المسيح يُخضِع الشياطين للتلاميذ – إنجيل لوقا 10 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو10: 17ـ20) ” فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ!. فَقَالَ لَهُمْ: رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ. هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. وَلكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ “.
قال أحد الأنبياء القديسين: ” هل يعمل الله شيئًا دون أن يُعلِنه لخدَّامه الأنبياء” (عا3: 7)، لأن إله الكل قد كشف للأنبياء القديسين هذه الأمور التي ستحدث فيما بعد، لكي يُعلنوها مسبقا حتى أنه حينما يتحقَّق ما قد سبق وأخبروا به فلا يمكن لأحد أن لا يصدِّقهم. ومن يريد يمكنه أن يرى أنَّ ما قد أكَّدناه الآن هو صحيح حتى من الدروس التي أمامنا. يقول الكتاب: “فرجع السبعون بفرح قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك” لأن الرب عيَّن أولاً اثنا عشر تلميذًا قدِّيسين ومختارين وجديرين بكل إعجاب. ولكن، وبحسب ما قد أوضح المسيح أنَّ ” الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون” (لو10: 2)، فإنه عين بالإضافة لهم سبعين آخرين أرسلهم إلى كل قرية ومدينة في اليهودية أمام وجهه، حتى يكونوا سابقين له، وليبشِّروا بالأمور المختصة به.
وعندما أرسلهم، فإنه شرَّفهم بنعمة الروح القدس، وأيَّدهم بقوة عمل المعجزات حتى يصبح مستحيلاً أن لا يصدِّقهم الناس، ولا أن يظنُّوا أنهم دعوا أنفسهم بأنفسهم إلى الرسولية، كما تنبأ البعض في القديم، كما يقول الكتاب: ” لم يتكلموا بما أوحى به فم الرب” (إر23: 16)، فيتقيأون كذبًا من قلوبهم. كما تكلَّم الرب بفم إرميا في موضع آخر قائلاً: ” إنِّي لم أرسل هؤلاء الأنبياء ومع ذلك انطلقوا راكضين ولم أوحِ لهم ومع ذلك يتنبَّأون” (إر23: 21) وأيضًا في موضع آخر: ” إن الأنبياء يتنبأون زورًا باسمي وأنا لم أُرسلهم ولم آمرهم ولم أُكلِّمهم” (إر14:14). وحتى لا يشك الناس في الذين أرسلهم المسيح، فإنه أعطاهم السلطان على الأرواح النجسة والقدرة على عمل الآيات، لأنه إذا ما تبعت المعجزة الإلهية الكلمة، فلن يمكن لا للمشتكي أو لليهودي الكاذب أن يجد فرصة ضدهم، لأنهم سيوبَّخون بسبب اتهامهم لهم بلا سبب، بل بالحري لأنهم قصدوا أن يُحارِبوا الله. إنَّ عمل المعجزات ليس في استطاعة أي إنسان، إلاَّ إذا أعطاه الله القوة والسلطان لهذا الغرض. إنَّ نعمة الروح شهدت لهؤلاء الذين أرسلهم المسيح أنهم لم يكونوا أشخاصًا ركضوا من أنفسهم، أو دعوا أنفسهم للكلام عن المسيح، بل على العكس، إنما هم قد أُقيموا ليكونوا خدامًا لرسالته.
إن السلطان الذي حمله التلاميذ لينتهروا الأرواح الشريرة، والقوة لسحق الشيطان، لم تُعطَ لهم لكي ينظر الناس إليهم بإعجاب، بل لكي يتمجَّد المسيح بواسطتهم، ولكي يؤمن أولئك الذين يعلِّمونهم أنه هو بالطبيعة الله وابن الله، ولكي يُكرَّم بالمجد العظيم والعلو والقوة لكونه استطاع أن يمنح الرسل القوة ليطأوا الشيطان تحت أقدامهم.
