أبانا الذي في السماوات – إنجيل لوقا 11 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
أبانا الذي في السماوات – إنجيل لوقا 11 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
أبانا الذي في السماوات – إنجيل لوقا 11 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
كل توَّاق للمعرفة يحتسبه ربنا يسوع المسيح جدير بكل ثناء، لذلك يقول: ” طوبى للجياع والعطاش إلى البـِر لأنهم يُشبعون” (مت5: 6). لأنه من اللائق أن نجوع ونعطش باستمرار لهذه الأمور، التي بها يصبح الإنسان محبًّا للأمجاد المقدسة، وغيورًا في كل عمل صالح. لمثل هؤلاء، يكشف المسيح الطريق الذي يمكنهم به أن يُحقِّقوا رغبتهم، ولكن معرفة كيف نُصلِّي هي نافعة للأتقياء أكثر من كل شيء آخر للخلاص، حتى لا نُقدِّم طلبات غير مرضية لله القدير. كما كتب لنا الحكيم بولس ” لأننا لسنا نعرف ما نصلِّي لأجله كما ينبغي” (رو8: 26). دعنا إذن نقترب من المسيح معطي الحكمة، ونقول ” علِّمنا أن نصلِّي” (لو11: 1)، فلنكن مثل الرسل القديسين الذين فوق كل شيء سألوه هذا الدرس الهام والخلاصي.
في اجتماعنا السابق، سمعنا الإنجيل الذي قُرِئ يقول عن المسيح مخلِّصنا جميعًا إنه ” وإذ كان يصلِّي في موضع“. وخاطبناكم شارحين بحسب ما استطعنا، سر التدبير الذي بسببه صلَّى المسيح، وحينما وصلنا في مناقشتنا إلى هذه النقطة، أرجأنا ما تبقَّى إلى فرصة أخرى مناسبة. وها قد حانت الفرصة الآن، فدعونا نتقدم إلى ما يتبع، فالمخلِّص يقول: ” فمتى صلَّيتم فقولوا أبانا“[1]، وأحد الإنجيليِّين القديسين الآخرين يضيف ” الذي في السموات” (مت6: 1).
يا للجود الفائق! … ويا للُّطف الذي لا يُبارَى، وهذا يليق بالله وحده! إنه يمنحنا مجده الخاص، فهو يرفع العبيد إلى كرامة الحريَّة، فيكلِّل حالة الإنسان بمثل هذه الكرامة التي تفوق قوة الطبيعة، ويُحقق ما سبق وأخبر به بواسطة صوت المرنم قديمًا: ” أنا قلتُ إنَّكم آلهة وبنو العليِّ كلكم” (مز81: 6 س). فهو هنا يحرِّرنا من مستوى العبودية واهبًا لنا بنعمته ما لم نكن نملكه بالطبيعة، ويسمح لنا أن ندعو الله أبًا لنا، بعد أن أدخلنا في مرتبة البنين، وهذا ـ مع كل الامتيازات الأخرى ـ قد نلناه من الرب، حسبما يشهد بذلك الحكيم يوحنا الإنجيلي إذ يكتب: ” إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله، وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه، الذين وُلِدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو1: 11ـ13) لأننا قد خُلِقنا في البنوَّة، بواسطة تلك الولادة التي حدثت فينا روحيًّا ” لا من زرع يفنى بل بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد” كما يقول الكتاب (1بط1: 23). وأيضًا هذا ما يعلنه أحد الرسل القديسين قائلاً: ” شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه” (يع1: 18).
والمسيح نفسه يشرح بوضوح في موضع آخر طريقة هذا الميلاد قائلاً: “ الحق أقول لك، ما لم يولد الإنسان من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5) إذ بالحري ـ لأنه يحق أن نُكلِّمكم عن تلك الأمور التي هي سِريَّة ـ فالمسيح نفسه قد صار في نفس الوقت كلا من الطريق والباب، وسببًا لنعمة وُهِبَت لنا، وهى نعمة مجيدة هكذا وجديرة بأن نحصل عليها، وذلك باتخاذه صورتنا. فبالرغم من حقيقة كونه هو الله، وهو حُر تمامًا إلاَّ أنه أخذ صورة عبد (فى2: 7)، ليهبنا ما له، ويُثرِى العبد بامتيازاته الفائقة، فهو وحده بالطبيعة حُر تمامًا، لأنه هو وحده ابن الآب، أي مِن ذاك الذي هو العالي وفوق الكل والذي يسود على الكل والذي بالطبيعة وبالحقيقة حُر تمامًا. لأن كل الأشياء التي خُلِقَت تخضع بعنق العبودية لمن خلقها، وها مرنم المزامير يُرتل له قائلاً: ” لأن كل الأشياء متعبِّدة لك” (مز118: 19 س). ولكن كما أنه في التدبير نقل إلى نفسه ما هو لنا، هكذا فقد أعطانا أيضًا ما هو له. ويشهد لنا بذلك بولس الحكيم جدًّا، خادم أسراره، عندما يكتب هكذا قائلاً: ” فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره ” (2كو8: 9). لأنَّ أخذه ما لنا ـ أي حالة الطبيعة البشرية ـ هو افتقار بالنسبة لله الكلمة، أمَّا أخذنا ما له فهو غِنَى للطبيعة البشرية، وواحدة منها هي كرامة الحُريَّة، وهي هبة تليق خاصة بمن قد دُعوا إلى البنوة، وهذه أيضًا هي هبة منه كما ذكرتُ لأنه قال لنا ” لا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السموات. وأنتم جميعًا إخوة” وهو أيضًا نفسه كذلك، من أجل محبته اللانهائية للبشر، لا يستنكف أن يدعونا إخوة قائلاً هكذا ” أخبر باسمك إخوتي” (مز22:22). فلأنه صار شبيهًا بنا لهذا بعينه قد ربحنا الأُخوَّة معه.
