انتهار روح الانتقام – إنجيل لوقا 9 ج10 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
انتهار روح الانتقام – إنجيل لوقا 9 ج10 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
انتهار روح الانتقام – إنجيل لوقا 9 ج10 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو9: 51ـ56) ” وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهًا نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالاَ: يَارَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟ فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى“.
أولئك الذين وُهِبَ لهم بوفرة غنى كثير، ويفتخرون بثرواتهم الوافرة، يجمعون أشخاصا مناسبين لولائمهم، ويضعون أمامهم مائدة مجهزة بسخاء وبواسطة أنواع مختلفة من الأطباق والتوابل يمتعونهم بلذة تفوق مجرد الإشباع من الجوع. ولكن لا فائدة تنشأ من هذا، بل بالحري ضرر كبير للآكلين، لأن ما يزيد عن الكفاية بعد إشباع نداءات الجوع هو دائمًا مؤذى.
أما أولئك الذين يملكون الغنى السماوي، ويعرفون التعاليم المقدسة، وقد استناروا بالنور الإلهي، فإنهم يُغذون أنفسهم بالاستمتاع بالأحاديث المنيرة، لكي يصيروا مثمرين نحو الله، كما أنهم يصيرون ماهرين في الطريق إلى كل فضيلة، وجادِّين في تكميل تلك الأمور التي بواسطتها يصل الإنسان إلى نهاية سعيدة. ولذلك فالكلمة المقدسة تدعونا إلى هذه المائدة العقلية والمقدسة، لأنها تقول: ” كلوا واشربوا، واسكروا يا أصدقائي” (نش5: 1). ولكن أصدقاء مَنْ؟ واضح أنهم أصدقاء الله: وجدير بالملاحظة أننا سنسكر بهذه الأمور، وأننا لا يمكننا أبدًا أن نشبع بما هو لأجل بنياننا. دعونا نرى إذن، أي نوع من المنفعة يقدمه أمامنا، درس الإنجيل في هذه الفرصة.
لأنه يقول: ” حين تمت الأيام لارتفاعه، ثبَّت وجهه لينطلق إلى أورشليم“. وهذا يعنى أنه بما أنه قد جاء الآن الوقت الذي يحمل لنا آلامه المخلِّصة ويصعد بعده إلى السماء ويقيم مع الله الآب، فإنه قرر أن يذهب إلى أورشليم. لأني أظن أن هذا هو معنى ” ثبَّت وجهه“. لذلك فهو يرسل رسلاً ليعدُّوا مسكنًا له ولرفاقه. وحينما جاءوا إلى قرية للسامريين، لم يقبلوهم. وهذا جعل التلاميذ المبارَكين ساخطين، ليس لأجلهم هم أساسًا، بل بالأكثر بسبب أنهم لم يكرموه وهو المخلِّص ورب الكل. وماذا بعد ذلك؟ أنهم دمدموا بشدة، ولأن جلاله وقوَّته لم تكن غير معروفة لديهم، قالوا: ” يا رب أتريد أن تنزل نار من السماء فتفنيهم؟” ولكن المسيح انتهرهم لأنهم تكلموا هكذا. وفى هذه الكلمات الأخيرة يكمن مغزى الدرس، ولذلك دعونا نفحص المقطع كله بدقة. لأنه مكتوب ” اعصر اللبن، وهو يصير زبدًا” (أم30: 33).
إذن سيكون أمرًا غير صحيح أن يؤكد أحد أن مخلِّصنا لم يعرف ما كان على وشك أن يحدث، فلأنه يعرف كل الأشياء، فقد عرف طبعًا، أن السامريين لن يقبلوا رسله. لا يمكن أن يكون هناك شك في ذلك. إذن فلماذا أمرهم أن يسبقوه؟ السبب في هذا أن عادته كانت أن يفيد الرسل القديسين بكل طريقة ممكنة: ولأجل هذا الهدف فقد كان أحيانا يعمل على أن يضعهم موضع الاختبار. كما حدث مثلاً، حينما كان في السفينة مرة على بحيرة طبرية مع التلاميذ، فأثناء ذلك نام عن قصد: وهبت ريح عاتية على البحارة، وبدأت عاصفة قوية غير عادية تثور، وكانت السفينة في خطر، وانزعج البحارة جدًّا. لأنه سمح عن قصد للريح وغضب العاصفة أن تثور ضد السفينة، لكي يمتحن إيمان التلاميذ ولكي تظهر عظمة قدرته. وهذه أيضًا كانت النتيجة، لأنهم في قلة إيمانهم قالوا: ” يا سيد نجنا، فإننا نهلك“. فقام في الحال وأظهر أنه رب العناصر، لأنه انتهر البحر والرياح، فصار هدوء عظيم. وهكذا أيضًا في هذه المناسبة، فإنه كان يعرف أن أولئك الذين ذهبوا أمامه لكي يعلنوا عن إقامته بينهم، لن يقبلهم السامريون، ولكنه سمح لهم أن يذهبوا لكي يكون هذا أيضًا وسيلة لفائدة الرسل القديسين.
فما هو إذن الغرض من هذا الحادث؟ لقد كان صاعدا إلى أورشليم، إذ أن وقت آلامه كان يقترب. كان على وشك أن يحتمل احتقار اليهود، وكان على وشك أن يتعرض للإعدام على يد الكتبة والفريسيين، وأن يحتمل تلك الأشياء التي أصابوه بها حينما تقدموا لكي يكملوا كل عنف وكل تهور شرير. لذلك، فلكي لا ينزعجوا حينما يرونه متألمًا، إذ يفهمون أنه يريدهم هم أيضًا أن يكونوا صابرين، وألاَّ يتذمروا كثيرًا، حتى لو عاملهم الناس بازدراء، فهو، كما لو كان قد جعل الاحتقار الذي تعرضوا له من السامريين، تدريبًا تمهيديًا في هذا المجال. فالسامريون لم يقبلوا الرسل. وكان من واجب التلاميذ، باقتفائهم آثار خطوات سيدهم، أن يحتملوا ذلك بصبر كما يليق بقديسين، وألاَّ يقولوا عنهم أي شيء بغضب ولكنهم لم يكونوا بعد مستعدين لهذا، ولكن إذ تملكهم سخط شديد، فإنهم كانوا يريدون أن يطلبوا نزول نارًا من السماء عليهم. ولكن المسيح انتهرهم لأنهم تكلموا هكذا.
فأرجو أن تنظروا هنا، ما أعظم الفرق بيننا وبين الله، لأن المسافة لا يمكن قياسها. فهو بطيء الغضب وطويل الأناة، ولطفه ومحبته لجنس البشر لا تضاهَى، أما نحن أبناء الأرض فنسرع إلى الغضب، فينفذ صبرنا سريعًا، ونرفض بسخط أن يديننا الآخرون حينما نرتكب أي فعل خاطئ، بينما نحن نسرع إلى انتقاد الآخرين. لذلك فان الله رب الكل يؤكد قائلا: ” لأن أفكاري ليست أفكارهم، ولا طرقكم طرقي، لأنه كما عَلَت السموات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم” (إش55: 8، 9) هكذا، هو إذن، الذي هو رب الكل، أما نحن، كما قلت، فإذ نغتاظ بسهولة، وننقاد بسرعة إلى الغضب، فإننا نَقدم على انتقام فظيع لا يُحتمل ضد أولئك الذين قد تسبَّبوا لنا في إزعاج تافه، ورغم أننا قد أُمِرنا أن نعيش بحسب الإنجيل، إلا أننا نعجز عن السلوك الذي أمر به الناموس. لأن الناموس في الواقع يقول: ” عين بعين وسن بسن ويد بيد” (خر21: 24)، وأمر أن العقوبة المساوية تكفى، أما نحن، فكما قلت، رغم أننا ربما نكون قد عانينا فقط من خطأ تافه، إلا أننا ننتقم بقسوة، غير متذكرين المسيح، الذي قال: ” ليس التلميذ أفضل من معلمه، ولا العبد أفضل من سيده” (مت10: 24)، الذي أيضًا ” إذ شُتم لم يكن يَشتم عوضًا وإذ تألم لم يكن يُهدد بل كان يُسلم لمن يقضى بعدل” (1بط2: 32). وأيوب الصابر كثيرًا هو أيضًا موضع إعجاب بحق بسيره في هذا الطريق، إذ كُتب عنه، أي إنسان كأيوب يشرب الهزء كالماء؟” ( أي 34ـ7).
