سر الآب للأطفال – إنجيل لوقا 10 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
سر الآب للأطفال – إنجيل لوقا 10 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
سر الآب للأطفال – إنجيل لوقا 10 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو10: 21) ” وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ، رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ، لأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ “.
قال أحد الأنبياء القديسين: ” هلمُّوا إلى المياه أيها العطاش جميعًا” (إش55: 10) وهو بهذا يوجِّهنا إلى كتابات البشيرين القدِّيسين كما إلى ينابيع مياه، فكما أنَّ المياه مُبهجة للنفس الظامئة كما يقول الكتاب (أم25:25)، هكذا تكون معرفة أسرار المخلِّص التي تُعطِي الحياة للعقل الذي يُحب التهذيب. دعونا نقترب من الينابيع المقدَّسة، من المياه الحيَّة والمعطِية الحياة، تلك المياه التي هي عقلية وروحية. هيا لنمتلئ منها ولا نكِل من الشُّرب. فإن ما يزيد عن الكفاية في هذه الأمور، لا يزال لأجل بنياننا”، والشَّره هنا ممدوح جدًّا، إذن، ما هو الذي قاله المخلِّص ـ هذا الينبوع النازل من السماء، نهر الفرح ـ فذلك نتعلَّمه مِمَّا قد تُلِيَ علينا الآن: ” في تلك الساعة تهلَّل يسوع بالروح القدس وقال“. إذن يجب على كل من يُحب التَّعليم أن يقترب من كلمات الله بكل عناية وليس بلا حماس، بل بالعكس، بكل غيرة، لأنه مكتوب: ” كل من يتعب ويجتهد له خير وفير” (أم24: 23)، فلنفحص الكلمات وخاصَّة ما هو المقصود بالتعبير أنه ” تهلَّل بالروح القدس“.
الروح القدس ينبثق من الله الآب كما من الينبوع، ولكنه ليس غريبًا عن الابن، لأن كل ما للآب فهو للكلمة الذي هو بالطبيعة وبالحقيقة مولود منه. لقد رأى المسيح أنَّ كثيرين قد رُبحوا بفعل الروح الذي منحه هو للذين يستحقونه، وللذين أوصاهم ليكونوا خُدَّاما للرسالة الإلهية. لقد رأى أنَّ آيات عجيبة تجرى على أيديهم، وأن خلاص العالم بواسطته ـ أعنى بالإيمان ـ قد بدأ الآن، لذلك فقد تهلَّل بالروح القدس، أي بالأعمال والمعجزات التي تمَّت بواسطة الروح القدس. لقد عيَّن الرب الاثنا عشر الذين دعاهم أيضًا رسلا، وبعد ذلك عيَّن سبعين آخرين الذين أرسلهم كسابقين أمامه إلى كل قرية، ومدينة في اليهودية، ليُبشِّروا به وبالأمور المختصَّة به، وقد أرسلهم مزيَّنين حسنًا بالكرامات الرسولية، ومميَّزين بفعل نعمة الروح القدس، لأنه أعطاهم قوة على الأرواح النجسة ليخرجوها، لذلك فبعد أن عملوا معجزات كثيرة، رجعوا إليه قائلين: “يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك” وكما قلتُ لكم سابقًا، إذ أنَّ الرب يعلم جيدًا أنَّ الذين أرسلهم قد صنعوا خيرًا لكثيرين بل وهم أنفسهم قد عرفوا مجده بالاختبار، فإنه امتلأ بالفرح بل بالتهليل، ولأنه صالح ومحب البشر ويريد خلاص الجميع، فقد وجد لنفسه سببًا للتهليل، ألا وهو تحوُّل أولئك الذين كانوا في الضلال، واستنارة الذين كانوا في الظلمة، واستعلان مجده لأولئك الذين بلا معرفة أو تعليم.
فماذا يقول إذن؟ ” أحمدك أيها الآب رب السموات والأرض“… وهذه الكلمات: “أعترف لك” يقولها مثل البشر بدلاً من “أَقبَل إحسانك” أي ” أشكرك”، لأن الكتب الإلهية الموحَى بها اعتادت أن تستعمل كلمة ” أعترف” بمثل هذه الطريقة، لأنه مكتوب: ” سيعترفون لاسمك العظيم المرهوب، يا رب، لأنه مرهوب وقدوس” (مز98: 3 س)، وأيضًا ” أعترف لك يا رب بكل قلبي وأُخبر بجميع عجائبك” (مز85: 2 س).
ولكني ألاحظ أيضًا أنَّ أذهان الناس الفاسدين لا ترعوى عن فجورها، وبعضًا منهم يعترض علينا قائلاً “ها الابن يُقدِّم اعتراف الحمد للآب، فكيف لا يكون أقل من الآب؟” ولكن كل من هو ماهر في الدفاع عن تعاليم الحق، يجيب عن هذا قائلا: “وماذا يمنع أيها السادة الكرام، أنَّ الابن مع كونه مساويًا في الجوهر، يحمد ويشكر أباه، لأنه يخلِّص كل الذين تحت السماء بواسطته؟ ولكن إن ظننتَ أنه بسبب شكره هو أقل من الآب، فلاحظ أيضًا ما يلي: أنه يدعو الآب ” رب السماء والأرض“. ولكن بالتأكيد فإن ابن الله الضابط الكل بالتساوي معه هو رب الكل، وفوق الكل وليس هو أقل منه، أو مختلف عنه في الجوهر، ولكنه إله من إله، مكلَّل بنفس الكرامات، ويملك بحق جوهره، المساواة معه في كل شيء”، وهذا كاف للإجابة عليهم.