أما التلاميذ، الذين حُسبوا مستحقِّين لهذه النعمة العظيمة، فالكتاب يقول إنهم: ” رجعوا بفرح قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك“. إنهم اعترفوا بسلطان المسيح الذي شرَّفهم به، وتعجَّبوا من قوته الفائقة والعظيمة. ويبدو أنهم فرحوا، ليس كثيرًا بسبب أنهم خُدَّام للرسالة، ولا لأنهم حُسبوا أهلاً للكرامات الرسولية، بقدر فرحهم لأنهم صنعوا معجزات. ولكن كان من الأفضل لهم أن يعرفوا أنه أعطاهم القوة لصنع المعجزات لا لينظر إليهم الناس بإعجاب لهذا السبب، ولكن لكي تُقبَل بشارتهم وتعاليمهم، إذ يشهد الروح القدس لهم بالآيات الإلهية. كان الأجدر بهم أن يفرحوا بالذين رُبِحوا للمسيح ويجعلوا هذا سببًا للتهليل. كما افتخر الحكيم جدًّا بولس بالذين دُعُوا بواسطته قائلاً: ” يا سروري وإكليلي” (فى4: 1). أمَّا التلاميذ فلم يقولوا شيئًا من هذا النوع، ولكنهم فرحوا فقط بسبب أنهم استطاعوا أن يسحقوا الشيطان.
وماذا كانت إجابة المسيح؟: ” رأيتُ الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” أي، أنا أعلم هذا تمامًا، لأنكم بما أنكم ذهبتم في هذه الرحلة بتفويض منِّي، فقد قهرتم الشيطان. ” رأيته نازلا كالبرق من السماء“، أي سقط من العلاء إلى الخزي، من القوة العظيمة إلى منتهى الضعف. وهذا القول حق، فقبل مجيء المخلص تملك الشيطان على العالم، وكان الكل خاضعًا له، ولم يكن إنسان يقدر أن يفلت من شباك قوته الساحقة، الكل كانوا يعبدونه، وفى كل مكان كانت تُشيَّد له هياكل ومذابح لتقديم ضحايا، وكان له جمهور لا يُحصى من العابدين. ولكن لأن الابن الوحيد كلمة الله قد جاء من السماء، فإنه سقط مثل البرق، وهذا الذي كان قديمًا وقحًا ومتشامخًا، الذي كان يتنافس على مجد الألوهية، والذي كان يعبده كل الذين في الإثم، وُضع الآن تحت أقدام الذين كانوا يسجدون له. أليس حقًّا إذن سقط من السماء إلى الأرض، بمعاناته لمثل هذا السقوط الفظيع والمرعب؟
من هو إذن، الذي حطَّم قوَّته وأذلَّه إلى هذا الحضيض؟ واضح أنه هو المسيح، وهذا أعلنه لنا الرب في كلماته: ” ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء“. ولكن قد يجيب أحد ويقول: ” إننا يا سيد نفرح بالمجد والنعمة اللتين منحتهما لنا، لأننا نعترف أنه حتى الشياطين تخضع لنا باسمك، وكيف إذن سنُخبر أولئك الذين يعرفون هذا وقد اعترفوا به صراحة”؟ ” ها أنا قد أعطيتكم سلطانًا أن تدوسوا الحيات والعقارب“. يقول، نعم ـ إنَّني أدعوكم أن تتذكروا هذه الأشياء التي تعرفونها، حتى لا تنساقوا بجهالة اليهود، الذين إذ لا يعرفون سر تجسُّدي، فإنهم يقتربون منِّي كمجرد إنسان، ويضطهدوني قائلين: ” لماذا وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا؟” (يو10: 33). وهو يقول إنه كان واجبًا عليهم أن يعرفوا أنَّني، لست بكوني إنسانًا ـ بحسب كلماتهم ـ أقول عن نفسي إنَّني الله، ولكن بالحري إذ أنا بالطبيعة الله، قد لبستُ شكل العبد وظهرتُ على الأرض كإنسان مثلكم. ولكن ما هو برهان هذه الأمور؟ انظروا: ” ها أنا أعطيكم سلطانًا أن تدوسوا الحيات والعقارب“. هذا ليس مجرد عمل إنسان، وليس لأحد مثلنا أن يمنح آخرين مثل هذا السلطان المجيد والعجيب لكي يكون لهم القدرة أن يدوسوا على كل قوة العدو، هذا بالحري عمل خاص بالله فقط، الذي هو العالي فوق الكل والمكلَّل بالكرامات الفائقة.