لذلك، فقد انتهر الرب التلاميذ لأجل منفعتهم، كابحًا جماح غضبهم بلطف، ولم يسمح لهم أن يتذمروا بشدة ضد أولئك الذين أخطأوا، بل حثهم بالحري أن يكونوا طويلي الأناة، وأن يحتفظوا بقلب غير متحرك بواسطة أي شيء من هذا القبيل.
وهذا أفادهم أيضًا بطريقة أخرى. فهم كانوا سيصيرون معلِّمي العالم كله، ويتجولون في المدن والقرى مُبشِّرين بأخبار الخلاص السارة في كل مكان. ولذلك، فإنهم أثناء سعيهم لتتميم إرساليتهم، بالضرورة يلتقون مصادفة مع أناس أشرار، يرفضون الأخبار الإلهية، وكما لو كانوا، لا يقبلون يسوع ليسكن معهم. لذلك، فلو أن المسيح مدحهم لرغبتهم أن تنزل نار على السامريين ويأتي عليهم مثل هذا العذاب المؤلم ليصيبهم، لكانوا قد تصرفوا بطريقة مشابهة في مناسبات أخرى كثيرة، وحينما يحدث أن يتجاهل الناس الرسالة المقدسة فإنهم ينطقون بالدينونة عليهم، ويطلبون أن تنزل نار عليهم من السماء. وماذا تكون النتيجة عندئذ من مثل هذا السلوك؟ إن المتألمين يصيرون كثيرون جدًّا بلا عدد، ولا يعود التلاميذ يكونون أطباء فيما بعد، بل بالحري معذِّبين، ويصيرون غير محتَمَلين من الناس في كل مكان. لذلك، فلأجل خيرهم الخاص، انتهرهم الرب، حينما ثاروا أكثر من الحد بسبب احتقار السامريين، وذلك لكي يتعلموا، أنهم كمعلمين للأخبار الإلهية، ينبغي بالحري أن يكونوا مملوئين من طول الأناة واللطف، ولا يكونوا منتقمين ولا يستسلموا للغضب، ولا يهاجموا بقسوة أولئك الذين يسيئون إليهم.
ويعلِّمنا القديس بولس أن خُدام رسالة الله كانوا طويلي الأناة، إذ يقول: ” فإني أرى أن الله أبرزنا نحن الرسل آخِرين كأننا محكوم علينا بالموت، لأننا صرنا منظرًا للعالم للملائكة والناس… نُشتم فنبارِك، يُفترى علينا فنعظ، صرنا كأقذار العالم ووسخ كل شيء إلى الآن” (1كو4: 9ـ12). وكتب أيضًا إلى آخرين، أو بالحري إلى كل الذين لم يكونوا بعد قد قبلوا المسيح في داخلهم بل كما لو كانوا، لا يزالون مصابين بكبرياء السامريين، ” نطلب عن المسيح، تصالحوا مع الله” (2كو5: 20).
لذلك، عظيم هو نفع دروس الإنجيل لأولئك الذين هم كاملون في العقل بحق. وليتنا نحن أيضًا، إذ نتخذ هذه الدروس لأنفسنا، ننفع نفوسنا، مسبِّحين المسيح مخلِّص الكل دائمًا إلى الأبد، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والربوبية مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.