لكن دعونا الآن نتأمل الكلمات التي خاطب بها أباه بخصوصنا ونيابة عنا إذ يقول: ” لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرَّة أمامك“، لأن الآب قد كشف لنا السر الذي كان مكتومًا ومحفوظًا في صمت عنده، من قبل إنشاء العالم الذي هو تجسُّد الابن الوحيد، الذي كان معروفًا سابقًا حقًّا، قبل إنشاء العالم، ولكن أُعلن لسكانه في أواخر الدهر. فالمبارك بولس يكتب: ” لي أنا أصغر جميع القديسين أُعطِيَتْ هذه النعمة أن أُبشِّر به بين الأمم بغِنَى المسيح الذي لا يُستقصى، وأُنير الجميع في ما هو تدبير السر[1]المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع” (أف3: 8). إن هذا السر العظيم المسجود له الذي لمخلِّصنا كان من قبل تأسيس العالم، مخفيًّا في معرفة الآب، وبالمثل نحن قد سبق أن عرفنا، وسبق أن عيَّنَنَا لتبنِّي البنين. وهذا ما يُعلِّمنا إياه أيضًا المبارك بولس بقوله: ” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه إذ سبق فعيَّننا في المحبة للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه” (أف1: 3ـ5). فلنا إذن ـ كما للأطفال ـ كشف الآب السر الذي كان مخفيًّا ومحفوظًا في صمت طوال الدهور.
لقد سبقنا في هذا العالم حشد كبير كانوا على مستوى الكلمات، لهم لسان طلق متميِّز، لهم سمعة كبيرة في الحكمة، وفى فخامة التعبير، والأسلوب الجميل، ولكن كما قال عنهم بولس: ” حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات… لذلك أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض” (رو1: 21ـ25)، “وجعل الله حكمة هذا العالم جهالة” (1كو1: 20)، كما أنه لم يعلن لهم السر. أمَّا لنا نحن فقد كتب: ” إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلاً لكي يصير حكيمًا، لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله” (1كو3: 18). لذلك، فيمكن المرء أن يؤكد أنَّ من له مجرَّد حكمة العالم فقط، هو جاهل وبلا فهم أمام الله، ولكن من يظهر أنه جاهل في نظر حكماء هذا العالم، ولكن له في قلبه وفكره نور رؤية الله الحقيقيَّة فهو حكيم أمام الله. وبولس يؤكد هذا أيضًا بقوله: ” لأن المسيح أرسلني لا لأُعمِّد بل لأُبشِّر، لا بحكمة كلام لئلا يتعطَّل صليب المسيح، فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله، لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء” (1كو1: 17ـ19) (إش29: 14)، وقد أرسل بولس أيضًا قائلاً: ” فانظروا دعوتكم أيها الإخوة أنْ ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء، بل اختار الله جُهَّال العالم ليخزى الحكماء” (1كو1: 26)} والذين يظهرون كأنهم جهلاء، بمعنى أنهم ذوو ذهن نقى وعديم المكر، وهم بسطاء كأطفال في الشر، لهؤلاء أَعلن الآب ابنه، إذ هم أنفسهم أيضًا قد سبق فعرفهم وسبق فعيَّنهم لتبنِّي البنين.
ومن المناسب في ظنِّي أنَّ نضيف أيضًا ما يأتي، أنَّ الكتبة والفريسين الذين بلغوا شأنًا عظيمًا عند اليهود بسبب علمهم الناموسي كانوا يعتبرون أنفسهم حكماء، ولكن حكم عليهم بنفس النتيجة أنهم ليسوا هكذا في الواقع، فإرميا النبي يخاطبهم في موضع ما قائلاً: “كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا بينما حوَّلها قلم الكتبة الكاذب إلى الكذب. خزيَ الحكماء ارتاعوا وأُخذوا، ها قد رفضوا كلمة الرب فأيَّة حكمة لهم؟ (إر8: 8و9)، لأنهم رفضوا كلمة المخلِّص أي رسالة الإنجيل الخلاصيَّة، أو بعبارة أخرى، كلمة الله الآب الذي من أجلنا صار إنسانًا، لذلك فهم أنفسهم قد رُفِضوا، وعنهم قال أيضًا إرميا النبي: ” وهم يُدعَون فضة مرفوضة، لأن الرب قد رفضهم” (إر6: 30).
وقد أخفى عنهم سر المسيح أيضًا، لأنه قال عنهم في موضع ما لتلاميذه ” لأنه قد أُعطِيَ لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأما لأولئك فلم يعطَ” (مت13: 11) ” أُعطِيَ لكم“، أي لمن؟ هو بوضوح للذين آمنوا، لهؤلاء الذين تعرَّفوا على ظهوره، للذين يفهمون الناموس روحيًّا، الذين يدركون أنه معنى الإعلان القديم الذي للأنبياء، الذين يعترفون أنه الله وابن الله، لهؤلاء سُر الآب أن يُعلِن ابنه الذي به، ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.
[1] لاحظ أنَّ أغلب المخطوطات اليونانية تكتب Oikonomia بمعنى “تدبير” وليس Koinonia بمعنى شركة، كما تنص ترجمة دار الكتاب المقدس القديمة وصُوِّبت في كل الترجمات الحديثة بالكلمة “تدبير”. راجع في هذا كتاب شرح رسالة أفسس ص 69 للدكتور نصحي عبد الشهيد، إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة.