النصيب الصالح – إنجيل لوقا 10 ج9 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو10: 38ـ42): ” وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. وَكَانَتْ لِهذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ. وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ. فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: يَارَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي! فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَها: مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا “.
يا من تعشقون الفضائل التي تُزيِّن التقوى، وتمارسون بحرص، كل الفنون التي للقدِّيسين، تعالوا أيضًا واصغوا إلى التعليم المقدَّس ولا تدعوا خصلة إضافة الغرباء غريبة عنكم، فهي خصلة عظيمة وحميدة كما يشهد الحكيم بولس بقوله: ” لا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون” (عب13: 2). ليتنا نتعلَّم من المسيح مخلِّص الجميع هذه الفضيلة، بل وأيضًا جميع الفضائل. إنه مما يخزينا أنه بينما كل الذين يطلبون الحكمة العالمية، والذين يجمعون المعرفة المكتوبة، يختارون أفضل المعلِّمين لتعليمهم، فإننا نحن الذين لنا المسيح معلِّمًا ومرشدًا، والذي هو مُعطِي كل حكمة، والذي يحثنا أن نصغي باجتهاد للتعاليم الفائقة القدر، لا نتمثل بهذه المرأة ـ مريم ـ في محبَّتها للتعاليم، والتي جلست عند قدمي المخلِّص، وملأت قلبها بالتعاليم التي علَّم بها، وهى تشعر كأنها لن تشبع مما ينفعها نفعًا عظيمًا.
دخل المخلص إلى منزل المرأتين القدِّيستيْن، ويقول الكتاب: وكانت مريم تسمع كلامه، أمَّا مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة، فطلبت إليه أن يجعل أختها تشاركها اهتماماتها، ولكن الرب لم يقبل وقال لها: ” مرثا مرثا أنتِ تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة“، وبالأكثر مدح مريم لأنها ” اختارت النصيب الصالح الذي لن يُنزع منه“، لأن اقتناء البركات الروحية لا يمكن أن يضيع.
أول ما يجب أن نفحصه هنا، هو الطريقة التي أراد بها المخلِّص أن يفيد تلاميذه، إذ يجعل نفسه مثالاً، حتى يعرفوا كيف وبأي طريقة يتصرَّفون في بيوت الذين يقبلونهم، لأنهم لا ينبغي أن ينغمسوا في التسلية عند دخولهم البيوت، أو يظنوا أن هذا هو السبب الذي يزورون الناس لأجله، بل بالحري يملأوا مضيفهم بكل بركة، وبالتعاليم الإلهيَّة المقدَّسة. لذلك فبولس الطوباوي يرسل رسالة لأناس معيَّنين يقول فيها: ” إنِّي مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم” (رو1: 11). لاحظوا إذن أنَّ ربنا يسوع المسيح عندما دخل لزيارة هاتين المرأتين المقدَّستين لم يهمل تعليمهما، بل ومنحهما ـ بدون قيد ـ تعاليم الخلاص الرصينة. كانت إحدى الأختين راسخة في محبتها للاستماع، أما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة، فهل يلومها أحد إذن بسبب انشغالها وعنايتها بالخدمة؟ طبعًا لا. فالرب نفسه لم يُعنِّفها لأنها ارتأت لنفسها أن تقوم بأعباء هذا الواجب، ولكنه لامها لأنها كانت تتعب عبثًا لسبب رغبتها أن تُدبِّر أكثر مما كان ضروريًّا، وهذا فعله الرب لأجل منفعتنا حتى يضع حدودًا مناسبة لإضافة الغرباء، إذ أنَّ النصيب الآخر وهو الرغبة في استماع التعليم الإلهي هو أفضل جدًّا.
فنحن لا نقصد بكلامنا هذا أنَّ الرغبة في إضافة الغرباء حينما لا تتجاوز الحدود المقبولة ينبغي أن تُحتَقَر أو أنها ليست خدمة، فالقدِّيسون أنفسهم يصمِّمون على القناعة بالقليل، وعندما يجلسون على المائدة ويأكلون، وهم يفعلون ذلك ليُشبعوا حاجة الجسد حسب قوانين الطبيعة، ولكن ليس بقصد الاهتمام باللذة والاسترخاء. لذلك يجب علينا عندما يستضيفنا الإخوة، لنحصد منهم الجسديات، يلزم أولاً أن نزرع لهم الروحيات، وإذ نتمثل في ذلك بالمزارعين المهرة فإننا نكشف قلوبهم لئلا ينبت فيها أصل مرارة ويؤذيهم، ولئلا تهاجمهم دودة الابتداع البَشَرى وتصيبهم بفساد خفي. وإن حدث هذا، فعلينا أن نلقي في عقولهم كلمة التعليم الخلاصية، وكما بأسنان فأس نستأصل جذور عدم التقوى، ونقتلع زوان الضلال من جذوره، ونزرع فيهم معرفة الحق، وهكذا يمكننا أن نحصد الجسديات من أولئك الذين يملكون الوفرة، وننالها منهم كأنها دين عليهم، لأنه يقول: ” الفاعل مستحق أجرته“.
ويشير ناموس موسى إلى نفس الحقيقة بقوله في موضع ما: ” لا تكمَّ ثورًا دارسًا“. ولكن كما يقول بولس: ” هل الله تهمّه الثيران أم يقول مطلقًا مِن أجلنا؟” (1كو9:9). أنت ستعطِي إذن أشياء أفضل وأقيم ممَّا ستأخذه من الناس. ستعطيهم عطايا أبديَّة عوضًا عن الأمور الزمنية، السمائية عوضًا عن الأرضية، والعقلية عوضًا عن الحسيَّة، والباقيات عوضًا عن الفانيات.
ولكن دع الذين يفتحون بيتهم لهم، يلاقونهم ببشاشة وسرور، وكشركاء لهم، وليس بشعور من يعطِي ولكن بشعور من يأخذ، أي كمن يربح وليس كمن ينفق. إنهم بهذا ينالون فائدة مزدوجة؛ أولاً هم يستفيدون من تعليم أولئك الذين يستضيفونهم بانفتاح؛ وثانيًا يربحون أيضًا مكافأة إضافة الغرباء، ولذلك فهم ينتفعون من كل جهة. ومع ذلك فحينما يستقبلون الإخوة في بيوتهم فلا ينبغي أن يرتبكوا في خدمة كثيرة ولا ينهمكوا بما يفوق مواردهم أو ما يزيد عن الكفاية، فإن الإسراف مؤذي في كل مكان وفى كل شيء، لأنه كثيرًا ما يُسبب تردُّدًا عند أولئك الذين لولاه لكانوا يرغبون في استضافة الغرباء بفرح، وتكون النتيجة أنه لن توجد إلاَّ بيوت قليلة مناسبة لهذا الغرض، بينما هو يُسبب ازعاجًا للضيوف. لأن الأغنياء في هذا العالم يبتهجون بالموائد المسرِفة بالمأكولات المتعدِّدة المجهَّزة بالتوابل والروائح، وإن كانت الوليمة فيها مجرَّد الكفاف فهي تُحتقَر تمامًا، فالإفراط هو الذي يُمدح عندهم، ويصير ما فوق الشبع هو مثار الإعجاب والإطراء، والمشروبات والعربدة تكون عندهم بإفراط وكذلك الأقداح الممتلئة وكثرة النبيذ التي تؤدى إلى السُّكر والنهم. ولكن عندما يجتمع القديسون في بيت إنسان يخاف الله، المائدة بسيطة ومعتدلة والأطعمة بسيطة وبدون إفراط، قليل من الطعام للأكل ببساطة وكذلك كمية محدودة من الشراب. إنَّ مؤونة صغيرة من هذه الضروريات سوف تُشبِع شهيَّة الجسد بطعام بسيط. هكذا ينبغي أن تكون إضافة الغرباء، وهكذا أيضًا استضاف إبراهيم الثلاثة رجال عند بلوطة ممرا، فنال مكافأة اهتمامه وهو الوعد بابنه الحبيب إسحق، ولوط لمَّا كرَّم الملائكة في سدوم لم يهلك بالنار مع الباقين ولم يصير مأكلاً للنار التي لا تُطفأ.
عظيمة إذن هي فضيلة إضافة الغرباء خصوصا القدِّيسين منهم، فليتنا نمارسها أيضًا، وهكذا يجد المعلِّم السماوي راحته ويسكن في قلوبنا، أعنى المسيح، الذي به ومعه لله الآب الكرامة والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.