والموضوع يمكن أن يُشرح أيضًا بطريقة أخرى، فهو بهذا لا يدع للتلاميذ أي عذر للاستسلام للجُبن، ولكنه يطلب منهم بالحري أن يكونوا أقوياء القلب وشجعانًا. لأنه هكذا ينبغي أن يكون خُدَّام الكلمة الإلهية، غير جبناء، وغير مقهورين بالكسل، ولكن ” يكرزون بقوَّة عظيمة” كما يقول الكتاب (أع9: 23)، وجسورين في متابعة أولئك الذين يُنظِّمون أنفسهم ضدهم، ويحاربون بشجاعة ضد العدو، فالمسيح الذي يساعدهم، وهو الذي سيُخضع قوات الشر الدنسة تحت أقدامهم، بل وحتى الشيطان نفسه.
” من هو الإنسان الذي هو أقوى من رؤساء عالم الظلمة” (أف6: 12) أو أقوى من تلك الحية الخبيثة ورئيس الشر؟ لذلك فالذي يكسر رؤوس التنانين (مز73: 13س) كيف يكون عاجزًا عن أن يُخلِّصهم من هجمات أي واحد من سكان هذا العالم؟ إذن ليس بدون نفع، يُعلن المسيح لتلاميذه: ” ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو“.
ولكنه يزيدهم منفعة إذ يضيف في الحال: ” لكن لا تفرحوا بهذا أنَّ الشياطين تخضع لكم، ولكن افرحوا بالحري أنَّ أسمائكم كتبت في السموات” ألا تسمح يا رب للذين كرَّمتهم أن يفرحوا بما كرَّمتهم به ؟ ومكتوب عن الذين عُيِّنوا للرسولية: ” يا رب بنور وجهك يسلكون، باسمك يبتهجون اليوم كله، وبعدلك يرتفعون، لأنك أنت فخر قوتهم وبرضاك ينتصب قرننا“(مز88: 15 س)، كيف يا رب توصيهم إذن ألا يفرحوا بالمجد والكرامة التي منحتها أنت نفسك لهم؟ ماذا نقول عن هذا؟ إنَّني أجيب بأن المسيح يرفعهم إلى شيء أعظم، ويوصيهم أن يحسبوا أنَّ مجدهم هو أنَّ أسماءهم كُتبت في السموات، لأنه يُقال لله عن القديسين ” وفى سِفْرِك كُتبوا جميعهم” (مز138: 16 س). وإلى جوار ذلك فإن فرحهم بقدرتهم على عمل المعجزات، وبأنهم يسحقون أجناد الشياطين، من المحتمل أن يولد فيهم أيضًا رغبة المجد الباطل ـ وقريبُ هذه الشهوة والملازم لها دائمًا هو الكبرياء.
لذلك، فمن المفيد جدًّا أن يُوبِّخ مخلِّص الكل الافتخار من بدايته، ويقطع جذوره بسرعة، وهو الذي ينمو من حب المجد الوضيع، وهو بذلك يتمثل بالزُرّاع الذين متى رأوا شوكًا في حقلهم أو حديقتهم، فإنهم يقطعونه بأسنان الفأس قبل أن يضرب بجذوره في العمق.
لذلك، فإذا ما نلنا هبة ما من المسيح، جديرة بالإعجاب، فلا يجب أن نفتكر فيها بتعالي، ولكن بالحري أن نجعل الرجاء الموضوع أمامنا هو سبب الفرح، وبأن أسمائنا كُتبت في صحبة جماعات القديسين، بهبة المسيح مخلِّصنا كلِّنا، الذي بسبب محبته للإنسان يمنح إضافة إلى كل ما لنا، هذه الهبة أيضًا، هذا الذي يليق به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.