الآب يهبنا العطايا الروحية – إنجيل لوقا 11 ج10 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو11:11ـ13) ” فَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ أَبٌ يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزًا أَفَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟ أَوْ سَمَكًَة أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟. أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟. فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ“.
حب التعلم والشوق إلى الاستماع أمر يليق بالقديسين، ولكن ينبغي على أولئك الذين لهم هذا الفكر أن يتذكَّروا ويختزنوا في مخازن قلبهم ما يقوله أولئك المحنَّكون في تعليم العقيدة المستقيمة، والذين تُمكِّنهم دراستهم من إدخال الناس في الحق. وهذا نافع لنفوسهم لأجل تقدُّمهم الروحي إلى جانب أنه يُفرِّح المعلِّم نفسه، كالبذرة التي تبهج الفلاح عندما تبزغ بعد أن تُدفن جيدًا في التربة وتفلت من أن تكون طعامًا للطيور.
لعلكم تذكرون حديثنا الماضي، الذي كلَّمناكم فيه عن فائدة الصلاة بلا انقطاع، وعن التوسُّل المستمر في تقديم طلباتنا إلى الله، وأنه ينبغي ألا نستسلم لصغر النفس، وألاَ نضجر لو تأخر في منح عطيته معتبرين أنه يعرف ما هو لفائدتنا، وأنه لا يمكن أن ينسى الوقت المناسب لمنح عطاياه السخية.
وفي درس هذا اليوم، يعلِّم المخلص نقطة أخرى نافعة جدًا لبنياننا. فما هي؟ لنكشفها لكم كبنين. يحدث أحيانًا أن نقترب من إلهنا السخي، متوسلين إليه لأجل أمور متنوعة بحسب رغبة كل واحد ولكن هذا يحدث أحيانًا بدون تمييز، وبدون فحص جيِّد لما هو لنفعنا، وما إذا كان ما سيمنحنا الله إياه هو حقًّا بركة، أو أن ما سنناله سيكون لضررنا؟ وهكذا بسبب قِلَّة تبصُّرنا وسوء تصورنا نقع في شهوات مشحونة بالدمار، وهى تلقي بروح هؤلاء الذين يفكرون فيها فى شرك الموت وشباك الهاوية، لذلك، فحينما نسأل الله أي شيء من هذا النوع، فإننا لن نناله بل بالعكس فإننا نُقدِّم طلبة لا تستحق سوى السخرية. ولماذا لا يمنحنا الله طلبتنا؟ هل يضجر إله الكل من منح العطايا لنا؟ حاشا.
وقد يقول أحدهم، لماذا إذن لا يعطي حيث أنه سخي في العطاء ؟! بالأحرى ها أنت قد سمعته يقول: ” أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا“(مت7: 9)[1]. أنظره وهو يصوِّر لنا هذا التشبيه مما يجرى وسطنا، إنَّ المعنى هو هكذا: أنت أب ولك أولاد، وتشدُّك العاطفة الطبيعية نحوهم، وتريد أن تفيدهم بكل الطرق، لذلك، متى رأيت ابنك يطلب خبزًا فللتو تعطيه إياه وبكل مسرة، إذ تعلم منك طعامًا صحيًا، ولكن إن حدث بسبب قصور الفهم والإدراك أن يأتي طفل صغير وهو لا يقدر أن يميز جيدًا ما يبصره، أو لا يعرف فائدة الأشياء المختلفة التي تقابله أو طريقة استخدامها، ثم يسأل حجرًا ليأكل، فالرب يقول، هل تعطيه؟ أم تجعله يكف عن مثل هذه الرغبة التي تؤدي إلى أذيته؟
ونفس التفكير والاستنتاج يطرحه الرب عن مَثَل الحيَّة والسمكة والبيضة والعقرب. إن سأل الابن أباه فإنه سيعطيه إياها، ولكن إن رأى حيَّة وأراد أن يمسك بها، فإنه للتو سيبعد يد الطفل عنها. وهكذا إذا ما أراد بيضة، فإنك ستمنحه إياها في الحال، بل وستُشجعه على طلب مثل هذه الأشياء، حتى يتقدَّم الطفل وينمو في القامة، ولكن إن رأى عقربًا زاحفًا نحوه وجرى الطفل إليه ظانًّا أنه شيء جميل وهو يجهل الضرر الذي سيلحق به، فإنك بطبيعة الحال توقفه ولا تدع الأذى يلحقه من هذا الحيوان المهلِك. وعندما يقول الرب: ” وأنتم أشرار“، فهو إنما يقصد أن أذهان البشر تتأثر بالشر، وليست باستمرار منحازة مثل إله الكل، تجاه الصلاح. وعندما يقول: ” تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يهب الروح الصالح للذين يسألونه“، فإنه يقصد ” بالروح الصالح: النعمة الروحية لأنها من جميع الجوانب، صالحة، وإذا ما نالها الإنسان، فانه يصير مغبوطًا جدًّا ويستحق الإعجاب به.
لذلك، فإن أبانا السماوي، مستعد تمامًا أن يسكب عطاياه علينا، حتى أن كل من لم ينل ما طلبه، يكون هو نفسه السبب في ذلك، لأنه يسأله ما لن يعطيه الله له. فإن الله يريد أن نكون قديسين وبلا لوم، وأن نمضي بإقدام واستقامة في كل عمل صالح، وأن نبتعد عن كل ما يُدنِّس، وعن محبة اللذة الجسدية، وأن نرفض الاهتمامات العالمية، وألا ننهمك في مشغوليات عالمية، وألا نحيا في الخلاعة وفى الإهمال وألاَّ نبتهج بالملذات الجامحة، ولا نمارس حياة متسيِّبة، بل هو يريدنا أن نحيا حسنًا وفى تعقُّل بحسب وصاياه، واضعين الناموس الذي أعطانا، كضابط لسلوكنا، صائرين حارِّين في السعي نحو كل ما يؤدِّي رأسًا إلى بنياننا، فإن أردت أن تنال شيئًا من هذه الأنواع، فتقدم إليه بفرح، فان أبانا الذي في السماء، سيميل بسمعه إليك، لأنه يحب الفضيلة.
امتحن إذن صلاتك لأنك إن طلبت شيئًا تصير بنوالك إياه محبًّا لله، فكما قلت، سيهبك الله إياه، ولكن إن كان أمرًا غير معقول أومضرًّا لك، فإنه سيسحب يده عنك، ولن يمنحك ما ترغب، أولاً لأنه لا يمنح شيئًا ذا طبيعة ضارة ـ فهذا أمر غريب عنه تمامًا ـ وثانيًا حتى لا يصيبك ضرر بنوال هذا الأمر. ودعني الآن أشرح لك كيف يكون هذا؟ ولهذا الغرض سأُقدِّم الأمثلة الآتية: إنك إذا ما سألت ثروة، فلن تنالها من الله، لماذا؟ لأن الثروة تفصل قلب الإنسان عن الله، فالمال يُولِّد الكبرياء والفجور وحب اللذة، ويأتي بالناس إلى مهاوي الشهوات العالمية، وعن هذا علَّمنا واحد من تلاميذ ربنا قائلاً: ” مِن أين الحروب والخصومات بينكم، أليست من هنا من لذَّاتكم المحارِبة في أعضائكم ـ تشتهون ولستم تمتلكون، تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون رديًا لكي تنفقوا في لذَّاتكم” (يع4: 1ـ3). كذلك إن سألت قوة عالمية، فالله سوف يدير وجهه عن سؤالك، إذ يعرف أن هذه الطلبة ضارة جدًا لمن يحوزها. إذ التعسف والاضطهاد يصاحبان دائمًا ذوى القوة العالمية، هؤلاء الذين يكونون في الغالب متكبرين متسيِّبين منتفخين وكراماتهم دائمًا وقتية. كذلك إن طلبتَ هلاك شخص ما، أو طلبتَ أن يتعرض لعذابات شديدة، لأنه ضايقك أو أزعجك في شيء ما، فالله لن يمنحك هذه الطلبة. لأنه يريد أن نكون طويلي الأناة، لا نجازي عن شرٍ بشرٍ، بل نصلي لأجل الذين يضايقوننا، وأن نفعل الصلاح لمن يؤذينا، وأن نحاكيه في شفقته. لأجل هذا مدح سليمان لأنه لما صلَّى لله فإنه قال: ” فأعط عبدك قلبًا فهيمًا لأحكُم على شعبك وأُميِّز بين الخير والشر” (1مل3: 6). وقد سُرَّ الله بطلب سليمان، وماذا عمل الله الذي يحب الفضيلة له؟ ماذا قال له؟: ” مِن أجل أنك قد سألت هذا الأمر ولم تسأل لنفسك أيامًا كثيرة ولا سألت لنفسك غِنَى ولا سألت أنفس أعدائك بل سألت لنفسك تمييزًا لتفهم الحكم، هوذا قد فعلتُ حسب كلامك، هوذا أعطيتك قلبًا حكيمًا، ومميزًا“.
فاسأل من الله عطايا روحية هذه التي يمنحها بلا حصر، اسأل القوة حتى تقدر بشجاعة أن تقاوم كل شهوة جسدانية. اسأل الله مزاجًا غير شهوانيًّا، أطلب احتمالاً، وداعة، واطلب أُم كل صلاح أي الصبر، أطلب طبعًا هادئًا وقناعة وقلبًا نقيًّا، واطلب بالأكثر الحكمة التي تأتى منه. هذه الأشياء سيمنحها لك سريعًا، هذه التي تخلِّص النفس، وتجعل فيها ذلك الجمال الأفضل، وتطبع فيها صورة الله. هذا هو الغِنَى الروحاني، هذه هي الثروة التي لا ينبغي أن نتخلى عنها، هذه التي تُعِد لنا نصيب القديسين، وتجعلنا أعضاء في شركة الملائكة القديسين، هذه تُكمِّلنا في التقوى، وسريعًا ما تقودنا إلى رجاء الحياة الأبدية، وتجعلنا وارثين لله لملكوت السموات، بمعونة المسيح مخلِّصنا جميعًا، هذا الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.
[1] لاحظ هنا أن القديس كيرلس الكبير يتلو من الذاكرة اقتباسًا من إنجيل متى ويستخدمه أحيانًا بدلاً من نص إنجيل لوقا.