الحق ومحبة الله – إنجيل لوقا 11 ج15 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو11: 42ـ44) ” وَلَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ لأَنَّكُمْ
تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْلٍ وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَقِّ وَمَحَبَّةِ اللهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ!. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الْمَجْلِسَ الأَوَّلَ فِي الْمَجَامِعِ وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ مِثْلُ الْقُبُورِ الْمُخْتَفِيَةِ وَالَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ“.
أولئك الذين يراعون الوصايا المقدسة ـ لا يجرؤون بأية طريقة أن يسيئوا إلى إله الكل، لأنهم يشعرون بصدق المكتوب: ” لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل لأن الذي قال لا تزنِ قال أيضًا لا تقتل، فان لم تزن ولكن قتلت فقد صرت متعديًا الناموس” (يع2: 10ـ11). لذلك فإن من يتعدَّى وصية واحدة فقد تعدَّى الناموس، أي أن هذا يبرهن أن ذلك الإنسان هو بلا ناموس. أما إن احتقر أي إنسان تلك الوصايا، وخصوصًا تلك التي هي أكثر أهمية من الباقي فأية كلمات يجدها قادرة أن تنقذه من العقاب الذي يستحقه؟ لذلك فقد استحق الفريسيون هذه الانتقادات الحادَّة التي أثبتها عليهم الرب بقوله: ” ويل لكم أيها الفريسيون! لأنكم تُعشِّرون النعناع والشذب وكل بقل وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله، كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتغاضوا عن الأخرى“، أي ألا تتركوا تلك. إنهم بينما حَذَفُوا الواجبات التي كان ينبغي بنوع خاص أن يعملوها ـ كأنها بلا أهمية ـ مثل الحق ومحبة الله ـ نجدهم يراعون باهتمام وبتدقيق أو بالحري يأمرون الناس الخاضعين لسلطاتهم أن يراعوا تلك الوصايا التي هي فقط وسيلة للحصول على إيراد كبير لأنفسهم. ولكي أُوضِّح لكم هذه الأمور بأكثر تفصيل، يا أحبائي، فإنني يلزم أن أتكلم كما يلي: أوصى ناموس موسى الإسرائيليين أن يعطوا العشور للكهنة، لأنه يقول: ” لا يكون لبني لاوي ميراث مع بنى إسرائيل، وقائد الرب هي نصيبهم” (تث18: 1). لأن كل ما يوهب من أي واحد لأجل مجد الله، أقصد من عشوره، فهذه يفرزها الله لأولئك الذين كان عملهم هو الخدمة، وكان هذا هو نصيبهم، ولكن إذ كان الفريسيون جشعين أكثر من غيرهم ومولعين بالربح القبيح، فإنهم كانوا يأمرون أن قانون العشور هذا يلزم أن يراعَى بتدقيق شديد وعناية، حتى إنهم لا يغفلون حتى الأعشاب الرديئة والتافهة؛ بينما استخفوا وأهملوا ما كان يجب أن يحفظوه، أى الوصايا الأساسية التي أعطاها موسى، مثل الحق، والذي يقصد به العدل في القضاء، وكذلك وصية محبة الله. لأنه كان يمكن أن يُحتسب قضاء عادلاً وحكمًا مستقيمًا؛ لو أنهم اعتبروا كل ما أُوصى به أنه مستحق اهتمامًا ومراعاة بالتساوي، وألاَّ يهملوا الأشياء التي لها الأهمية الأولى، ولكننا نجدهم يعطون تدقيقًا شديدًا فقط لتلك الأمور التي تؤول لمنفعتهم. ومراعاتهم لمحبة الله كانت ستجعلهم يتجنبون إغضابه من أية جهة، والخوف من كسر أي جزء مهما كان من الناموس.
ولنُوضِّح (ما قلناه) بطريقة أخرى، فيمكن أن يقول قائل إنَّ هذا القضاء قد يحكم أحكامًا عادلة، ولا يقرر بشأن أي أمر مهما كان، قرارًا غير عادل. وهذا أيضًا تغاضى عنه الفريسيون، لأن الروح يُوبِّخهم بصوت داود في قوله: ” قام الله في مجمع الآلهة، وفى وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جورًا فتقبلون وجوه الأشرار؟” (مز82: 1ـ2). كما اتهمهم أيضًا بصوت إشعياء قائلاً: ” كيف صارت المدينة الأمينة صهيون، الملآنة بالحق صارت زانية؟ كان العدل يبيت فيها أما الآن فالقاتلون. فضتك صارت زغلاً، وتجارك يخلطون الخمر بالماء، ورؤساؤك متمردون شركاء اللصوص يحبون الرشوة ويجرون وراء العطايا، لا يقضون لليتيم، ويهملون دعوى الأرملة؟” (إش1: 21ـ23 س). لأن الحُكم بغير عدل ليس هو صفة أولئك الذين يمارسون محبة الإخوة، بل هو بالحري ذهن شرير، وبرهان واضح على السقوط في الخطية. لذلك يقول: “ بينما تُعشِّرون النعناع والشذب وكل بقل، وتأمرون بأن تُحفظ الوصية من جهة هذه الأمور بدقة شديدة. فإنكم لا تعطون أي اهتمام بأمور الناموس الأكثر أهمية، أعني تلك الوصايا التي هي ضرورية أكثر ونافعة للنفس، والتي من خلالها تُظهرون أنفسكم مكرَّمين ومقدَّسين ومملوئين بكل مديح كما يليق بأولئك الذين يريدون أن يحبوا الله ويرضونه “.
