الصلاة الربانية – إنجيل لوقا 11 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
الصلاة الربانية – إنجيل لوقا 11 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
الصلاة الربانية – إنجيل لوقا 11 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو11: 1ـ4): ” وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ لَمَّا فَرَغَ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا رَبُّ عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ. فَقَالَ لَهُمْ: مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ. واغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ“.
أيها الحارُّون والملتهبون بالروح، ها قد أتيتم الآن أيضًا، ونحن نرى ساحة الله المقدسة وقد غصَّت بالمستمعين الشغوفين، وهدف اجتماعكم بلا شك هو هدف تَقَوي، فقد اجتمعتم معًا لكي تتلقوا التعليم، وموزِّع العطايا الإلهية سيشبعكم هو أيضًا بالأمور التي ترغبون أن تُحسبوا أهلاً لنوالها، وسيهيئ لكم مائدة روحية، ويصرخ قائلاً: ” تعالوا كلوا خبزي واشربوا من الخمر التي مزجتها لكم” (أم9: 5) وكما يقول المرنم: “خبز يُقوِّي قلب الإنسان، وخمر عقلي يفرحه” (مز104: 15). لذلك فلنقترب الآن من المائدة المهيَّأة أمامنا، أي لنقترب من معنى دروس الإنجيل: ولنلاحظ بانتباه شديد ما هي الفائدة التي تعطيها لنا، وما تُولِّده فينا من الصفات اللازمة للكرامة اللائقة بالقديسين.
يقول الكتاب، إن المسيح ” كان يصلى على انفراد” ومع ذلك فهو الله، وهو ابن الله الذي هو فوق الكل، وهو الذي يُوزِّع على الخليقة كل الأشياء التي بها تزدهر وتُحفظ في الوجود، وهو ليس في احتياج على الإطلاق إلى أي شيء، لأنه هو ممتلئ كما قال عن نفسه. وقد يتساءل أحدهم قائلاً: ” إذن فما الذي يحتاجه ذلك الذي له، بحق طبيعته، كل ما للآب”؟ لأنه قال بوضوح: “ كل ما للآب فهو لي” (يو16: 15). ولكن خاصية الآب هي أن يكون ممتلئًا من كل صلاح ومن تلك الامتيازات التي تليق بالألوهية، وهذا أيضًا هو ما للابن. والقديسون إذ يعرفون هذا يقولون ” ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا” (يو1: 16). ولكن إن كان يُعطي من ملئه الإلهي الخاص، فلأي شيء يمكن أن يحتاج؟ وما الذي يحتاج أن يأخذه من الآب، كما لو لم يكن له من قبل؟ وما الذي يصلِّي لأجله إن كان هو ممتلئًا ولا يحتاج إلى شيء مما للآب!
نجيب على هذا فنقول: إنه بحسب طريقة التدبير في الجسد، فهو يسمح لنفسه أن يمارس الأعمال البشرية حينما يريد، وكما تستلزم المناسبة دون أن يُلام لأنه فعل هذا. فإن كان قد أكل وشرب ونام، فلماذا يكون من غير المعقول ـ وهو قد وضع نفسه إلى مستوانا، وأكمل البِرَّ البشري ـ أن يُقدِّم الصلاة أيضًا؟ ومع ذلك فهو بالتأكيد غير محتاج إلى شيء، لأنه ” ممتلئ” كما سبق أن قلنا. فلأي سبب إذن، ولأي واجب ضروري ونافع، قد صلَّى هو؟ لقد فعل هذا لكي يُعلِّمنا ألاَّ نتراخى في هذا الأمر بل بالحري أن نكون مداومين على الصلاة وبإلحاح شديد، ولا نقف في وسط الشوارع. فهذا ما اعتاد أن يعمله بعض اليهود، أي الكتبة والفريسيون. ولا نجعل هذا فرصة للتباهي، بل بالحري نُصلِّى على انفراد وبهدوء، أي نتحدَّث بيننا وبين الله وحده، بذهن نقي غير مشتَّت. وهذا قد علَّمنا إيَّاه بوضوح في مكان آخر عندما تكلَّم عن الذين يتظاهرون بصلواتهم، قائلاً: ” إنهم يحبُّون أن يُصلُّوا قائمين في زوايا الشوارع، وفى المجامع… أمَّا أنت فمتى صَلَّيتَ فادخل مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي يرى في الخفاء سوف يجازيك” (مت6: 5ـ6). لأنه يوجد قوم يربحون لأنفسهم شهرة التقوى، وهم يلتفتون باهتمام إلى المظاهر الخارجية، وهم من الداخل ممتلئون من محبة المجد الباطل. هؤلاء عند دخولهم الكنيسة، قبل كل شيء يجولون بأنظارهم في كل اتجاه لينظروا عدد الواقفين هناك وليروا إن كان هناك نُظَّارة كثيرون، وبمجرَّد أن يُسرُّوا بعدد الحاضرين، يرفعون يدهم إلى جبهتهم، ليس مرة فقط بل مرات عديدة يصنعون علامة الصليب الثمين، وهكذا إذ ينسجون صلاة طويلة حسب خيالهم الخاص، فإنهم يثرثرون بصوت عال كما لو كانوا يُصلُّون للناس وليس لله. لمثل هؤلاء نقول كلمات المخلِّص ” قد استوفيتم أجركم” (مت6: 5). لأنكم تُصلُّون لتتصيَّدوا مديح الناس، وليس لتطلبوا أي شيء من الله. لقد تحقَّقَت رغبتكم، فقد مُدحتم كأنكم أتقياء، ونلتم المجد الباطل، إلاَّ أنكم اشتغلتم في عمل لا ثمر له، لقد زرعتم فراغًا وستحصدون عدمًا. هل تريدون أن تروا نهاية ما تصنعونه؟ اصغوا إلى قول المرنم داود: ” الله قد بدَّد عظام الذين يرضون الناس” (انظر مز53: 5)، والمقصود بالعظام طبعًا ليس عظام الجسم، لأنه لا يوجد أمثلة لأي أناس حدث لهم هذا، ولكن المقصود هو مَلَكَات الفكر والقلب التي بها يصنع الإنسان الصلاح. فقوَّات النفس إذن هي الغيرة التي تؤدِّي إلى المثابرة، والشجاعة الروحية، والصبر والاحتمال، هذه الصفات يبددِّها الله من هؤلاء الذين يهتمون بإرضاء الناس.
لذلك، فلكي نبتعد عن هذه الطرق الخاطئة، ونهرب من الفخاخ التي يتعرَّض لها الذين يسعون إلى إرضاء الناس، ولأجل أن نُقدِّم لله صلاة مقدسة، بلا لوم، وغير مدنَّسة، فقد قَدَّم المسيح لنا نفسه مثالاً، إذ اعتزل عن أولئك الذين كانوا معه، وصلَّى منفردًا. لأنه من الصواب أن يكون رأسنا ومعلِّمنا في كل عمل صالح ونافع، ليس آخر سوى المسيح الذي هو بكر بين الجميع، وهو الذي يَقبَل صلوات الجميع، والذي يمنح، مع الله الآب، أولئك الذين يسألونه، كل ما يحتاجون إليه، لذلك فإن رأيته يُصلِّى كإنسان، فذلك إنما لكي تتعلَّم أنت كيف تصلِّي، وإياك أن تبتعد عن الإيمان والاعتقاد أنه إذ هو بالطبيعة الله الذي يملأ الكل، فإنه صار مثلنا ومعنا على الأرض كإنسان، وتمَّم كل الواجبات البشرية حسبما اقتضى التدبير، ولكنه مع ذلك فهو الجالس في السماء مع الآب، يُوزِّع من ملئه الخاص، كل الأشياء للجميع، ويقبل الصلوات من سكان الأرض، ومن الأرواح التي فوق، والجميع يكلِّلونه بالتسابيح، فهو بصيرورته مثلنا لم يتوقف عن أن يكون إلهًا، ولكنه استمر رغم ذلك، كما كان قبلاً، لأنه يليق أن يكون دائمًا هو هو كما كان قبلاً، وكما تشهد الكتب المقدسة، ليس معرَّضًا حتى إلى ” ظل دوران” (يع1: 17).
ولكن لأنَّ ما تبقَّى يحتاج إلى حديث طويل، لذلك نتوقف الآن عن الحديث، حتى لا يصير كلامنا مملاًّ للسامعين، ثم نعود فنشرحه لكم بمعونة الله عندما يجمعنا المسيح مخلِّصنا جميعنا هنا في المرَّة القادمة، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.