Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

ولا تدخلنا في تجربة – إنجيل لوقا 11 ج8 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

ولا تدخلنا في تجربة – إنجيل لوقا 11 ج8 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

ولا تدخلنا في تجربة – إنجيل لوقا 11 ج8 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو 11: 4)

          هلموا يا جميع مَنْ تحبون أن تكمِّلوا المشيئة الإلهية، ويا مَنْ تشتاقون بغيرة حارة أن تسلكوا حياة لا عيب فيها، هلّموا لنقترب من الله الكائن على الكل، ونتوسل إليه قائلين: ” عرِّفني يا رب طرقك وعلِّمني سبلك” (مز24: 4س)، لأن كل حكمة وفهم هما منه، معرفة كل صلاح تأتينا من فوق من العرش الفائق العلو، كما من ينبوع، ولا يستطيع إنسان أن يكمل أي شيء يستحق المدح ما لم يأخذ القدرة على ذلك منه.

          وهذا ما يعلِّمنا إياه الرب نفسه قائلاً: ” بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو15: 5). فالرب الذي يعطي لكل الناس كل الأشياء التي يمكنهم أن يفتخروا بها عن حق، هو نفسه يقودنا الآن إلى أمر آخر من تلك الأمور الضرورية لخلاصنا. فهو يوصينا عندما نقف للصلاة أن نقول ” لا تدخلنا في تجربة“.

          بهذه الكلمات يختم القديس لوقا الصلاة، أما القديس متى فنجده يضيف:     ” لكن نجنا من الشرير” (مت6: 13)، ويوجد تقارب كبير بين كلا النصين: فمِن الواضح أن مَن لا يدخلون في تجربة، فهم أيضًا ينجون من الشرير… وإذا قال أحدهم: إن عدم الدخول في التجربة يساوي النجاة منها، فمثل هذا لا يكون قد حاد عن الصواب. ولكننا لنتأمل في هذا: هل يريد مخلِّص ورب الكل لأحبائه أن يكونوا جبناء؟ أو أن يكونوا متكاسلين وأذلاء مفضِّلين تجنُّب النضال عن الفوز بإكليل المجد؟

          والروح القدس يقول في سفر المزامير: ” تشدَّدوا ولتتشجع قلوبكم يا جميع المتكلين على الرب” (مز30: 24س). والمخلِّص نفسه يقول في موضع ما: ” طوبى للمضطَهَدين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات” (مت5: 10)، فإن كان الرب يُتوِّج ذاك الذي يُضطَهَد بمثل هذه الكرامات العظيمة، وإن كان الاضطهاد هو بلا شك تجربة، فبأي معنى يوصيهم الرب أن يتفادوا التجربة؟ إن الذين يدخلون المباريات الرياضية ويوجَدون مستحقين للتكريم وتصفيق الأيدي، لا يحصلون على ذلك من فراغ أو بدون بذل مجهود أو هم نائمون على بساط الراحة، بل بعد كدٍّ وعناء شديدَين في تدريبات عنيفة.

          كذلك فالرجل المتضلِّع جيدًا في فن التكتيك الحربي، والشجاع المحنَّك في المعارك، لا يُعرَف في السِّلم، بل عندما يُرى هذا الإنسان مُنازَلاً شديد البأس مقابل عدوه. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نرى الرب وكأنه يُعوِّق محبيه عن الدخول في الجهاد بجعلهم يقولون: ” لا تدخلنا في تجربة“؟

          نجيب على هذا بقدر ما يمكننا من فهم، فنقول: إن الرب لم يرد لتابعيه أن يكونوا مُستضعَفين أو كسالى في أي طريق آخر، بل إنه يستحثهم أن يكونوا شجعانًا في كل الأمور الجديرة بالمديح قائلاً لهم: ” ادخلوا من الباب الضيق لأنه ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدِّي إلى الحياة الأبدية وقليلون هم الذين يجدونه” (مت7: 13).

