللوم. إن كنتَ تكره التوبيخ كما لو كان شتيمة، فاظهر نفسك أنك أسمى من الأخطاء التي تُتَّهَم بها أو بالحري لا تنظر إلى كلمة التقويم على أنها شتيمة. ألا ترى أن هؤلاء الذين يشفون أجساد الناس يتحدَّثون مع المرضى عن الأسباب التي أدَّت إلى أمراضهم ويستخدمون الأدوية المؤلمة ليوقفوا ما حدث، ومع ذلك فلا يغضب منهم أحد لهذا السبب ولا يعتبر أحد أن ما يقولونه شتيمة، ولكنك أنت ضيِّق الفكر في تقبُّل النصائح ولا ترضَى أن تتعلَّم ما هي الأوجاع التي تؤذى قلبك. كان من الأفضل جدًّا أن تُحب التوبيخ وأن تطلب لأجل التخلُّص من أمراضك ولأجل شفاء قروح نفسك، وكان من الأفضل جدًّا بالحري أن تقول: ” اشفني، خلِّصني فأخلُص، لأنك أنت هو تسبيحي” (إر17: 14).
لا شيء من هذا النوع يدخل عقل الناموسيين ولكنهم تجاسروا أن يقولوا: “ بقولك هذا تشتمنا نحن أيضًا” معتبرين بجهلهم أن اللوم الذي هو لمنفعتهم وفائدتهم، شتيمة. لماذا إذن أجابهم المسيح؟ إنه جعل توبيخه لهم أكثر شِدَّة وأوضح كبرياءهم الفارغ بقوله هكذا: ” ويل لكم أيها الناموسيين، لأنكم تُحمِّلون الناس أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل وأنتم لا تمسُّون الأحمال بأحد أصابعكم“. إنه يصوغ نقاشه ضدهم بمَثَل واضح، لأنه كان أمرًا معترَفًا به أن الناموس عسر الحمل للإسرائيليين.
كما اعترف بذلك أيضًا التلاميذ الإلهيُّون بأنهم كانوا ينتهرون أولئك الذين سعوا لجعل الداخلين إلى الإيمان أن يعودوا إلى فرائض الناموس، لأنهم قالوا: ” فالآن لماذا تُجرِّبون الله بوضع نير على عنق التلاميذ لم نستطع نحن ولا آباؤنا أن نحمله؟” (أع 15: 10). والمخلص نفسه علَّمنا هذا مناديًا بقوله ” تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت11: 28ـ29). إذن فهو يقول إن الذين تحت الناموس هم متعَبون وثقيلو الأحمال، بينما يدعو نفسه وديعًا، كما لو كان الناموس ليس فيه شيئًا من هذه الصفة، لأنه كما يقول بولس: ” لأن من خالف ناموس موسى فعلى فم شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة” (عب10: 28). لذلك فهو يقول، ويل لكم أيها الناموسيون، لأنكم بينما تُحمِّلون الناس أحمالاً عسرة الحمل وغير ممكن رفعها، تضعونها على أولئك الذين هم تحت الناموس، وأنتم أنفسكم لا تلمسونها. لأنهم بينما يأمرون بأن تُحفظ شريعة موسى بدون انتهاك، ويحكمون بالموت على الذين يستخفون بها، فإنهم هم أنفسهم لا يُظهرون أي مبالاة لواجب تنفيذ فرائضها ـ وإذ اعتادوا أن يفعلوا هكذا، فإن بولس الحكيم يُعنِّفهم أيضًا بقوله: ” هوذا أنت تُسمَّى يهوديًّا وتتَّكل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته وتميِّز الأمور المتخالفة متعلِّمًا من الناموس، وتثق أنك قائد للعميان، ومهذِّب لمن هم بلا فهم، ومعلِّم للأطفال، ولك صورة العلم والحق في الناموس، فأنت إذًا الذي تُعلِّم غيرك ألست تُعلِّم نفسك؟ الذي تكرز أن لا يُسرق أتسرق ؟ الذي تقول أن لا يُزنى أتزني؟ الذي تستكره الأوثان أتسرق الهياكل؟ الذي تفتخر بالناموس أبِتَعَدِّي الناموس تهين الله؟” (رو2: 17ـ13). لأن المعلِّم يصير مرفوضًا ويخزى إذا كانت تصرفاته لا تتفق مع كلماته، ويَحكُم عليه المخلِّص بالعقاب الشديد، لأنه يقول: ” إن من علَّم وعمل يكون عظيمًا، أما من يعلِّم ولا يعمل فإنه يدعى صغيرًا في ملكوت السموات” (مت5: 19). ولنفس السبب يكتب لنا تلميذ المخلِّص ويقول: ” لا يكن فيكم معلِّمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا” (يع3: 1).
وهكذا بعد أن أظهر المخلِّص هذه العُصبة الرديئة من الناموسيين فانه يواصل حديثه لينطق بتوبيخ عام لكل رؤساء اليهود فيقول ” الويل لكم ! لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم، فأنتم إذن تشهدون وترضون بأعمال أبائكم، لأنهم هم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم“. دعنا إذن نفحص بعناية ماذا يقصد المخلِّص، لأن ما هو العمل الشرير الذي يمكننا أن نقول إنهم أجرموا فيه ببنائهم قبور القديسين؟ ألم يصنعوا بهذا تكريمًا متميزًا لهؤلاء القديسين؟ فمن وقت لآخر كان أسلاف اليهود يسلِّمون للموت الأنبياء القديسين الذين يأتونهم بكلمة الله ويقودونهم إلى الطريق الصحيح، أما أبناؤهم فإذ اعترفوا أن الأنبياء كانوا قديسين ورجالاً مكرَّمين فإنهم يُشيِّدون قبورًا ومدافن لهم، كما لو كانوا يمنحونهم كرامة تليق بالقديسين. إذن، فآباؤهم ذبحوهم، أما هم فبإعتقادهم أنهم أنبياء ورجالاً قديسين صاروا قضاة لآبائهم الذين ذبحوهم، لأنهم بعزمهم على تقديم الكرامة لأولئك الذين قُتلوا فإنهم بهذا يتَّهمون آباءهم بخطئهم فيما عملوه. أما هم فإذ أدانوا آباءهم بسبب هذه الجرائم القاسية، فقد صاروا على وشك أن يقترفوا ذنب جرائم مساوية، ويرتكبوا نفس الأخطاء، أو بالحري أخطاء أكثر شناعة منها لأنهم ذبحوا رئيس الحياة المخلص والمنقذ للجميع، وأضافوا أيضًا لشرهم نحوه أعمال قتل أخرى، ممقوتة. فها هم قد قتلوا إستفانوس، لا كمُتَّهَم بأي شيء رديء بل بالحري بسبب نصحه لهم إذ كلمهم بما هو في الكتب الموحَى بها، وجرائم أخرى بجانب هذه ارتكبوها ضد كل قديس كان يُبشرهم برسالة الإنجيل الخلاصية.
لذلك فإن الرب يبكِّت الناموسيين والفريسيين بكل طريقة، كأناس يكرهون الله، وهم دائمًا منتفخون ومحبون للذة أكثر من محبة الله، ومن كل وجه يرفضون أن يخلُصوا، لهذا أضاف المسيح تلك الكلمة: “ويل” كشيء يختص بهم، الذي به وله ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.