ثم يضيف الرب ويلاً آخر لمن تكلم عنهم سابقًا بقوله: ” ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تحبون المجلس الأول في المجامع والتحيات في الأسواق“. فهل هذا التوبيخ مفيد للفريسيين فقط؟ ليس هو كذلك، لأن فائدته إنما تمتد لتشملنا نحن أيضًا، لأنه حقًّا أن الكاملين في أذهانهم، والمحبين للسلوك المستقيم، يجدون في توبيخ الآخرين طريقة لسلامهم هم أيضًا، لأنهم بلا شك سوف يتجنَّبون أن يتشبهوا بهم، وألاَّ يُعرِّضوا أنفسهم أن يسقطوا في أخطاء مماثلة. لذلك فالاتهام الذي يوجِّهه المسيح ضد الفريسيين بأنهم يسعون إلى التحيات في الأسواق، والمجالس الأولى في المجامع والاجتماعات، يبين أنهم كانوا مولعين بالمديح، ويشتهون أن يمتعوا أنفسهم بتباهي فارغ وتشامخ زائف. وماذا يمكن أن يكون أسوأ من هذا؟ أو كيف لا يتحتم أن يكون مثل هذا السلوك مكروهًا من أي إنسان، باعتباره سلوكًا منتفخًا ومزعجًا، وخاليًا من ثناء الفضيلة، ويقصد به فقط أن يختلس الشهرة بالكرامة؟ وكيف لا ينبغي أن يكون أقل بكثير جدًّا من سلوك الذين هم مساكين بالروح، ودعاء، دمثين، لا يحبون الانتفاخ بل لطفاء، لا يخدعون الناس بالمظاهر الخارجية الزائفة، بل هم بالحري عابدون حقيقيون، مزيَّنون بذلك الجمال العقلي الذي يطبعه فينا الكلمة الإلهي بواسطة كل فضيلة وقداسة وبر.
لأنه إن كان يجب أن نُبرهِن أننا أفضل من الآخرين وليس ما يمنع ذلك ـ فلندع الحكم لنا بالتفوُّق يعطَى لنا من الله، وذلك بأن نزيد عليهم من جهة السلوك والأخلاق وبمعرفة حكيمة للكتب المقدسة لا يشوبها عيب. لأنه، أن يكرمنا الآخرون بالتحية، وأن نجلس في أماكن أعلى مرتبة من أصدقائنا، فهذا لا يُثبِت على الإطلاق أننا أشخاص جديرون بذلك. لأن هذا يمتلكه كثيرون مِن الذين هم بعيدون جدًّا عن الفضيلة. بل هم محبون للذات ومحبون للخطية، وهم يغتصبون الكرامات من كل إنسان، إما بسبب امتلاكهم لثروة كبيرة أو سلطة عالمية.
أما كوننا نستحوذ على إعجاب الآخرين دونما فحص أو تروى، وبدون أن يعرفوا حالتنا الحقيقية، فهذا لا يزكينا أمام الله الذي يعرف كل الأشياء، هذا ما يوضحه المخلِّص على التو بقوله: ” ويل لكم! لأنكم مثل القبور المخفية والذين يمشون عليها لا يعملون“. إنني أرجوكم أن تلاحظوا قوَّة المَثَل بوضوح شديد، فأولئك الذين يعتبرونه شيئًا عظيمًا وبشغف أن تكون لهم المتكآت الأولى في المجامع، هؤلاء لا يختلفون في شيء عن القبور المختفية المزينة حسنًا من الخارج ولكنها ممتلئة من كل نجاسة. إنني أرجوكم أن تلاحظوا هنا أن الرياء يُلام بالتمام، فهو مرض ممقوت أمام الله وأمام الناس. لأن كل ما يظهر به المرائي ويُفكِّر أنه يكون عليه فهو ليس هكذا، بل هو يستعير شهرة الصلاح. وبهذا فهو يحكم على دناءته. لأن نفس الشيء الذي يمدحه ويعجب به، هو نفسه لا يمارسه. ولكن ليس ممكنًا أن تخفى رياءك لمدة طويلة، لأنه كما أن الأشكال التي تُرسَم في الصور تبهت لأن الوقت يُجفِّف الألوان، هكذا أيضًا المراؤون، فإنهم يوبخون في داخلهم حالاً أنهم ليسوا شيئًا في الحقيقة.
يجب علينا إذن أن نكون عابدين حقيقيين، وليس كمن يرغبون في أن يرضوا الناس لئلا نخيب عن أن نكون خدامًا للمسيح، وهكذا يقول بولس المبارك في مكان ما: ” أفأستعطف الآن الناس أم الله؟ أم أطلب أن أرضي الناس؟ فلو كنت بعد أرضى الناس لم أكن عبدًا للمسيح” (غلا1: 10). لأن الافتراضات في أمور السمو الأخلاقي هي سخيفة، وغير جديرة بالاعتبار أو الثناء، لأنه كما يُرفض ما هو مزيَّف ومغشوش في العملات الذهبية، هكذا المرائي يُنظر إليه باحتقار من الله ومن الناس. أما الإنسان الصادق فيلاقي إعجابًا، مثل نثنائيل الذي قال عنه المسيح: ” هوذا إسرائيلي حقًّا لا غش فيه” (يو1: 47). مَنْ هو هكذا فله تقديره أمام الله، ويُحسب جديرًا بالأكاليل والكرامات، وله رجاء مجيد معطَى له منه، وهو ” رعيَّة مع القديسين وأهل بيت الله” (أف2: 19).
فلنهرب إذن من مرض الرياء، وليسكن فينا بالحري ذهن نقي وغير فاسد، ومتألِّق بالفضائل المجيدة، لأن هذا سوف يوحِّدنا بالمسيح الذي به ومعه لله التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.