ليتقدس اسمك – إنجيل لوقا 11 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
ليتقدس اسمك – إنجيل لوقا 11 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
ليتقدس اسمك – إنجيل لوقا 11 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو11: 2):
لكل الذين يشتهون كلمات الله المقدسة، ها هو صوت إشعياء النبي ينادي: ” أيها العطاش جميعًا هلموا إلى المياه” (إش55: 1)، لأن كل من يريد، يمكنه أن يستقى من الينبوع المعطي الحياة. ومن هو يا تُرى هذا الينبوع؟ واضح أنه المسيح وتعاليمه، فهو نفسه قال في موضع ما: ” إن عطش أحد فليُقبل إليَّ ويشرب” (يو7: 37). فلنأتِ نحن مرَّة أخرى كما إلى ينبوع، هلم لنملأ أنفسنا ونشبع ذواتنا من روضة النعمة، فداود المبارك يتحدث عنه في المزامير مخاطبًا الله الآب: “ يروون من دسم بيتك، ومن نهر نعمك تسقيهم، لأن عندك ينبوع الحياة” (مز36: 8). لأن نهر النِعم يتدفَّق بوفرة لأجلنا، وكذلك ينبوع الحياة، أي تلك الحياة التي في المسيح، الذي تكلم عنه واحد من أنبيائه بخصوصنا هكذا ” هاأنذا أنحني إليهم كنهر سلام وأفيض عليهم كسيل جارف بمجد الأمم ” (إش66: 12 س).
انظروا كيف يروينا المسيح بينابيع غنية من البركات الروحية، فماذا يريد أن يلقِّنَنَا من تعاليم بعد ذلك؟ إنه يقول لنا: ” متى صلَّيتم فقولوا: أبانا، ليتقدس اسمك“، لنتبيَّن بأية طريقة ينبغي أن نفهم هذه أيضًا.
هل نحن إذن نصلى حتى أن مزيدًا من القداسة يمكن أن يضاف لله كُلِّي القداسة؟ وكيف لا يكون هذا أمرًا سخيفًا وغير معقول على الإطلاق؟ لأنه لو أن الله الذي هو فوق الكل كان ينقصه أي شيء، لكان محتاجًا لمزيد من القداسة، لكي يصير كاملاً وغير محتاج إلى أي شيء. ولكن إن كان ممتلئًا، كما يقول هو، وهو كامل من كل جهة في ذاته وبذاته، وهو مانح القداسة للخليقة من “ملئه” (إش1: 11 سبعينية)؛ فما هي الإضافة التي يمكن أن ينالها؟ لأن كل الأشياء هي له، وهو بالغ أعلى الكمال في كل صلاح، لأن هذه أيضًا إحدى خواصه بالطبيعة. وبالإضافة إلى ذلك، فمن الجهل والسخف بمكان أن يتصور الذين يُصلُّون أنهم يقدمون توسلاتهم لا نيابة عن أنفسهم بل نيابة عن الله. فماذا يكون إذن معنى “ليتقدس اسمك”؟
نقول إذن إن البشر لا يبتهلون من أجل مزيد من القداسة لله العلِيِّ على الكل، لأن من هو أعظم منه حتى يستطيع أن يعطيه ازدياد؟ ” لأنه بدون أدنى شك الأصغر يُبارَك من الأكبر” (عب7:7). وإنما هم بالحري يطلبون أن تُمنح هذه القداسة لهم وللبشرية كلها، لأنه حينما يكون يقيننا وإيماننا الراسخ أن الذي هو بالطبيعة الله العلي على الكل، هو قدس الأقداس؛ فإننا نعترف بمجده، وجلاله الأعلى، وعندئذ نحصل على مخافة في قلبنا، ونحيا حياة مستقيمة وبلا لوم، لكي عندما نصير نحن أنفسنا هكذا قديسين، نستطيع أن نكون بالقرب من الإله القدوس ـ لأنه مكتوب: ” كونوا قديسين لأني أنا قدوس” (لا11: 44)، وقد قال أيضًا مرَّة لموسى معلِّم الأقداس Hierophant : ” سأتقدس في أولئك الذين يقتربون مني” (لا10: 3). فالصلاة، إذن، هي: ليت اسمك يُحفظ مقدَّسًا فينا، في أذهاننا وإرادتنا، فهذا هو معنى الكلمة ” ليتقدس”. وكما أن من يعاني من مرض في بصره الجسدي ولا يستطيع أن يرى إلاَّ قليلاً وبصعوبة، فمتى صلَّى قائلاً، ” يا رب الكل، امنحني أن ينيرني نور شعاع الشمس أيضًا”، فهو لا يُقدِّم ابتهالاته لأجل الشمس، بل بالعكس، من أجل نفسه، هكذا أيضًا إذا قال إنسان: ” أبانا، ليتقدس اسمك“، فهو بهذا لا يطلب أن تحدث أية إضافة إلى قداسة الله، لكنه بالحري يطلب أنه هو نفسه يقتني مثل ذلك الذهن والإيمان، لكي يشعر أن اسم الله مُكرَّم وقدوس. فهذا الفعل (التقديس) هو مصدر الحياة وسبب كل بركة، فإذا كان الإنسان ينعطف هكذا نحو الله، فكيف لا يكون هذا مدعاة لأسمى اعتبار، ونافع لخلاص النفس؟ ولكن لا تتخيَّل أنه حينما يكون الذين يعتمدون على محبته، جادِّين في توسُّلاتهم إلى الله، أنهم يطلبون منه مثل هذه الأمور لأجل أنفسهم فقط، بل اعلم أن غرضهم هو أن يشفعوا لأجل كل السكان على الأرض، ولأجل كل الذين قد آمنوا مِن قَبْل، ومن أجل كل الذين لم يقبلوا الإيمان بعد، ولا اعترفوا بالحق. لأنهم من جهة أولئك الذين آمنوا مِن قبل، يطلبون لهم أن يكون إيمانهم راسخًا، وأن يستطيعوا ممارسة أمجاد الحياة الأفضل والممتازة جدًّا. بينما من جهة الذين لم يصيروا مؤمنين بعد، فهم يطلبون لأجلهم أن ينالوا الدعوة وأن تنفتح أعينهم، وهم في هذا إنما يتبعون أثر خطوات المسيح، الذي بحسب كلمات يوحنا هو: ” الشفيع عند الآب، لأجل خطايانا، وليس لخطايانا فقط بل لكل العالم أيضًا” (1يو2: 1). إذن فالذي هو الشفيع عن القديسين وعن كل العالم، يريد من تلاميذه أن يكونوا مثله. فإذن عندما نصلِّي للآب قائلين: ” ليتقدس اسمك“، فنحن نضع في أذهاننا أنه وسط أولئك الذين لم يحصلوا بعد على نور الحق، ولم يقبلوا الإيمان، ويُزدرى باسم الله بينهم، لأنه لم يظهر لهم بعد أنه قدوس ومُكرَّم وجدير بالعبادة. ولكن حالما يشرق عليهم نور الحق ويستفيقون بجهد شاق كما من ليل وظلمة، فحينئذ يعرفون “من هو”، وكم هو عظيم. ويتعرفون عليه معترفين أنه هو (قدوس الأقداس)، ومِن ثمَّ يكون لهم عواطف مطابقة وإيمان لائق.
تلك العبارة، أن الله يتقدس بواسطتنا، هو اعترافٌ منَّا بأنه ” قدوس الأقداس”. وهذا لا يمنحه أية قداسة إضافية، هذا هو ما ينبغي أن تفهموه. فقد قال أحد الأنبياء القديسين: ” قدِّسوا الرب فيكون مخافتكم، وإن آمنتم به يصير قداسة لكم” (أى8: 13 سبعينية).
فهل نحن إذن الذين نجعل الله قدوسًا ؟ هل هو عمل الطبيعة البشرية أن تمنح أي شيء لله؟ هل الشيء المصنوع ينفع الصانع ؟ هل يتصور أي إنسان أن ذلك الذي من ملئه يُوزِّع مواهبه بغنى على المخلوقات، هو نفسه ينال أي شيء منا ؟ أنصت إلى ما يقوله المغبوط بولس: ” أي شيء لك لم تأخذه؟” (1كو4: 7) لذلك فحينما قال النبي: ” قدِّسوا الرب فيكون مخافتكم ويصير قداستكم“، فإننا نؤكد أن ما يُعلِّمه لنا هو: ” آمنوا أنه القدوس، لأنكم ستهابونه عندئذ، وهكذا سيصير هو نفسه واسطة تقديسكم”.
وقد كُتِب أيضًا عن المسيح مخلِّصنا جميعًا: ” قدِّسوا ذلك الذي قد استهان بنفسه” (إش49: 7 سبعينية)، لأنه قد استهان بنفسه بأنه لم يعمل حسابًا لحياته، واضعًا إياها من أجلنا. ولكن عندما يقول ” قدسوه ” أي اعترِفوا بأنه قدوس، لأنه هو هكذا بالطبيعة، كونه هو الله نفسه، وابن الله، لأن القداسة الجوهرية لا تناسب أيًّا من تلك الأشياء التي أتى بها من العدم إلى الوجود، بل تناسب فقط تلك الطبيعة الفائقة السمو التي تفوق الكل، ولذلك، فإيماننا أنه بالطبيعة قدوس، لأنه هذا هو معنى تقديسنا له ـ ونعترف بالتالي أنه هو الله ذاته.
لذلك، فلنصلِّ لأجل أنفسنا وليس لأجل الله قائلين: ” ليتقدس اسمك“، لأننا إذا اتَّخذنا هذا الموقف، وقدَّمنا صلوات مثل هذه، بذهن حُر، فإن الله الآب سيقبلنا، ومعه المسيح سيبارِكنا، الذي بواسطته ومعه يليق بالله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين