إتباع المسيح بلا تردد – إنجيل لوقا 9 ج12 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
إتباع المسيح بلا تردد – إنجيل لوقا 9 ج12 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
إتباع المسيح بلا تردد – إنجيل لوقا 9 ج12 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو9: 59، 60) ” وَقَالَ لآخَرَ: اتْبَعْنِي. فَقَالَ:يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ “.
المسيح هو لنا أصل ومُعلِّم كل فضيلة، لأننا ” نحن متعلمون من الله” كما يُعلن إشعياء النبي (إش54: 13 س). وأيضًا يشهد الحكيم بولس قائلا ” الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ” (عب1:1، 2). فبماذا كلَّمنا خلال ابنه، فمن الواضح أن رسالة الإنجيل ترشدنا بنجاح إلى كل أنواع الفضائل، وبها نتقدم في الطريق الممدوح والرائع، طريق الحياة الأفضل، لكي باقتفائنا خطواته، نربح كنز مواهبه. والدرس الموضوع أمامنا الآن يُعلِّمنا بوضوح الطريق التي بها نتبعه ونُحسب مستحقين لهذه الأمجاد الفائقة الكاملة التي مُنحت أولاً للرسل لأن الإنجيل يخبرنا أنه: ” قال لآخر اتبعني” (لو9: 59).
فأول نقطة يجب أن نلاحظها الآن هي هذه: أننا في الفقرة السابقة تعلمنا أن واحدًا اقترب منه وقال له: ” يا معلم أتبعك أينما تمضى“. لكن المسيح رفضه، لأنه أولاً: يدعو نفسه ويقحمها في الأمجاد التي يهبها الله لمن يستحقها، فالمسيح يُتوِّج المشهود لهم بكل الخصائص الممتازة والحاذقين في ممارسة الأعمال الصالحة، ويدرجون ضمن جماعة المعلمين القديسين. وإذ لم يكن له هذا الميل، فقد وبَّخه المسيح، لأن عقله كان مسكنًا للأرواح الشريرة، ومملوءًا بكل نجاسة. فالمخلِّص لَمَس حالته بطريقة غير مباشرة فقال له: ” للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يُسنِد رأسه“.
ففي اجتماعنا الأخير ناقشنا الطريقة التي بها فهمنا هذا بصورة كافية. وأما الآن فالذي أمامنا لم يدعُ نفسه بنفسه، وليس هو متقدمًا بوقاحة ليقوم بأعمال ممدوحة، بل على العكس، فهو شخص دعاه المسيح إلى الرسولية كمَن هو لائق لها، لأنه قد نال الكرامة بواسطة القرار الإلهي، إذ هو بلا شك مقدَّس، ومكرَّم، وقادر أن يُشكِّل نفسه ليطابق قصد رسالة الإنجيل. ولكنه لم يكن يعرف بعد بوضوح بأي طريق يجب عليه أن يسلك في هذا الأمر العظيم، فربما كان له أب قد أحنته السنون، وقد ظن في نفسه أنه بتصرفه هذا يرضي الله جدًّا بإظهاره العطف والحب المناسب من نحو والده. فلقد عرف بالطبع مِن كُتُب الناموس أن إله الكل قد أعطى وصية بهذا قائلا: ” أكرم أباك وأمك ليكون لك خير ولكي تطول أيامك على الأرض” (خر20: 12س). لذلك حينما دُعيَ لهذه الخدمة المقدسة ولمهمة الكرازة برسالة الإنجيل ـ كما يتضح من أمر المسيح له أن يتبعه ـ فقد أعياه فهمه البشرى، وطلب مهلة ليجد الوقت الكافي كي يرعى والده في شيخوخته، لأنه يقول: ” ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي“. فما نقوله عنه، ليس أنه طلب إذنًا ليدفن أباه، لكونه قد مات فعلاً، ولم يُدفن بعد ـ لأن المسيح لم يكن ليمنع ذلك ـ وإنما استخدم كلمة ” أدفن ” بدلاً مِن “أن أرعاه في شيخوخته حتى دفنه”.
فماذا كانت إجابة المخلِّص إذن؟ “دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله”. فليس هناك من شك أن ثمة أقرباء ومعارف آخرين لأبيه، ولكن اعتبرهم أمواتًا، لأنهم لم يكونوا قد آمنوا بالمسيح بعد، ولم يستطيعوا أن يقبلوا الميلاد الجديد للحياة غير الفانية بواسطة المعمودية المقدسة. فالمسيح يقول: ” دعهم يدفنون موتاهم” لأن لهم في داخلهم عقل ميت، ولم يحيوا بعد مع هؤلاء الذين لهم الحياة التي في المسيح. فمن هنا إذن نتعلم أن مخافة الله يجب أن تسبق الاحترام والحب الواجبين للوالدين، لأن ناموس موسى أيضًا بينما يأمرنا أولاً أن ” تحب الرب إلهك من كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل قلبك” (تث6: 5)، يضع بعدها في المرتبة الثانية تكريم الوالدين قائلا: ” أكرم أباك وأمك“.
والآن هيا لنفحص الأمر ونبحث لماذا نعتبر التكريم والحب الواجبين للوالدين شيئًا لا ينبغي إهماله، بل على العكس يجب أن يراعَى باهتمام، وحينئذ ربما يقول واحد: إن هذا يرجع إلى أننا ننال وجودنا بواسطتهم، ولكن إله الكل هو الذي أوجدنا حينما كنا غير موجودين على الإطلاق. فالله هو خالق وصانع الكل، وهو الأصل والجوهر الأساسي لكل الأشياء. لأن وجود أي شيء إنما هو عطيته. فالأب والأم إذن كانا هما الوسيلة التي بواسطتها أتى نسلهما إلى العالم. أليس علينا إذن أن نُحب الموجِد الأول أكثر من الثاني أو التابع؟ أليس الله هو معطينا النعم الثمينة التي تستوجب منا الإكرام الأعظم له؟ فمساعينا إذن لإرضاء والدينا يجب أن تخضع لحبنا لله، والواجبات الإلهية. وقد علَّمنا المخلِّص نفسه هذا عندما قال: ” من أحب أبًا وأمًا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني” (مت10: 37).
وهو لا يقول إنهم يدانون لأنهم ببساطة أحبوا، ولكن لأنهم أحبوهم ” أكثر مني“. فهو إذن يسمح للأبناء والبنات أن يحبوا آبائهم لكن ليس أكثر من حبهم له. لذلك عندما يلزم أن تفعل أي شيء يتعلق بمجد الله، فلا تدع أي عقبة تقف في الطريق، دع حماسك يكن بغير تعطل، اجعل جهودك الغيورة مشتعلة وغير قابلة للكبت. لذلك هيا حالاً ودع عنك الاهتمام بأبيك وأمك وأولادك، واجعل قوة العاطفة الطبيعية نحوهم تتوقف واجعل الغلبة لحب المسيح.
هكذا عاش إبراهيم المثلث الطوبى، لذلك فقد تبرر ودعِيَ ” خليل الله “، وحُسب أهلاً للكرامات الفائقة، فأي شيء يساوى كونه خليل الله؟ وماذا يستطيع العالم أن يقدم ما يمكن مقارنته بنعمة مجيدة وبديعة جدًّا؟ فقد كان له وحيد محبوب، أعطاه الله له بعد تأخير طويل وذلك في شيخوخته، ووضع فيه إبراهيم كل رجائه من جهة النسل، إذ قيل له: ” لأنه بإسحق يُدعَى لك نسل” (تك21: 12). لكن كما يقول الكتاب المقدس إن الله امتحن إبراهيم قائلاً: ” خذ ابنك حبيبك الذي تحبه إسحق واذهب إلى الأرض المرتفعة وأصعِده هناك محرَقَة على أحد الجبال الذي أقول لك” (تك22: 2 س). هل كان الله يمتحن إبراهيم، وكأنه لم يكن يَعلم مسبقًا ما سيحدث. وينتظر النتيجة؟ ولكن كيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟ لأن الله يعرف كل الأشياء قبل أن تحدث، فلماذا إذن امتحن إبراهيم؟ وذلك لكي يمكننا بهذا الأمر أن نَعلَم أن الله جعله غير مستعد لهذا العمل لينال البطريرك تقديرًا جديرًا بالإعجاب، لكونه لم يُفضِّل أي شيء على إرادة ربه. فلم يقل له الله ببساطة خذ إسحق بل قال ” ابنك وحيدك الذي تُحبه“، فهذا يُقوِّي حركة العاطفة الطبيعية تجاه ابنه. آه ! يا له من اهتياج عنيف لأفكار مُرَّة ثارت في نفس الشيخ، فقوة العاطفة الفطرية الطبيعية تدعوه أن يحنو على ابنه. لقد تمنى أن يكون أبًا، إذ شكى عقمه لله عندما وعده الله أن يهبه كل الأرض التي أخبره بها، ” فقال أبرام أيها السيد الرب ماذا تعطيني وأنا ماضٍ عقيمًا” (تك15: 2) ـ فقانون العاطفة الطبيعية إذن يحثه أن يُنقذ الصبي، بينما قوة حبه لله تدعوه للطاعة المتأهبة. فقد كان أشبه بالشجرة التي يُحركها عنف الرياح للأمام وللخلف، أو كسفينة في بحر تتمايل وتترنح بضربات الأمواج… لكن ثمة فكرة واحدة صحيحة وقوية تمسَّك بها إبراهيم بشِدَّة، ” لأنه آمن أن الله قادر على الإقامة من الأموات” (عب11: 19) حتى لو ذبح الصبي وراح ضحية النيران كمحرقة مرضية لله.
