المرأة الخاطئة – إنجيل لوقا 7 ج5 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو 7: 36- 50) ” وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الْفَرِّيسِيِّ وَاتَّكَأَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ الْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ. فَلَمَّا رَأَى الْفَرِّيسِيُّ الَّذِي دَعَاهُ ذلِكَ، تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قِائِلاً: لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: يَاسِمْعَانُ، عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ. فَقَالَ: قُلْ، يَامُعَلِّمُ. كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى الْوَاحِدِ خَمْسُمِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى الآخَرِ خَمْسُونَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعًا. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ: أَظُنُّ الَّذِي سَامَحَهُ بِالأَكْثَرِ. فَقَالَ لَهُ: بِالصَّوَابِ حَكَمْتَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: أَتَنْظُرُ هذِهِ الْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِالطِّيبِ رِجْلَيَّ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا. وَالَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً. ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ. فَابْتَدَأَ الْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: مَنْ هذَا الَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضًا؟. فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ “.
” يا جميع الأمم صفقوا بأيديكم، اهتفوا لله بصوت الابتهاج والشكر” (مز47: 1س). وما هو سبب هذا الابتهاج؟ إنه بسبب أن المخلص هنا أنشأ لنا طريقًا للخلاص لم يسر فيه الذين في القديم. لأن الناموس الذي وضعه موسى الحكيم كان لتوبيخ الخطية لإدانة التعديات، ولكنه لم يبرر مطلقًا أي أحد. لأن بولس الحكيم يكتب ويقول ” مَن خالف ناموس موسى فعلى فم شاهدين أو ثلاث شهود يموت بدون رأفة” (عب10: 28). أما ربنا يسوع المسيح فإذ قد أبطل لعنة الناموس وجعل الوصية التي تدين بلا قوة وغير فعَّالة، “ صار رئيس كهنتنا الرحيم” بحسب كلمات بولس المبارك (عب 2: 17)، لأنه يبرِّر الخطاة بالإيمان، ويطلق المأسورين بالخطية أحرارًا. وهذا أعلنه لنا بواسطة أحد الأنبياء القديسين قائلاً ” في ذلك الوقت يقول الرب، سيبحثون عن خطية إسرائيل فلن تكون هناك، وعن خطية يهوذا فلا يجدونها، لأني سأكون رحيمًا بأولئك الذين بقوا في الأرض يقول الرب” (إر1: 20س)، ولكن ها إن تحقيق الوعد حدث لنا في وقت تجسده، كما يتأكد لنا من معاني الأناجيل المقدسة.
فقد دُعِيَ المسيح من أحد الفريسيين، ولأن المسيح شفوق ومحب للبشر “ ويريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تي2: 4)، وافق ومنحه ما طلب منه، وإذ دخل اتكأ على المائدة، وفي الحال دخلت امرأة مدنسة بالخطايا مثل واحد لا يفيق من الخمر والسكر، وإذ شعرت بذنوبها وتعدياتها قدَّمت توسُّلات للمسيح القادر أن يطهرها ويحررها من كل خطية وينقذها من خطاياها السابقة ” لأنه لا يذكر الخطايا والتعديات” (عب8: 12)، وقد فعلت هذا وهي تغسل قدميه بدموعها وتدهنهما بالطيب وتمسحهما بشعر رأسها. مثل هذه المرأة التي كانت فاسقة وزانية وهي خطية يصعب إزالتها، لم تفقد طريق الخلاص، لأنها هربت لاجئة إلى الذي يعرف كيف يُخلِّص ويستطيع أن يرفع من أعماق النجاسة.
فهي إذًا لم تفشل في غرضها، ولكن الإنجيلي المبارك يخبرنا أن الفريسي الأحمق قد استاء وقال في نفسه: ” لو كان هذا نبيًّا لَعلِم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي، إنها خاطئة“. لذلك فالفريسي كان منتفخًا وبلا فهم بالمرة، لأنه كان من واجبه بالأحرى أن يُنظم حياته الخاصة ويُزيِّنها بكل الأعمال الفاضلة، وليس أن يحكم على الضعفاء ويدين الآخرين. ولكننا نؤكد عنه أنه إذ قد تربى على عوائد الناموس، فقد أعطى لأوامره سلطانًا واسعًا وأراد أن يُخضع المشرع (المسيح) لوصايا موسى، لأن الناموس أوصى أن المقدَّس يكون بعيدًا عن النجس، والله وجَّه اللوم لأولئك الذين كانوا رؤساء مجامع اليهود لعدم رغبتهم في تتميم ذلك، لأنه تكلم هكذا بواسطة أحد الأنبياء القديسين قائلاً: ” لم يميِّزوا بين المقدَّس والنجس” (حز22: 26). ولكن المسيح جاء من أجلنا، ليس لكي يخضع حالتنا للَّعنات التي بواسطة الناموس، بل ليفدي أولئك الذين تحت الخطية برحمة أعلى من الناموس، لأن الناموس قد تأسَّس “ بسبب التعديات” كما يُعلن الكتاب (غل 3: 19)، ” لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله، لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه” (رو3: 19، 20)، لأنه لا يوجد هناك متقدِّم في الفضيلة الروحانية، حتى يكون قادرًا أن يُتمِّم كل ما أوصى به، ويكون بلا لوم، ولكن النعمة التي بالمسيح تُبرِّر لأنها إذ تُبطل حكم الناموس فهي تُحرِّرنا بواسطة الإيمان.
لذلك فإن ذلك الفريسي المتكبر الأحمق لم يحسب يسوع قد وصل حتى إلى درجة نبي، ولكن المسيح جعل دموع المرأة فرصة لكي تعلِّمه بوضوح عن السر، لأنه علَّم الفريسي وكل الذين كانوا مجتمعين هناك أن الكلمة إذ هو الله، جاء إلى العالم في صورتنا “ ليس ليدين العالم، بل ليخلص به العالم” (يو3: 17). لقد جاء لكي يغفر للمديونين كثيرًا وقليلاً، ولكي يُظهر رحمة على الصغير والكبير، لكي لا يكون هناك أي واحد مهما كان لا يشترك في صلاحه. وكعربون ومثال واضح لنعمته، خلَّص تلك المرأة غير العفيفة، غير الطاهرة من خطاياها الكثيرة: ” مغفورة لكِ خطاياك“. إن مثل هذا الإعلان لائق بالله حقًّا، وهي كلمة تُبيِّن السلطان المطلق، لأنه حيث إن الناموس أدان أولئك الذين كانوا في الخطية، فمن هو الذي يستطيع أن يعلن أشياء فوق الناموس إلاَّ ذلك الذي وَضَع الناموس. لذلك فإنه في الحال أطلق المرأة حُرَّة، ثم أنه لفت انتباه ذلك الفريسي، وأولئك الذين كانوا يأكلوا معه إلى أمور عالية جدًا، لأنهم تعلَّموا أن الكلمة هو الله، ولم يكن كواحد من الأنبياء، بل بالحري يفوق مستوى البشرية، وذلك رغم أنه صار إنسانًا. وربما يقول واحد لذلك الذي دعاه: أنت أيها الفريسي متدرِّب في الكتب المقدسة، وأنت تعرف طبعًا الأوامر التي أعطاها موسى الحكيم، وأنت قد فحصتَ كلمات الأنبياء القديسين، فمن هو إذًا ذاك الذي يسير في طريق عكس الوصايا المقدسة ويُحرِّر من الخطية؟ من هو هذا الذي أعلن أن الذين كسروا الوصايا قد صاروا أحرارًا؟ لذلك اِعلَم بواسطة الحقائق نفسها أنه أعلى من الأنبياء والناموس، تذكَّر أن واحدًا من الأنبياء القديسين بشَّر بهذه الأشياء منذ القديم عنه وقال: “ سوف يأتون بالرعب إلى الرب إلهنا ويخافون منك. من هو إله مثلك غافر الآثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه؟ لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسر بالرأفة” (ميخا7: 17، 18).
لذلك فأولئك الذين كانوا يأكلون مع الفريسي اندهشوا وتعجبوا لرؤيتهم المسيح مخلِّص الكل يملك مثل هذا السمو الإلهي، ويستعمل تعبيرات تعلو على حق الإنسان، لأنهم قالوا: ” من هو الذي يغفر خطايا أيضًا؟”. هل تريدني أن أخبرك من هو هذا؟
إنه هو الذي في حضن الله الآب، والمولود منه بالطبيعة، والذي به كان كل شيء، هو الذي يملك سلطانًا مطلقًا وتسجد له كل خليقة في السماء وعلى الأرض، وهو قد أخضع نفسه لحالتنا، وصار رئيس كهنتنا، لكي ما يُقدمنا إلى الله طاهرين وأنقياء إذ قد أبطل رائحة الخطية النتنة، وجعل نفسه فينا رائحة طيبة. لأنه كما يكتب بولس الحكيم جدًّا “ نحن رائحة المسيح الزكية لله” (2كو2: 15). هذا هو الذي تكلم بصوت النبي حزقيال قائلاً ” وأنا أكون لكم إلهًا وأخلِّصكم من كل نجاساتكم” (حز36: 28، 29). لذلك انظروا أن ما تحقق يتفق مع ما سبق أن وعد به بواسطة الأنبياء القديسين. اعترفوا به أنه الله وهو اللطيف جدًّا والمُحب للبشر، أمسِكوا بطريق الخلاص، اهربوا من الناموس الذي يقتل، واقبلوا الإيمان الذي هو فوق الناموس، لأنه مكتوب “الحرف يقتل” أي الناموس، “ولكن الروح يحيي” أي التطهير الروحي الذي في المسيح. الشيطان قد ربط سكان الأرض بقيود الخطية، والمسيح قد فك هذه الحبال. إنه جعلنا أحرارًا، وأبطل طغيان الخطية، وطرد المشتكي الذي يشتكي على ضعفاتنا لكي يتم الكتاب “ أن كل أثم يسد فاه” (مز107: 42)، لأن الله هو الذي يبرِّر “ فمن هو الذي يدين؟” (رو8: 33).
وهذا صلَّي من أجله المرنم الإلهي لكي يتحقق، حينما خاطب المسيح مخلِّص الكل هكذا “ لتبد الخطاة من الأرض والأشرار لا يكونون فيما بعد” (مز104: 35). فإنه حقًّا لا ينبغي أن يقول عن واحد لابس الروح إنه يلعن من هم خطاة وضعفاء، فإنه غير لائق بالقديسين أن يلعنوا أي أحد بل بالأحرى هو يطلب هذا من الله. لأنه قبل مجيء المخلِّص كنا كلنا في الخطية، ولم يكن هناك من يعرف أنه هو الله بالحق وبالطبيعة، ” لم يكن أحد يعمل صلاحًا ليس ولا واحد، بل الجميع زاغوا وفسدوا معًا” (رو3: 12)، ولكن بسبب أن الابن الوحيد أخضع نفسه للإخلاء وتجسد وصار إنسانًا، فقد تلاشى الخطاة. لم يعد هناك خطاة لأن سكان الأرض قد تبرَّروا بالإيمان، وقد غسلوا أدناس خطيتهم بالمعمودية المقدسة، وقد صاروا شركاء الروح القدس، وخرجوا من تحت يد العدو، وبعد أن كانوا تحت سيطرة الشياطين صاروا يسكنون تحت سلطان المسيح.
لذلك فإن عطايا المسيح ترفع الناس إلى رجاء طال انتظاره وإلى فرح عظيم جدًّا، فالمرأة التي كانت مذنبة بنجاسات كثيرة وتستحق اللوم بسبب أعمال مشينة جدًّا قد تبررت، لكي يكون لنا نحن أيضًا ثقة أن المسيح سيرحمنا نحن أيضًا بالتأكيد، حينما يرانا مسرعين إليه وساعين أن نهرب من شراك الشر. دعونا نقف أمامه، دعونا نسكب دموع التوبة، هيا بنا ندهنه بالطيب، لأن دموع الذي يتوب هي رائحة طيِّبة لله. اذكروا الذي قال “ اصحوا أيها السكارى، وابكوا وولولوا يا جميع شاربي الخمر” (يؤ1: 5). لأن الشيطان يُسكر القلب، ويثير العقل باللذات الشريرة، ويُحدِر الناس إلى نجاسات الشهوة. ولكن ما دام هناك وقت فلنستيقظ، وكما يقول بولس الحكيم جدًّا: ” لنسلك لا بالبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر، بل بالأحرى لنعمل ما هو صالح، لأننا لسنا من ليل ولا من ظلمة، بل أبناء نور وأبناء نهار” (رو13: 13؛ 1تس5: 5). ” لذلك فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور” (رو13: 12). لا تنزعج حينما تُفكِّر في عظم خطاياك السابقة، بل بالأحرى إعلم أن نعمة الله التي تبرر الخاطئ وتفك الشرير، هي أعظم (من خطاياك).
إذًا فالإيمان بالمسيح هو عربون لنا لهذه البركات العظيمة، لأنه هو الطريق الذي يقود للحياة ليصل بنا إلى المنازل التي فوق، وهو الذي يرفعنا إلى ميراث القديسين، والذي يجعلنا أعضاء ملكوت المسيح، الذي به ومعه لله الآب كل تسبيح وسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور.