مثل صديق نصف الليل – إنجيل لوقا 11 ج9 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو11: 5 -10): ” ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ صَدِيقٌ وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُولُ لَهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ، لأَنَّ صَدِيقًا لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ. فَيُجِيبَ ذَلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لاَ تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ الآنَ وَأَوْلاَدِي مَعِي فِي الْفِرَاشِ. لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ. أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لاَ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ. وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ”
إن لُغة الكتاب الإلهية المُوحَى بها دائمًا عميقة، فلا ينكشف معناها لمن عندهم مجرَّد رغبة فقط أن يفهموها، بل لأولئك الذين يعرفون أن يفحصوا أغوارها جيدًا، وقد اغتنوا بالنور الإلهي في ذهنهم، ذلك النور الذي بواسطته يبلغون إلى معنى الحقائق الخفية. لذلك فليتنا نطلب الفهم الذي يأتي من فوق، من الله، مع استنارة الروح القدس، حتى نبلغ إلى منهج سليم لا يخطئ. وبهذا المنهج يمكننا أن نرى الحق الذي تحويه الفقرة التي أمامنا.
قد سمعنا ما قاله المخلِّص في المثل الذي قُرئ علينا، الذي لو فهمناه جيدًا فسنجده مُحمَّلاً بالفوائد! إنَّ تسلسُل الأفكار فيه عجيب جدًّا، لأن مخلِّص الكل قد علَّمنا بناء على طلب الرسل القديسين ـ ما هي الطريقة التي ينبغي أن نُصلِّى بها. ولكن قد يحدث لأولئك الذين تعلموا منه هذا الدرس الخلاصي الثمين، أن يُقدِّموا صلواتهم أحيانًا بحسب النمط الذي أُعطي لهم، ولكنهم يفعلون ذلك بمللٍ وكسلٍ. وهكذا حينما لا يُستجاب لهم بعد صلاتهم للمرَّة الأولى أو الثانية، فإنهم يكفُّون عن تقديم التوسلات وكأنها لا تجديهم نفعًا، ولذلك، فلكي لا يحدث معنا هذا، ولكي لا نعاني من الأذى الناتج عن صغر العقل هذا، فإنه يُعلِّمنا أن نواصِل ممارسة الصلاة باجتهاد. وبواسطة المثل يبيِّن لنا بوضوح أنَّ الملل في الصلاة هو خسارة لنا. بينما الصبر في الصلاة هو نفع عظيم لنا، لأنه من واجبنا أن نثابر دون أن نستسلم للتراخي. وهذا يُعلِّمنا إياه بقوله: “ إن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج “.
والآن فلننتقل إلى الحق الذي أعلنه في صورة مثل. كن لجوجًا في الصلاة، اقترب من الله المحب الشفوق، واستمر في ذلك على الدوام، وإذا رأيتَ أن عطية النعمة قد تأخرت، فلا تستسلم للضجر، ولا تيأس من جهة نوال البركة المتوقَّعة، لا تتخلى عن الرجاء الموضوع أمامك، ولا تقُل في داخلك بغباء: “إنني قد تقرَّبتُ مرَّات من الله، ولم أحصل على أي شيء مطلقًا، لقد بكيتُ ولم أنل شيئًا، لقد تضرعتُ ولم أُستجَب، طلبتُ لأجل كل شيء ولم يتحقَّق شيء”. بل فكِّر بالحري في داخلك هكذا: ” إن ذلك الذي هو الخزانة الجامعة لكل صلاح، يعرف حالنا أكثر مما نعرف نحن، ويعطي كل إنسان قدر ما يحق له وما يناسبه “. فأحيانًا أنت تطلب ما يعلو قامتك وتريد أن تحصل على تلك الأشياء التي لا تستحقها بعد. أما الواهب نفسه، فيَعلَم الوقت المناسب لمنح هباته.
إن الآباء الأرضيين لا يُحقِّقون لأولادهم رغباتهم في الحال، ولا يعطونهم إياها بدون تمييز، ولكنهم يبطئون غالبًا رغم الإلحاح عليهم، وهذا ليس بسبب شح أيديهم ولا لأنهم لا يعتبرون ما هو الذي يُسر سائليهم، بل لأنهم يعتبرون ما هو نافع وضروري لأجل سلوكهم الحسن.
فكيف إذن لذلك المعطي الغني والسخي، أن يهمل الإنجاز الواجب للناس، الذي يُصلُّون لأجله، إلاَّ إذا كان ـ طبعًا وبدون شك ـ يَعلَم أنه لن يكون نافعًا لهم أن ينالوا ما يسألونه ؟ لذلك، فينبغي أن نُقدِّم صلواتنا لله، عن معرفة، وبمواظبة، وحتى إذا كان هناك بعض الإبطاء في الاستجابة، فاستمر بصبر مثل جامعي الكَرْم، وتأكد أن ما نحصل عليه بدون عناء، ونربحه بسهولة فهو عادة يكون محتَقَرًا، أمَّا ما نحصل عليه بكدٍ فهو يهبنا سعادة أكبر ويكون مِلكًا ثابتًا لنا.
ولكنك ربما تقول: ” إنني أتقدم إلى الله كثيرًا متوسلاً ولكن بدون نتيجة، أنا غير متكاسل في التضرعات، بل مثابر ولحوح جدًا، فمَنْ الذي يضمن لي أنني سأنال ما أطلب؟ مَنْ الذي يضمن لي أنَّ تعبي لن يكون باطلاً؟”. ” وأنا أقول لكم“. هكذا يتكلم مُعطِي المواهب الإلهية نفسه إليك قائلاً: ” وأنا أقول لكم اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم، لأن كل مَنْ يطلب يجد ومَنْ يقرع يُفتح له“. وهذه الكلمات: “ وأنا أقول لكم” لها كل قوة القَسَم. ليس أن الله يكذب حينما يكون الوعد غير مصحوب بقسم. بل لكي يُوضِّح أن ضعف إيمانهم قائم على غير أساس. وهو أحيانًا يُثَبِّت سامعيه بقَسَم. لذلك نجد المخلِّص في مواضع كثيرة يسبق كلماته بعبارة ” الحق الحق أقول لكم“. لذلك فعندما يجعل وعده قسمًا فانه يصبح أمرًا غير برئ من الإثم أن لا نصدقه.
لذلك فحينما يدعونا الرب أن نسأل، فهو يأمرنا ببذل الجهد لأننا بواسطة الجهد، نجد دائمًا ما نحتاج إليه، خاصةً إذا كان ما نطلبه يناسبنا أن نحصل عليه. فذلك الذي يقرع، لا يقرع مرَّة واحدة فقط ولكن مرَّة ومرات يهز الباب، إما بيده أو بحجر، لدرجة أن صاحب البيت يصبح غير قادر على احتمال ضجيج القرعات فيفتح له، حتى ولو ضد إرادته. فتعلَّم إذن مما يحدث حولنا، الطريقة التي بها تحصل على ما هو نافع لك. اقرع وكن لجوجًا واسأل، فإنه هكذا ينبغي أن يعمل كل من يسأل أي شيء من الله. كما أن الحكيم بولس يقول: ” صلُّوا بلا انقطاع” (1تس5: 7).
نحن في احتياج إلى صلاة لحوحة لأن اضطرابات الأمور العالمية المحيطة بنا كثيرة جدًّا، لأن الحية المتعدِّدة الرؤوس تضايقنا كثيرًا، وتورِّطنا أحيانًا في صعوبات غير متوقَّعة، حتى تُحدرنا إلى الحضيض وإلى الخطية بأنواعها. زِد على ذلك، فهناك أيضًا ناموس الشهوة الطبيعي المختبئ في أعضائنا الجسدية، والذي يحارب ناموس ذهننا كما يقول الكتاب: (رو7: 23)، وأخيرًا هناك أعداء تعاليم الحق، أي عصبة الهراطقة الدنسين النجسين، الذين يقاومون مَن يرغبون أن يتمسُّكوا بالتعاليم الصحيحة.
لذلك فالصلاة المستمرة والجادة، هي ضرورية جدًّا، وكما أن الأسلحة وآلات الحرب هي ضرورية للجنود ليتمكنوا من قهر أعدائهم، هكذا الصلاة بالنسبة لنا، لأنه كما يقول الكتاب: أسلحتنا ليست جسدية بل قادرة بالله (2كو10: 4).
وهذا ما ينبغي أن أضيفه، أيضًا، لأنه يفيدنا في اللجوء إلى الصلاة سريعًا. فالمخلِّص ورب الكل تراه مرَّة ومرات يقضي الليل كله في الصلاة، عندما كان على وشك أن يجتاز آلامه الخلاصية على الصليب الثمين، نجده يحني ركبته ويصلي قائلاً: ” يا أبتاه، إن أمكن فلتعبُر عنِّي هذه الكأس” (مت26: 39). هل حدث هذا لأن الذي هو “الحياة” كان خائفًا من الموت؟ هل كان هذا لأنه لم يكن له مهرب من الشبكة، ولا خلاص من الفخ حتى أن يد اليهود كانت أقوى من قوَّته؟ كم هو رديء أن نفكِّر هكذا؟ فهو بالطبيعة الله ورب القوات، ورغم إنه كان مثلنا في الشكل؛ فقد احتمل الآلام على الصليب لأنه هو معيننا كلنا. فهل كان يحتاج إلى الصلاة إذن؟ ولكنه فعل هذا لكي نتعلم أن التوسل أمر لائق ومملوء بالمنافع، وأنه يجب أن نكون مداومين على الصلاة حينما تصيبنا أي تجربة وحينما تضغط علينا قوة الأعداء كموجة عنيفة.
ولكي نلقى ضوءًا آخر على هذا الأمر، نضيف: أن حديث الإنسان مع الله شرف عظيم للطبيعة البشرية. وهذا ما نفعله في الصلاة، إذ قد أوصانا الرب أن نخاطب الله كآب، ونقول: “يا أبانا”، فإن كان أبًا، فبالضرورة هو يحب أولاده ويدلِّلهم ويكرمهم، ويحسبنا أهلاً لرحمته وصفحه. فاقتربوا إذن بإيمان مع مثابرة، واثقين أن من يسأل المسيح بلجاجة فهو يسمع له، ذلك الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.