لذا فهو يوصينا أن تكون لنا دالة ونصلِّي قائلين: “أبانا” نحن أبناء الأرض والعبيد والخاضعون له بحسب ناموس الطبيعة، هو الذي خلقنا ندعوه هو الذي في السماء “أبا”. إنه لمن المناسب جدًّا أن يجعل الذين يُصلُّون يفهمون هذا أيضًا، أنه إذا كنا ندعو الله “أبا” وقد حُسبنا أهلاً لهذه الكرامة السامية جدًّا، ألا ينبغي علينا أن نسلك في سيرة مقدَّسة وبلا لوم تمامًا، وأن نحيا هكذا كما يرضي أبانا، وألاَّ نفتكر في شيء أو أن نقول شيئًا لا يليق أو لا يتناسب مع هذه الحرية التي مُنحت لنا.
وهكذا يقول أحد الرسل القديسين: ” وإن كنتم تَدعُون أبًا الذي يَحكُم بغير محاباة حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم بخوف” (1بط1: 17). إنَّه لأمر خطير للغاية أن نُحزِن ونُغضِب أبًا لنا بالإنحراف وراء الأمور غير المستقيمة، فكيف يتصرَّف الآباء الأرضيون أو ما هو شعورهم نحو أبنائهم عندما يرونهم موافقين لرغباتهم، سالكين ذلك الطريق الذي يرضيهم؟ إنهم يحبونهم ويكرمونهم، ويفتحون لهم بيوتهم، ويغدقون عليهم هدايا كثيرة من كل ما يرغبون، ويعترفون بهم كورثة لهم. أمَّا إذا كانوا متمرِّدين غير طائعين، لا يحترمون نواميس الطبيعة غير مبالين حتى ولا بالحب الفِطري المغروس فينا، فإنهم يطردونهم من بيوتهم ويعتبرونهم غير جديرين بأيَّة كرامة أو تسامح أو محبة، بل إنهم يأبون أن يعترفوا بهم كأبناء، ولا يُقرُّون بأي ميراث لهم.
والآن أدعوكم لنرتفع بتفكيرنا من هذه الأمور الحاصلة معنا إلى تلك السمائية التي تفوقها. فأنت تدعو الله أبًا، فأكرمه بطاعة متأهِّبة، وقدِّم له الخضوع الذي يحق له، وعش الحياة التي ترضيه، ولا تسمح لنفسك أن تكون عنيفًا أو متكبرًا، بل على النقيض مذعنًا خاضعًا، مستعدًّا بلا أيِّ إبطاء أن تتبع أوامره حتى يكرمك هو بدوره ويجعلك شريكًا في الميراث مع من هو ابنه بالطبيعة، لأنه إذا كان قد ” بذله لأجلنا، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء” (رو8: 32) حسب تعبير المبارَك بولس. ولكن إن كنتَ لا تُراعي نفسك، ولا تُبالي بسخاء النِّعمة التي أُعطِيت، فقد برهنتَ على أنك بلا حياء ـ وإن جاز القول ـ بلا ملح ـ محبًّا للذة أكثر من حبك للآب السماوي، فخف إذن لئلا يقول عنك الله أيضًا ما قيل عن الإسرائيليين بفم إشعياء ” اسمعي أيتها السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم، ربَّيتُ بنين ونشَّأتهم، أمَّا هم فعصوا عليَّ” (إش1: 2).
فظيع ـ من كل ناحية ـ يا أحبائي هو جُرم الذين يتمرَّدون، وإثم عظيم للغاية هو رفض الإنسان (لله). فإذن، لَحِكمة بالغة ـ كما قلت ـ يمنحنا مخلِّص الكل أن ندعو الله ” أبًا “، حتى إذ نعرف جيدًا أننا أبناء الله، نسلك بطريقة تليق بمن أكرمنا هكذا، فإنه هكذا سيقبل ابتهالاتنا التي نُقدِّمها في المسيح، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.
[1] يلاحظ القديس كيرلس أنَّ عبارة ” الذي في السموات” لم تكن موجودة في الإنجيل بحسب لوقا، فإضافتها هنا ترجع إلى أنَّ الصيغة الكاملة الموجودة في الإنجيل حسب متى هى المعروفة أكثر، كما وُجدت في ليتورجيات الكنيسة.