من هو أعظم – إنجيل لوقا 9 ج8 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
من هو أعظم – إنجيل لوقا 9 ج8 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
من هو أعظم – إنجيل لوقا 9 ج8 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو46:9ـ49) ” وَدَاخَلَهُمْ فِكْرٌ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ قَبِلَ هذَا الْوَلَدَ بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، لأَنَّ الأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعًا هُوَ يَكُونُ عَظِيمًا “.
أنتم الذين تغارون للحذق الروحي، وتعطشون لمعرفة التعاليم المقدسة، تنالون مرة أخرى الأمور التي تحبونها. والذي يقودكم إلى الغنيمة المربحة ليس معلِّمًا أرضيًّا، ولا واحد مثلنا نحن الذين نرشدكم، بل هو كلمة الله، الذي نزل من فوق، أي من السماء، وهو النور الحقيقي للسموات والأرض، لأن كل الخليقة العاقلة تستنير بواسطته، إذ هو واهب كل حكمة وفهم، ونحن ننال منه كل معرفة الفضيلة، والقدرة الكاملة على ممارسة الأعمال الصالحة كما يليق بالقديسين. لأنه، كما يقول الكتاب: ” نحن متعلمون من الله” (يو45:6، إش13:54س) والمقطع الموضوع أمامنا يشهد أيضًا لما قد قلته. إذ يقول: ” دَاخلهم ـ أي بين الرسل القديسين ـ من هو أعظم فيهم”.
والآن فالذي يظن أن يسوع كان مجرد إنسان، دعوه يعرف أنه على خطأ وأنه ضل بعيدًا عن الحق. مثل هذا فليعرف، أنه رغم أن كلمة الله صار جسدًا، إلا أنه لم يكن ممكنًا بالنسبة إليه أن يكف عن أن يكون ما كان عليه، وأنه استمر إلهًا كما كان. فأن يكون قادرًا أن يفحص القلوب والكلى، ويعرف أسرارها، هذه هي صفة الإله العلى وحده، وليست صفة أي كائن غيره مهما كان. ولكن ها هو المسيح يفحص أفكار الرسل القديسين، ويثبت عين اللاهوت على مشاعرهم الخفية. إذن فهو الله لكونه مكلل بالكرامات المجيدة جدًّا والإلهية.
ولكن دعونا الآن نبحث هذا السؤال، هل كان التلاميذ قد أصيبوا معًا بهذا المرض؟ وهل هذا الفكر دخل فيهم جميعًا مرة واحدة؟ في رأيي، إنه أمر لا يصدق بالمرة أن نفترض أنهم جميعًا صاروا فريسة مشتركة لنفس المرض في نفس اللحظة، ولكن، كما أتصور، حينما صار أحدهم فريسة للمرض، فإن الإنجيلي الحكيم لكي لا يُصوِّب اتهامًا لواحد بعينه بين زملاءه التلاميذ، لذلك يعبر بشكل غير محدد قائلاً: ” وداخلهم فكر من هو أعظم فيهم” وبهذا يُتاح لنا أن نرى كيف أن الشيطان ماكر في شرِّه. لأن هذه الحية هي متلوِّنة جدًّا ومملوءة بكل حيلة للأذى، متآمرًا بطرق متنوعة ضد أولئك الذين يثبتون أشواقهم نحو حياة مكرَّمة، والذين يسعون باجتهاد وراء الفضائل الممتازة. وإن كان يستطيع بواسطة اللذات الجسدية أن يسيطر على عقل أي واحد، فإنه يصنع هجومه بوحشية، ويجعل مهماز الشهوانية حادًّا، وبوقاحة هجماته، يذل حتى العقل الثابت إلى حقارة الشهوات الوضيعة. أما الذي يكون شجاعًا ويهرب من هذه الفخاخ، فحينئذِ يستعمل معه حِيَل أخرى ويخترع إغراءات ليجربه بأفكار مريضة، لأنه يزرع نوعًا أو آخر من البذار التي لا ترضى الله: وأولئك الذين فيهم شيئًا نبيلاً، ويُمدحون لحياتهم الممتازة، يثير فيهم شهوة المجد الباطل، محركًا إياهم قليلاً نحو عجرفة بغيضة. لأنه كما أن أولئك الذين يتهيئون بالزِّي الحربي لمحاربة الغزاة، يستعملون ضدهم حيلاً كثيرة، إمَّا بِلَوي الأقواس التي تطلق السهام، أو بقذف الحجارة من القلاع، أو بأن يهجموا عليهم برجولة بسيوف مسلولة، هكذا الشيطان يستعمل كل حيلة في محاربة القديسين بواسطة خطايا متنوعة.