فإبراهيم إذن قد تعلَّم الكثير من هذه التجربة، فقد تعلم أولاً: أن الطاعة المستعِدَّة تؤدِّي إلى كل بركة، وهى الطريق المؤدِّي إلى التبرير، وعربون صداقة مع الله، وثانيًا: أن الله قادر على الإقامة من الأموات. وأكثر من ذلك فقد تعلم ما هو أهم وأكثر استحقاقًا للتقدير، أعني سر المسيح: إنه لأجل خلاص وحياة العالم فالله الآب سيُقدِّم ابنه الوحيد ذبيحة، الذي هو المحبوب بالطبيعة، أي المسيح. والمبارَك بولس يؤكد لنا ذلك بقوله عن الله ” الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين” (رو8: 32).
فإبراهيم البطريرك تعلَّم إذن مدى عظم عدم اشفاقه على ابنه الوحيد الذي يحبه، لذلك فقد تبرر لأنه لم يُفضِّل أي شيء آخر على الأشياء التي تُرضي الله. فالمسيح يطلب منا أن نكون كذلك لكي نُحب ونُقدِّر كل ما يتعلق بمجده أكثر جدًّا من روابط قرابتنا الجسدية، ومرَّة أخرى لننظر إلى الأمر في ضوء آخر، فمن الصواب أن قوة حبنا لله يجب أن تفوق حتى حبنا لمن ولدونا بالجسد. لقد أعطانا الله نفسه كأب لأنه قال: “ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض. لأن أباكم واحد، الذي في السموات. وأنتم جميعا إخوة ” (مت23: 9و8). وعنه يقول يوحنا الحكيم: ” إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله” (يو1: 11، 12). لذلك هل كان على هؤلاء الذين يعترفون به أنه الآب رب السماء والأرض، الذي يعلو كل المخلوقات، الذي يقف حوله الشاروبيم المقتدرون، والذي يفوق كل العروش والربوبيات، والرئاسات، والقوات، أقول هل كان من الضروري أن يسقط هؤلاء في هذا الحمق العظيم بألاَّ يجعلوه فوق كل قرابة طبيعية؟ فهل يمكن أن نكون مذنبين عندما نهمل التكريم الواجب لوالدينا والأولاد والإخوة، لكننا نتحرر من الذنب إذا لم نقدِّم الإكرام الواجب لرب الكل؟ فلنسمع ما يقوله الله لنا بوضوح ” الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده. فان كنتُ أنا أبًا فأين كرامتي وإن كنتُ سيدًا فأين هيبتي، قال رب الجنود” (ملا1: 16).
لذلك فالمسيح، جعل المدعو للرسولية على دراية بالسلوك الرسولي والرجولة الروحية التي تتطلَّبها الدعوة إذ يقول ” دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله“. فخُدَّام الرسالة الإلهية يجب أن يكونوا كذلك. فلنلتصق إذن بتعاليمه الحكيمة في كل شيء متقدِّمين نحو المسيح الذي بواسطته ومعه لله الآب التسبيح والربوبية مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.
(لو9: 61، 62) ” وَقَالَ آخَرُ أَيْضًا: أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِنِ ائْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ “.
إننا نقول عن الغيرة في مساعينا الفاضلة، إنها تستحق كل مدح، لكن أولئك الذين قد وصلوا إلى هذه الحالة الذهنية يجب أن يكونوا أقوياء في تصميمهم، وليسوا ضعيفي العزم في صبرهم نحو الهدف الموضوع أمامهم. بل بالحري يجب أن يكون لهم ذهن غير متذبذب ولا ينثني، لأنهم بذلك سوف يبلغون الهدف، ويفوزون بالنصر، ويضفرون حول رؤوسهم إكليل المنتصر. ومخلِّص الكل يُشجِّعنا على هذا الإخلاص للهدف بوصفه خاصية تستحق الاقتناء، إذ يقول ” ومن منكم وهو يريد أن يبنى برجًا لا يجلس أولا ويحسب النفقة هل عنده ما يكفى لتكميله، لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل، فيبدأ جميع الناظرين يهزأون به قائلين هذا الإنسان لم يقدر أن يكمل” (لو14: 28ـ30). فمن يتصرف هكذا لا يصبح إلاَّ موضوعًا للسخرية، لأن كل مسعى مُكرَّم وفاضل له خاتمة لائقة يجب أن تعقبه. وناموس موسى كي يُعلِم هذا الحق، أمر أولئك الذين كانوا يبنون بيتًا أن يقيموا فوقه حائطًا للسطح (انظر تث22: 8)، لأن من هو ليس كاملاً في الصلاح لا يخلو من اللوم. فكما كان البيت الذي ليس له حوائط سطح، يوصَم بالعار، هكذا فالفقرة التي قُرِئَت علينا من الإنجيل الآن تُعلِّمنا درسًا مشابهًا، لأن واحدًا اقترب قائلاً: ” أتبعك يا سيد ولكن ائذن لي أولاً أن أُودِّع الذين في بيتي“. فالوعد الذي تعهد به، إذن، يستحق التمثل به، وهو مملوء بكل مدح، ولكن حقيقة رغبته في توديع الذين في بيته تُوضِّح أنه منقسم على نفسه، وأيضًا أنه لم يدخل بعد الطريق بذهن غير مُقيَّد، فانظر كيف أنَّه مثل مُهر متحفِّز للسباق، هناك ما يعوقه كأن به لجام، هكذا فإن تيار الأمور العالمية، ورغبته في الاهتمام بمشاغل هذا العالم تعوقه بالمِثل، لأن ليس هناك أحد يمنعه من الإسراع إلى الهدف المشتهى إذا أراد وفقًا لميول عقله الحرة. ولكن الرغبة نفسها في استشارة أقاربه وجعلهم مستشارين له وهم لا يضمرون مشاعر مشابهة له، ولا يشاركونه مطلقًا في قراره، فتلك الرغبة تكشف وبصورة كافية أنه ضعيف ومتردِّد للوصول للهدف، والفوز بالنصر ونوال إكليل المنتصر، وليس له الاستعداد الكامل بعد ليتصرف وفقًا لرغبته في اتِّباع المسيح.
ولكن المسيح، وكأنه يستعمل توبيخات رقيقة، أصلحه، وعلَّمه أن يكون له غيرة أكثر تصميمًا قائلاً: ” ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله“. وتمامًا مثل الفلاح الذي قد بدأ في حرث أرضه بالمحراث، إذا تعب وترك عمله بعد إنجاز نصفه، فلن يرى حقله مملوء بسنابل القمح، ولا أرضه التي يدرسها مليئة بالحِزَم، وسيعاني بالطبع من الخسارة التي هي نتيجة طبيعية للتكاسل، وغياب المحصول، وما يتبعه من فقر، وأيضًا يجلب على نفسه سخرية أولئك الذين ينظرونه. لذلك فمن يرغب في الالتصاق بالمسيح، دون أن يُودِّع العالم، ويهجر كل حب للجسد، وينكر حتى أقربائه الأرضيين (إذ بفعله هذا يبلغ الشجاعة المصممة في كل المساعي الممدوحة)، فهو لا يصلح لملكوت الله. فمن لا يستطيع الوصول إلى هذا القرار، لأن عقله مقيَّد بالتكاسل: فليس بمقبول لدى المسيح، ولا هو لائق لصحبته، وبالضرورة لا يُصرِّح له أن يكون معه.
فعن هؤلاء تكلَّم المسيح عندما صاغ ذلك المثل في الأناجيل، لأنه قال: ” إنسان غني صنع عرسًا لابنه، أرسل عبيده ليدعوا المدعُوِّين، قائلاً ثيراني ومسمَّناتي قد ذبحت وكل شيء مُعَد” (مت22: 2). لكنهم كما يخبرنا الإنجيل لم يأتوا، لكن واحدًا قال لقد اشتريت حقلاً ولا أستطيع الذهاب. وقال ثان لقد اشتريت زوج بقر، وآخر لقد تزوجت بامرأة فاعذرني. فأنت ترى أنهم جميعا دُعُوا، وبينما كان في استطاعتهم أن يشاركوا في الحفل اعتذروا، وصاروا مستعبدين وبلا قيد لهذه الأمور الأرضية الوقتية، التي سرعان ما تضمحل، و التي لابد أن نتخلَّى عن ملكيتها سريعًا. ولكن كان بالتأكيد من واجبهم أن يدركوا أن الزوجة والأراضي والممتلكات الأخرى ما هي إلاَّ لذَّات زائلة، قصيرة الوقت، وتضمحل كالظلال، وهى كأنها مرارة ممزوجة بشهد. ولكن أن يكونوا أعضاءً في كنيسة الله، تلك التي هربوا منها بغباء، وبطريقة لا أعرفها، فهذا كان سيسبب لهم فرحًا أبديًّا غير متغير. فأي شخص يتبع المسيح، دعهُ يكن ثابتًا تمامًا، هادفًا فقط إلى تلك الغاية، ولا يكن منقسمًا، ولا يستولى عليه الجهل أو الكسل، دعهُ يكن متحررًا من كل شهوة جسدانية، ولا يُفضِّل أي شيء على حبِّه له، فإذا لم يكن له مثل هذا الميل، أو ليس له هذا الإتجاه في إرادته، فحتى إذا اقترب، فسوف لا يُقبَل.
وناموس موسى قد علَّمنا أيضًا شيئًا مِن هذا القبيل بطريقة رمزية غير مباشرة، فإن بني إسرائيل حينما كانت تطرأ عليهم طوارئ، كانوا يخرجون ليحاربوا أعدائهم، وقبل أن يشتبكوا في القتال، كان المنادي ينادي فيهم قائلاً: ” الرجل الذي خطب امرأة ولم يأخذها، فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيأخذها رجل آخر. والرجل الذي قد بنى بيتًا جديدًا ولم يدشِّنه، فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيدشِّنه رجل آخر. فأي رجل خائف وضعيف القلب، ليرجع لئلا تذوب قلوب إخوته من الخوف مثل قلبه ” (تث20: 7و5و8) فأنت ترى أن الرجل الذي يُحب العالم أو الثروة والمملوء بالاعتذارات، ليس في مكانه، ولكنَّنا سنجد أن الرسل القديسين مختلفين تمامًا عن أمثال هؤلاء.
فعندما سمعوا المسيح يقول: ” هلم ورائي، تصيران صيادي الناس، فللوقت تركا السفينة وأباهم وتبعاه” (مر1: 17). وأيضًا الحكيم بولس يكتب “ ولكن لما سَرَّ الله أن يعلن ابنه فيَّ، للوقت لم أستشر لحما ودما” (غل1: 15). فأنت ترى أن العقل الشجاع والهدف القلبي الشجاع غير خاضع لرباطات الكسل، لكن يفوق كل جبن وكل شهوة جسديَّة، فهكذا ينبغي أن يكون أولئك الذين يتبعون المسيح، لا ينظرون إلى الوراء، لا يرجعون ولا يُحوِّلون وجوهم عن تلك الفضيلة الرجولية التي تليق بالقديسين ويعفون أنفسهم من واجب الجهد، غير محبِّين للأمور الوقتية، فهم ليسوا ذوى رأيين، ولكنهم يسرعون للأمام بالغيرة الكاملة إلى ما يرضى المسيح جدًّا، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسيادة والكرامة مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.