          فينبغي إذن أن يكون لنا غيرة روحية دائمة وطول أناة، وأن يكون لنا فكر ثابت لا يتزعزع في الملمَّات مهما كانت، مثلما كان للمغبوط بولس عندما قال: “ من سيفصلني عن محبة المسيح، أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف“؟ (رو8: 35). ولكن حتى إذا ما تسلّحنا بهذه النيَّة وبلغنا إلى هذه الدرجات من الشجاعة، إلا أنه ينبغي علينا أن نُفكِّر باتضاع عن أنفسنا، ونكون ” مساكين بالروح” حسب قول المخلِّص (مت5: 3)، ولا نتصوَّر دائمًا أننا دائمًا سنتغلَّب على كل التجارب بالضرورة. لأنه يحدث أحيانًا أن يداهِم عقل الإنسان فزع لا يُحتمل، ينزل به إلى خوف ساحق، كما يفعل الشيطان المبغِض لكل خير، وإن عنف التجربة قد يَهِّز أحيانًا عقل أشد الناس شجاعة. مثلما تفعل لطمات الأمواج العنيفة التي لا تطاق، فتُحطِّم أمتن السفن بناءً وأكبرها حجمًا. وهكذا فإن العدد الكثيف من القذائف التي ترشقها أيدي العدو من شأنها أن تجعل أشد الجنود بسالة يولي الإدبار، إذ لا ينبغي لأحد أن يثق في نفسه بزيادة غير مبالٍ بمصادمة التجارب مهما كان شجاعًا ورابط الجأش، بل بالحري يجب أن نعرف ضعف ذهننا، وليكن لنا مخافة متَّزنة لئلا نكون مثار سخرية أمام الذين يجرِّبوننا بكوننا غير قادرين على تحمُّل شدَّة القتال.

          لذلك، فلنصلِّ أن لا نُجرَّب، لأنه أمر صعب أن نفرَّ من التجربة، كما أنه أمر صعب بالنسبة لمعظم الناس أن يصمدوا إلى النهاية، ولكن إذا ما دعت الضرورة وأُلقينا فيها رغمًا عنا، فلابد أن ندخل المعركة باذلين أقصى جهدنا ونصارع من أجل نفوسنا، غير هيَّابين البتة، بل بالعكس فإننا نتذكَّر ما قاله لنا المسيح مخلِّص الكل: ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (مت10: 28). وكما كتب أيضًا ذلك الرسول القديس الذي قال: ” طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكَّى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه” (يع1: 12).

          هناك، على أي حال، أنواع عديدة من التجارب: منها اثنتان عامَّتان وشائعتان ومنتشرتان جدًّا في كل مكان، ومن اللائق بنا أن نخبركم بهما: إذ توجد في العالم هرطقات كثيرة، ويوجد رُسُل كذبة، ومعلِّمون كذبة، الذين إذ يجمعون البدع التافهة ويثقلون أنفسهم بها، وإذ يفتخرون بفنون حكمة هذا الدهر، فإنهم يزيِّفون لغة الكرازة المقدسة، ويُكثرون من أقوال التجديف مغالِطِين أنفسهم، وكما يقول المزمور: ” يرفعون إلى العلا قرنهم متكلِّمين بالإثم ضد الله” (مز74: 5س). أجل وضدَّ الله الكلمة خالق الكل، الذي بحسب زعمهم، يحسبونه من بين تلك الأشياء التي خلقها. ويقولون أنه عبد وليس ابنًا، وانه مخلوق وليس ربًا… وهؤلاء إذ يقاومون المناضلين من أجل الحق، يضطهدون أولئك الذين اختاروا التمسُّك بالتعليم الصحيح، والذين يدافعون عن المجد الإلهي، والذين يسعون أن يكلِّلوا كلمة الله الوحيد الجنس ويقدِّموا له التسبيح بأسمى عبارات التقديس. لذلك عندما تقابلك تجربة من هذا النوع فلا تطرح عنك درعك، ولا تكن كجندي يفر من المعركة أو كمصارع عديم المهارة والشجاعة، ولا تشتهي سلامًا في غير أوانه، يكون سببًا في دمار في المستقبل، بل تذكَّر أن المسيح مخلِّص الكل، قد قال: ” لا تظنوا أنى جئت لألقي سلامًا على الأرض، وما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا” (مت10: 34). وحتى إذا ما كان للمضطهدين سلطان دنيوي، فلا تخف من الأذى الذي يمكنهم أن يلحقوه بك، ولا حتى من خطر سفك الدم وضياع الحياة، لكن تذكَّر أيضًا نصيحة الرسول القديس الذي يقول: ” فإذن الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم لخالق أمين” (1بط4: 19)، وأيضًا: ” فلا يتألم أحدكم كسارق أو فاعل شر أو متداخل في أمور غيره، ولكن إن كان كمسيحي فلا يَخجَل، بل يُمجِّد الله من هذا القبيل” (1بط4: 15). لأنه أمر طبيعي أننا إن كنا نتألم ظلمًا من أجل اسمه، فنُحسب مستحقِّين لكرامات أبدية. فالجهاد لا يكون بدون مكافأة، والتعب ليس باطلاً، فكما قال القديس بولس: ” لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه” (عب6: 10). فهذه إذن هي الصراعات الموضوعة لكل الذين يتقون الله، لإعطاء الدليل على مَن يعرف كيف يحتمل الضيقات بصبر. فالشهداء المغبوطون قد فازوا بأكاليل البر بعد أن “جاهدوا الجهاد الحسن وأكملوا سعيهم وحفظوا الإيمان” (2تى4: 7).

          ثم أن هناك أنواعًا أخرى من التجارب، بجانب هذه، يمكننا أن نقول إنها عامة على الكل ولكنها تختلف من واحد لآخر، فكما يقول واحد من الرسل القديسين: ” لا يقل أحد إذا جُرِّب إنِّي أُجرَّب من قِبَل الله، لأن الله غير مجرَّب بالشرور، وهو لا يجرِّب أحدًا، ولكن كل واحد يجرَّب إذا انخدع وانجذب من شهوته، ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتًا” (يع1: 13ـ15). يوجد إذن، جهاد، وخطر جسيم، قد وُضع على كل واحد حتى لا يسقط في الخطية، وينحرف عن جادَّة الصواب، ويتوه في ارتكاب الأعمال الخاطئة. إنَّ قوة الشهوات عنيفة جدًّا، ومثيرة لحروب جمَّة وأهواء شرسة ولذَّات دنيئة وعديدة ضد ذهن الإنسان؛ فالبعض قد ينغلبون من الشهوة الجسدية، وينحرفون إلى أحط أنواع الخلاعة، وآخرون قد ينساقون في حب الربح المادي، إلى أن يصيروا فريسة لحب الاكتناز الخسيس الذي يقودهم أخيرًا إلى أشنع الجرائم.

          لذلك، يليق بنا حسنًا، نحن المعرَّضين لمثل هذه الشرور الخطيرة حتى ـ وإن لم نكن قد سقطنا فيها بعد ـ أن نُصلِّي قائلين: ” لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير“. لأنه جيِّد للإنسان أن يكون بمنأى من كل شر، أما إن هاجمتك التجربة، فكن شجاعًا ولا تقبل الهزيمة، وأقمع الجسد، وألجم العقل واطلب المعونة من الله، فتحوز الأمان بالقوة الممنوحة لك من الأعالي. تشدَّد وتقوَّ ولا تكن ضعيفًا أو سهل الوقوع في فخاخ العدو، بل كن حذرًا، كن محبًا لله أكثر من حبك لأي لذة أخرى، فهو حينئذ سوف يعينك ويهبك النصرة، فهو مخلَّص الكل ورب الكل، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس إلى دهر الدهور، آمين.

 

ولا تدخلنا في تجربة – إنجيل لوقا 11 ج8 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

Exit mobile version