سر المسيح – إنجيل لوقا 9 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
سر المسيح – إنجيل لوقا 9 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
سر المسيح – إنجيل لوقا 9 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو43:9ـ45) ” وَإِذْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ، قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ضَعُوا أَنْتُمْ هذَا الْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ. وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هذَا الْقَوْلَ، وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لاَ يَفْهَمُوهُ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هذَا الْقَوْلِ “.
عميق وعظيم هو بالحقيقة سر التقوى، بحسب تعبير بولس الحكيم (1تى16:3)، ولكن الله الآب يعلنه لمن يستحقون نواله. لأن المخلِّص نفسه أيضًا حينما كان يكلِّم اليهود قال: ” لا تتذمروا فيما بينكم، لا يقدر أحد أن يأتي إلىَّ، إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” (يو43:6). فحينما حُسب بطرس المبارك أهلاً لنعمة مجيدة هكذا وعجيبة، إذ كان في نواحي قيصرية فيلبس، فإنه صنع اعترافًا بالإيمان به صحيحًا وبلا عيب قائلاً: ” أنت هو المسيح ابن الله الحي” وماذا كانت المكافأة التي حُسب مستحقًا لها؟ المكافأة هى أن يسمع المسيح يقول: ” طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحمًا ودمًا لم يُعلن لك لكن أبى الذي في السموات” (مت16: 17،16)، ثم بعد ذلك نال كرامات فائقة، لأن المسيح ائتمنه على مفاتيح ملكوت السموات، وصار اعترافه بالإيمان هو الأساس الراسخ للكنيسة. إذ قال له: ” أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها“.
لذلك، فلكي يعرف أولئك الذين سيعلِّمون العالم كله سرَّه بالضبط، فإنه يشرحه لهم مسبقًا بطريقة نافعة، وبوضوح، قائلاً: ” ضعوا أنتم هذا الكلام في قلوبكم[1]، إن ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس“. وأظن أن السبب الذي جعل المسيح يتكلم هكذا، هو موضوع نافع كما أنه يستحق التفكير.
فقد أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد إلى الجبل وتجلَّى أمامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وأراهم مجده الذي سيرتفع به فوق العالم في الوقت المناسب. لأنه سيأتي ليس في حقارة مثل حقارتنا، ولا في وضاعة حالة الإنسان، بل في جلال اللاهوت وعظمته، وفى مجد فائق، وأيضًا حينما نزل من الجبل، فإنه أنقذ إنسانًا من الروح الشرير العنيف، ومع ذلك فقد كان مزمعًا بالتأكيد أن يحمل آلامه الخلاصية لأجلنا، ويحتمل خبث اليهود، وكما يقول خادم أسراره: ” يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل إنسان” (عب9:2). ولكن حينما حدث هذا، ليس هناك ما سيمنع الافتراض أن تلاميذه سينزعجون، وربما يقولون في أفكارهم الخفية: ” الذي له كل هذا المجد، الذي أقام الموتى بقوته الإلهية، الذي انتهر البحر والرياح، الذي سحق الشيطان بكلمة، كيف يُقبض عليه الآن كسجين، ويُمسك به في فخاخ القتلة؟ فهل كنا مخطئين حينئذ في تفكيرنا عنه أنه هو الله؟
وهل سقطنا من المعرفة الحقيقية عنه؟ لأن كون أولئك الذين لم يعرفوا “السر”، أن ربنا يسوع المسيح سوف يحتمل الصليب والموت، سيجدون فرصة للتعثر، هذا أمر سهل أن ندركه، حتى مما قاله له بطرس المبارك. لأنه رغم أنه لم يكن قد شاهد آلامه بعد، ولكنه سمع فقط مسبقًا أن هذه الآلام ستحدث له، فإنه قاطعه، قائلاً: ” حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا” (مت22:16).
لذلك، فلكي يعرفوا ما سوف يحدث بالتأكيد، فهو ـ كأنه ـ يدعوهم أن يحتفظوا بالسر في عقلهم. لأنه يقول: ” ضعوا أنتم هذا في قلوبكم“. وكلمة “أنتم” تُميِّز بينهم وبين كل الآخرين. لأنه أراد في الحقيقة أنهم هم أنفسهم ينبغي أن يتعلموا فقط عن آلامه المقبلة، ولكن من الأفضل جدًّا، أن يقتنعوا في نفس الوقت بأنه سيقوم من القبر بقوة إلهية وأنه سيبيد الموت، وهكذا يتحاشى تعرضهم للعثرة. لذلك، فهو يقول، حينما يأتي الوقت الذي ينبغي أن أتألم فيه، فلا تسألوا، كيف أن واحدًا له كل هذا المجد، والذي صنع كل هذه الآيات، قد سقط كواحد منا، على حين غرة، في أيدي أعدائه، ولكن بالعكس، تأكدوا، حينما تتأملون في التدبير، أنني لا أنقاد بإجبار من الناس، بل أمضى إلى الآلام بإرادتي. لأن ما الذي يعوق ذلك الذي يعرف مسبقًا ما سوف يحدث ويعلنه بوضوح، أن يرفض أن يتألم إذا أراد ذلك؟ ولكن أنا أخضع للآلام، لكي أفدى كل الذين تحت السماء. لأن هذا هو ما يعلمه لنا بوضوح في موضع آخر، قائلاً: ” ليس أحد يأخذ حياتي منى، بل أضعها أنا بإرادتي. لي سلطان أن أضعها، ولى سلطان أن آخذها أيضًا” (يو18:10).
ولكنه يقول: ” أما هم فلم يفهموا هذا القول وكان مُخفى عنهم لكي لا يفهموه” والآن من الطبيعي أن يتعجب أي واحد، حينما يتأمل مع نفسه، كيف أن التلاميذ لم يعرفوا سر المسيح، فرغم أنهم ينتمون إلى جماعات اليهود، إلا أنهم لم يكونوا كسالى أو مزدرين، بل على العكس جادين جدًّا ومجتهدين. فرغم أنهم يعتبرون عمالاً يدويين، إذ كانت مهنتهم الصيد في البحيرة، إلا أنهم ـ كما قلت ـ كانوا متعلمين وعقلاء، ولم يكونوا يجهلون كتب موسى، لأنه لهذا السبب قد اختارهم المسيح، فكيف كانوا إذن يجهلون سر المسيح، حينما كان قد أُشير لهم عنه كظل في مواضع مختلفة بواسطة الناموس، وسبق التنبؤ به بطريقة جميلة في رموزه كما في رسم، ولكي أوضح ما أقصد بمثال، فإنهم لم يستطيعوا أن يهربوا من عبودية مصر، ولا أن يفلتوا من اليد التي اضطهدتهم، إلا عندما ذبحوا حملاً حسب ناموس موسى، وحينما أكلوا لحمه فإنهم مسحوا العتاب العليا بدمه، وهكذا انتصروا على المهلك. فالرموز تتمخض بالحق، وعملهم هذا، كان كما قلت، تنبؤًا، بواسطة ما تم في ظلال، عن الفاعلية الخلاصية لموت المسيح وعن إبطال الهلاك بواسطة دمه، وهو الذي يطرد أيضًا الطاغية القاسي، الشيطان، وينقذ من سيطرة الأرواح النجسة، أولئك الذين كانوا قد استُعبدوا، والذين، مثل الإسرائيليين الذين سخروا في عمل الطوب والبناء، قد صاروا ضحايا الاهتمامات الأرضية والشهوات الجسدية الدنسة، وارتباكات هذا العالم غير النافعة.
إن سر الآلام يمكن أن يُرى في أمر آخر، فإنه حسب ناموس موسى، كان يقدَّم تيسان، لا يختلفان في شيء أحدهما عن الآخر، بل هما متماثلان في الحجم والشكل. واحد من هذين التيسين كان يسمى ” للرب”، فإنه يُقدم ذبيحة، والآخَر “المُرسَل بعيدًا”. وحينما تخرج القُرعة على التيس الذي يُسمَّى: “للرب”، فإنَّه يُقدَّم ذبيحة بينما الآخر كان يُرسل بعيدًا عن الذبح، ولذلك كان يُسمى “المرسل بعيدًا”. ومن هو المُشار إليه بهذا؟ إنه “الكلمة”، الذي رغم أنه الله، فقد صار مثلنا، وأخذ شكلنا نحن الخطاة فيما يختص بطبيعة الجسد. ولكن كان الموت هو ما نستحقه نحن، إذ أننا بالخطية قد سقطنا تحت اللعنة الإلهية، ولكن حينما حمل مخلص الكل نفسه العبء، فإنه نقل الدين الذي كان علينا إلى نفسه، ووضع حياته لأجلنا، لكي نطلق نحن بعيدًا عن الموت والهلاك.
لذلك فالسر سبق أن أُعلن بشكل غامض لليهود بواسطة ما أشير به كالظل في الناموس، لو أنهم كانوا فقط عارفين الكتب المقدسة. ولكن، كما كتب بولس المبارك “ إن العَمَى قد حصل جزئيًا لإسرائيل” (رو25:11)، ” وحتى اليوم حين يُقرأ موسى، البرقع موضوع على قلبهم، وهو لا ينكشف، لأنه يبطل في المسيح” (2كو14:3ـ15).
فهم في الواقع يفتخرون بالناموس، ولكن هدفه مُخفى تمامًا عنهم، إذ أن هدفه أن يقودنا إلى سر المسيح. ولكن مخلِّصنا يوضح أنهم بلا فهم إذ يقول: ” فتشوا الكتب، لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهى التي تشهد لي، ولا تريدون أن تأتوا إليَّ لتكون لكم حياة” (يو39:5و40). لأن الكتب الموحَى بها تقود الإنسان الذي له فهم إلى معرفة دقيقة لتعاليم الحق، ولكنها لا تنفع عديمي الحكمة والجهّال والمهملين. ليس لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا هذا، بل بسبب أن ضعف ذهنهم يجعلهم غير قادرين على استقبال النور الذي تعطيه الكتب المقدسة. لأنه كما أن نور شعاع الشمس غير نافع لأولئك المحرومين من البصر، ليس لأنه لا يستطيع أن يضئ، بل بسبب أن عيونهم غير قادرة على رؤية النور واستقباله. هكذا الكتب المقدسة، فرغم أنها موحى بها من الله، فهي لا تنفع الجهَّال والأغبياء شيئًا.
لذلك فواجبنا، هو أن نقترب إلى الله ونقول: ” افتح عينيَّ لكي أبصر عجائب من ناموسك” (مز18:118 السبعينية)، وهكذا فسوف يعلن لنا المسيح سره، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.
[1] في نص الإنجيل الوارد في بداية العظة يستعمل القديس كيرلس” آذانكم” ولكن أثناء الشرح يستعمل كلمة “قلوبكم” بدلاً منها، ربما عن غير قصد، ولكنها تُبيِّن فهمه لكلمة آذان.