Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

أين يسكن المسيح؟ – إنجيل لوقا 9 ج11 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

أين يسكن المسيح؟ – إنجيل لوقا 9 ج11 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

أين يسكن المسيح؟ – إنجيل لوقا 9 ج11 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو9: 57، 58) ” وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ “.

 

إنَّ اشتهاء المواهب النازلة من فوق من الله هو في الواقع أمر يستحق أن نسعى إليه، وهذا يجعلنا نربح كل خير. ولكن رغم أن رب الكل هو مُعطي سخي وكريم، إلاَّ أنه لا يعطي كل الناس هكذا ببساطة دون تمييز، بل يعطي بالحري لمن هم مستحقين لسخائه، لأنه كما أن أولئك المتوشِّحين بمجد الملوكية يمنحون كرامتهم، ووظائف الدولة المتنوعة ليس لأناس أجلاف وجُهال، الذين ليس عندهم شيئًا جديرًا بالإعجاب، بل بالحري يكرمون أولئك الذين يملكون نبلاً وراثيًّا، وقد أثبتوا بالاختبار أنهم جديرون بالقبول، ومن المتوقع أن يكونوا ناجحين في تأدية واجباتهم. هكذا الله أيضًا، الذي يعرف كل الأشياء فانه لا يمنح نصيبًا في عطاياه للنفوس المهمِلة التي تسعى للذة، بل للذين هم في حالة مناسبة لنوال هذه العطايا. إذن فأي واحد يريد أن يُحسب مستحقًّا لهذه الكرامات العظيمة، وأن يكون مقبولاً من الله، فدعه أولاً يُنقِّى نفسه من أدناس الشر، وخطية عدم المبالاة، لأنه هكذا يصير قادرًا على نوال هذه العطايا، ولكن إن لم يكن هذا اتجاه تفكيره فدعه يرحل بعيدًا.

 

وهذا هو المعنى الذي تعلمنا إياه آيات الإنجيل التي وُضعت أمامنا الآن، لأن إنسانًا ما اقترب من المسيح مخلِّصنا جميعًا وقال له: “ يا سيد أتبعك أينما تمضى“. ولكنه رفض هذا الإنسان وقال له ” للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما هو فليس له أن يُسنِد رأسه“. ومع ذلك فربما يسأل أحدهم ويقول: (إن ذلك الذي وعد أن يتبعه قد وصل إلى اشتهاء ما هو مكرَّم، وصالح، ونافع، لأن أي شيء يمكن مقارنته بالوجود مع المسيح واتِّبَاعه ؟ أو كيف لا تساعد هذه الشهوة على خلاصه ؟ فلماذا إذن يرفض المخلِّص مَن يرغب باشتياق أن يتبعه باستمرار؟ لأن المرء يمكن أن يتعلَّم من كلماته الخاصة     (أي المسيح)، أن اتِّبَاعه يؤدى إلى كل بركة، لأنه قال ” من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة” (يو8: 12). فما هو الأمر غير اللائق في أن يعد بأن يتبعه، لكي يربح نور الحياة؟)

 

إذن فما هي إجابتنا على هذا؟ إجابتنا أن هذا لم يكن هو هدفه. كيف يمكن أن يكون له هذا الهدف؟ لأنه من السهل على أي واحد يفحص هذه الأمور بدقة أن يرى، أولا: أن طريقة اقترابه من المسيح كانت مملوءة بجهالة عظيمة، ثانيا: إنها كانت مملوءة باجتراء زائد جدًّا. لأن رغبته لم تكن مجرد أن يتبع المسيح كما فعل كثيرون آخرون من الجمع اليهودي، بل بالحري أن يقحم نفسه على الكرامات الرسولية. هذا هو إذن الإتَّباع الذي كان يسعى لأجله، إذ أنه دعا نفسه، بينما بولس المبارك يكتب “ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضًا” (عب5: 4). لأن هرون لم يدخل إلى الكهنوت من نفسه، بل بالعكس فقد كان مدعوًّا من الله، وهكذا نجد أن كل واحد من الرسل القديسين لم يرفع نفسه إلى الرسولية، بل بالحري نال الكرامة من المسيح، لأنه قال، ” هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادَيِ الناس” (مر1: 17) وأما هذا الإنسان ـ كما قلت ـ فإنه بجسارة يتخذ لنفسه مواهب كريمة بهذا المقدار، ورغم أن أحدًا لم يدعُهُ، فإنه يقحم نفسه إلى ما هو فوق رتبته. والآن، لو أن أي واحد اقترب من ملك أرضي وقال: ” سوف أرفع نفسي إلى هذه الكرامة أو تلك، حتى ولو لم تمنحني إياها، أيًّا كانت هذه الكرامة” فإن هذا يكون عملاً خطيرًا، بل قد يؤدي به إلى أن يفقد حتى حياته نفسها. ومَن يستطيع أن يشك أن هذه هي النتيجة بالتأكيد؟ لأننا في كل أمر، يجب أن ننتظر قرار ذلك الذي يملك السُّلطة المهيمِنة. فكيف إذن يكون مناسبًا لهذا الإنسان أن يُعيِّن نفسه بين التلاميذ، ويتوج نفسه بالسلطات الرسولية بدون أن يكون مدعوًّا إليها بالمَرَّة من المسيح؟

 

وهناك سبب آخر جعل المسيح يرفضه بصواب، ويحسبه غير مستحق لكرامة بارزة مثل هذه. لأن اتِّبَاع المسيح بحماس شديد هو بلا شك أمر نافع للخلاص، ولكن من يرغب أن يُحسب مستحقًّا لمجد عظيم مثل هذا، ينبغي أن يحمل صليبه ـ وما معنى أن يحمل الصليب؟ معناه أن يموت بالنسبة إلى العالم، بأن يتنكَّر لارتباكاته الفارغة، ويتخلَّى برجولة عن الحياة الجسمانية المُحِبَّة للذة، فإنه مكتوب: لا تحبوا العالم ولا الأشياء  التي في العالم، لأن كل ما في العالم هو شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة” (1يو2: 15). وأيضًا ” ألستم تعلمون أن محبة العالم هي عداوة لله ؟ لذلك فمن أراد أن يكون محبًّا للعالم فقد صار عدوًّا لله” (يع4: 4). لذلك فالإنسان الذي اختار أن يكون مع المسيح يحب ما هو جدير بالإعجاب وما هو نافع للخلاص، ولكنه يجب أن ينصت لكلماتنا: ابتعد بنفسك عن الشهوات الجسدية، تطهَّر من أدناس الشر، تنقَّ من البقع الناتجة عن الحب الدنيء للذة، لأن هذه تجعلك بعيدًا، ولا تسمح لك أن تكون مع المسيح. انزع عنك ما يفصلك، حطِّم العداوة، أُنقض الحاجز المتوسط، فإنك حينئذ تكون مع المسيح. أما إن كان الحاجز الذي يبعدك عن الشركة معه لم يهدم بعد، فبأي طريقة تستطيع أن تتبعه؟

 