لذلك، فإن ألم وشهوة المجد الباطل قد هجم على واحد من الرسل القديسين، لأن مجرد المجادلة في مَن هو أعظم بينهم، هو علامة على شخص طموح، متلهف أن يكون رئيسًا للباقين. ولكن الذي يعرف أن يخلِّص، أي المسيح، لم ينم، فقد رأي هذا الفكر في عقل التلميذ ـ يطلع، بحسب كلمات الكتاب، مثل نبات مُر (انظر عب15:12)، لقد رأى الزوان، عمل الزارع الشرير، وقبل أن ينمو عاليًا، قبل أن يصير قويًّا ويمتلك القلب، فإنه ينتزع الشر من جذوره. لقد رأي سهم البربري (أى الشيطان) الذي قد وجد مدخلاً، وقبل أن يسود ويخترق العقل، فإنه أعطى الدواء. لأن الشهوات حينما تكون في بدايتها، وكما لو كانت في طفولتها، ولم يكتمل نموها بعد ولا صارت لها جذور راسخة، يكون من السهل التغلب عليها. ولكن حينما تكون قد زادت ونمت، وصارت قوية، فمن الصعب خلعها أو اقتلاعها. لهذا السبب قال الحكيم: ” إن صعدَتْ عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك، لأن الهدوء يشفى خطايا كثيرة” (جا4:10).
بأي طريقة إذن، يبتر طبيب النفوس مرض المجد الباطل؟ كيف يخلِّص التلميذ المحبوب من أن يكون فريسة للعدو، ومن أمر ممقوت من الله والإنسان؟ يقول الكتاب: ” أخذ ولدًا وأقامه عنده” وجعل هذا الحديث وسيلة لمنفعة الرسل القديسين أنفسهم، ولمنفعتنا نحن خلفائهم، لأن هذا المرض ـ كقاعدة عامة ـ يؤذى كل أولئك الذين هم في وضع أعلى من غيرهم من الناس من أي ناحية.
ولكن الولد الذي قد أخذه، لأي شيء جعله مثالاً ورسمًا؟ لقد كان مثالاً لحياة بريئة غير طامعة، لأن عقل الطفل خال من الخداع، وقلبه مُخلِص وأفكاره بسيطة، وهو لا يطمع في الدرجات، ولا يعرف معنى أن يكون إنسان أعلى من آخر في المركز، وهو ليس عنده عدم ترحيب بأن يُحسب أقل من غيره، وهو لا يضع نفسه فوق أي شخص آخر مهما كان. وحتى إن كان من عائلة شريفة فإنه لا يتشاجر بسبب الكرامة حتى مع عبد، حتى لو كان والداه غنيين، فهو لا يعرف أي فرق بينه وبين الأطفال الفقراء، بل على العكس فهو يحب أن يكون معهم، ويتحدث ويضحك معهم بلا أي تمييز… وفى قلبه وعقله توجد صراحة كبيرة ناشئة من البساطة والبراءة. والمخلص نفسه قال مرَّة للرسل القديسين، أو بالحري لكل الذين يحبونه: ” الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تقدروا أن تدخلوا ملكوت الله“. (متى3:18).
وفى مرة أخرى، حينما أحضرت النساء أطفالهن إليه، ومنعهم التلاميذ، قال: ” دعوا الأولاد يأتوا إليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (لو16:18). وأيضًا بولس الحكيم جدًّا يريد أن أولئك الذين يؤمنون بالمسيح ينبغي أن يكونوا رجالاً ناضجين في الفهم، ” ولكن أطفالاً في الشر” (انظر 1كو20:14)، وأحد الرسل القديسين الآخرين قال: ” كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي عديم الغش لكي تنموا به للخلاص، إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح” (1بط2:2).
وكما سبق أن قلت، فإن المسيح أحضر الولد كنموذج للبساطة والبراءة، ” وأقامه عنده”، مبينًا بذلك ـ كما في رسم توضيحي ـ أنه يقبل الذين مثل هذا الولد ويحبهم، ويحسبهم مستحقين أن يقفوا إلى جواره، لكونهم يفكرون مثله ويتوقون للسير في خطواته. لأنه قال: ” تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب” (متى29:11). وإن كان الذي هو فوق الكل، والمُكلَّل بتلك الأمجاد الفائقة، متواضع القلب، فكيف لا تنطبق على أمثالنا تهمة الجنون المطبق، إن كنا لا نتصرف باتضاع نحو الفقراء، ونعرف ما هي طبيعتنا، بل نحب أن ننتفخ بأنفسنا فوق مقياسنا!
ويقول بعد ذلك: ” من قبل هذا الولد باسمي يقبلني، ومن قبلني يقبل الذي أرسلني“. حيث إن مكافأة أولئك الذين يكرمون القديسين هي نفس المكافأة الواحدة، سواء كان الذي يكرمونه من رتبة متواضعة أو من مركز عالي وكرامة كبيرة ـ لأنهم يقبلون المسيح، وبواسطته وفيه يقبلون الآب ـ فكيف لا يكون أمرًا شديد الحماقة منهم أن يتشاجروا فيما بينهم، ويسعون للترأُّس، ويكونون غير راغبين أن يحسبوا أقل من الآخرين، في حين أنهم سيُقبَلون من الآخرين على أساس متساوي!
ولكنه يجعل معنى هذا الإعلان أكثر وضوحًا بقوله: ” لأن الأصغر فيكم جميعًا هو يكون أعظم“. وكيف يكون المعتبر أصغر هو الأعظم؟ هل المقارنة من جهة الفضيلة؟ ولكن كيف يكون هذا؟ أي بأية طريقة يكون الأصغر هو الأعظم؟ إنه ربما يدعو الذي يُسر بالأمور المتواضعة، بالأصغر، وهو الذي ـ بسبب تواضعه ـ لا يفكر تفكيرًا عاليًا عن نفسه. مثل هذا يرضى المسيح، لأنه مكتوب: ” الذي يرفع نفسه سوف يوضع، والذي يضع نفسه سوف يرفع” (لو11:14). والمسيح نفسه يقول في أحد المواضع: ” طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات” (مت3:5). لذلك فإن زينة النفس التي تتقدس هي الفكر المسكين المتواضع، أما الرغبة في النظر إلى النفس نظرة عالية، والنزاع مع الإخوة بسبب الكرامة والمركز، والشجار معهم بحماقة، فهذا في المقابل هو عار عظيم. مثل هذا السلوك يُفرِّق الأصدقاء، ويجعل ذوي الميول المتشابهة أعداء. هذا السلوك يتغلب على قانون الطبيعة، ويقلب المحبة الفطرية التي نُكنها لإخوتنا. إنه يقسم المحبين أحيانًا، ويجعل حتى المولودين من رحم واحد، أعداء بعضهم لبعض. إنه يحارب بركات السلام ويقاومها. إنه بؤس عظيم ومرض اخترعه شر الشيطان. لأنه أي شيء هناك أكثر خداعًا من المجد الباطل؟ إنه يتلاشى مثل الدخان، مثل سحابة يزول، ومثل منظر الحلم يتحول إلى لا شيء، وبالكاد يساوى العشب في احتماله، ويذبل كالحشائش، لأنه مكتوب: ” كل جسد كعشب، وكل مجد إنسان كزهر عشب” (1بط24:1). لذلك فهو ضعف وهو محتقر في وسطنا، ويُحسب من أعظم الشرور. لأن مَن الذي لا يعتبر الإنسان المحب للمجد الباطل، والمنتفخ بكبرياء فارغة مزعجًا؟ مَن الذي لا ينظر باحتقار، ويعطى اسم “المتفاخر” لذلك الذي يرفض أن يكون على قدم المساواة مع الآخرين، ويقحِم نفسه في المقدمة كمَن يدًّعي أنه يحسب رئيسًا لهم؟ إذن، فليكن مرض محبة المجد الباطل بعيدًا عن أولئك الذين يحبون المسيح، ولنعتبر رفقاءنا بالحري أفضل من أنفسنا، ولنكن تَوَّاقِين أن نُزَيِّن أنفسنا بتواضع العقل ـ الذي يسر الله جدًّا. لأننا إذ نكون هكذا بسطاء الفكر، كما يليق بالقديسين، فإننا سنكون مع المسيح، الذي يكرم البساطة، الذي به ومعه، لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.