وهو يوضح أن هذا هو الحال مع الإنسان الذي أمامنا، بالتوبيخ غير المباشر الذي أعطاه له، لا لكي يؤنبه، بل بالحري لأجل إصلاحه، لكي ينمو إلى الأفضل من تلقاء ذاته، ويصير مجتهدًا في اتِّبَاع طريق الفضيلة. لذلك يقول: ” للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه“. والمعنى البسيط والقريب لهذا المقطع هو كالآتي: إن الوحوش والطيور لها جحور ومساكن، أما أنا فليس عندي شيء لأقدمه من هذه الأشياء التي يسعى وراءها عموم الناس، إذ ليس لي مكان لنفسي لأسكن فيه وأستريح، وأسند رأسي. وأما المعنى الداخلي السِرِّي لهذا المقطع فيمكن الوصول إليه بواسطة أفكار أكثر عمقًا. لأنه يبدو أنه يقصد بالثعالب وطيور السماء تلك القوات الشريرة، والخبيثة، والنجسة، أي قطعان الشياطين، لأنهم يُلقَّبون هكذا في مواضع كثيرة في الكتب الموحَى بها. لأن المرنم المبارك يقول عن بعض الناس: “يكونون أنصبة للثعالب” (مز63: 10)، وفى نشيد الأناشيد مكتوب أيضًا ” خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم” (نش2: 15). والمسيح نفسه يقول في موضع ما عن هيرودس، الذي كان إنسانًا شرِّيرًا وماكرا في شرِّه،  ” قولوا لذلك الثعلب” (لو13: 32). وفى موضع آخر قال عن البذار التي سقطت على الطريق، ” جاءت طيور السماء وأكلتها” (لو8: 5) وهذا، نحن نؤكده أنه قال هذا ليس عن الطيور المادية المنظورة، بل بالحري عن تلك الأرواح النجسة الشريرة التي أحيانًا كثيرة، حينما تقع البذار السماوية على قلوب الناس فإنهم ينتزعونها وكما لو كان يحملونها بعيدًا لكي لا تأتي بأي ثمر. لذلك، فكما أن الثعالب والطيور لها أوجرة وأوكار فينا، فكيف يستطيع المسيح أن يدخل؟ أين يمكنه أن يستريح؟ فَأَي شركة هناك بين المسيح وبليعال؟ لأنه يستريح في القديسين، ويسكن في أولئك الذين يحبونه، ولكنه يبتعد عن النجسين وغير الأنقياء. فاطرد الوحوش، وامسك الثعالب، وشتِّت الطيور بعيدًا، وطهِّر قلبك من نجاستهم، لكي ما يجد ابن الإنسان مكانًا في داخلك ليسند فيه رأسه، أي الذي هو كلمة الله الذي تجسد وصار إنسانًا.لأن النور ليس له توافق مع الظلمة ولا النجس له توافق مع المقدَّس. إنَّه أمر لا يُصدق أن تختزن العطر والرائحة الكريهة في زجاجة واحدة، إنَّه من المستحيل على أي إنسان أن يتوشَّح بالكرامة الرسولية ويكون بارزًا بسبب فضائله وكل صفات صالحة ورجولية إن لم يكن قد قَبِل المسيح في داخله. وهكذا قد علَّمنا بولس الحكيم جدًّا قائلاً: ” هل تطلبون برهان المسيح فينا؟” (2كو13: 3) ولكن ذلك الذي يسكن فيه المسيح هو هيكل، ليس لواحد من تلك الآلهة الكاذبة، بل هيكل للذي هو بالطبيعة وبالحقيقة، الله. لأننا قد تعلَّمنا أن نقول ” إننا هيكل الله الحي” (2كو6: 16). أمَّا الهيكل الإلهي فيليق به البخور، الذي يكون من أطيب رائحة، وكل فضيلة هي بخور عقلي، مقبول تمامًا عند إله الكل.

 

لذلك، ” فلنُطهِّر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح” (2كو7: 1). “ ولنُمِت تلك الأعضاء التي على الأرض” (كو3: 5) دعونا نغلق المنافذ أمام الأرواح النجسة. ولا نَدَع الطيور المرفوضة والشريرة أن تسكن داخلنا. وليكن قلبنا مُقدَّسًا وغير مدنس، بأقصى ما هو مستطاع وممكن. لأننا هكذا نتبع المسيح، بحسب النعمة التي يعطيها لنا، وهو سيسكن فينا بفرح، لأنه حينئذٍ سيكون له أين يسند رأسه. ويستريح فينا كقديسين. لأنه مكتوب ” كونوا قديسين لأني أنا قدوس” (لا11: 45) وإذ نكرس أنفسنا لهذه المساعي الهامة جدًّا، فإننا سنصل إلى المدينة التي فوق بعون المسيح نفسه، الذي بواسطته ومعه لله الآب التسبيح والربوبية مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

 

أين يسكن المسيح؟ – إنجيل لوقا 9 ج11 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

Exit mobile version