المعمدان والمسيح – إنجيل لوقا 7 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
المعمدان والمسيح – إنجيل لوقا 7 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
المعمدان والمسيح – إنجيل لوقا 7 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو 7: 31- 35) ” ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ: فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هذَا الْجِيلِ؟ وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ يُشْبِهُونَ أَوْلاَدًا جَالِسِينَ فِي السُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ لاَ يَأْكُلُ خُبْزًا وَلاَ يَشْرَبُ خَمْرًا، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا“.
الذين لهم عقل سليم يفحصون كل شيء، ويرفضون ما هو زائف، لكنهم يقبلون ويمدحون ما هو بلا لوم. وهذا أيضًا ما يطلبه منا بولس الحكيم، حيث كتب قائلاً: ” كونوا حكماء، امتحنوا كل شيء، تمسَّكوا بالحسن، امتنعوا عن كل شبه شر” (1تس5: 21). لذلك وكما قلت ينبغي لنا نحن أيضًا أن نفحص بتدقيق، وبعين العقل المميِّزة كل ما يُفعل، ونبحث في طبيعة الأفعال، لكي نوافق على ما هو بلا لوم بينما نرفض ما هو زائف. ولكن إذا لم نميز بين الأشياء فإننا نتعرض لخطورة إصدار حكم رديء على أشياء مستحقة للمدح جدًّا، وأن نحسب ما هو شرير أنه لائق للإطراء والتصفيق، وعندئذ تنطبق علينا كلمات النبي: “ويل للقائلين للشر خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المُر حلو والحلو مرًّا” (إش5: 20). هكذا كانت صفة الإسرائيليين وخاصة أولئك الذين كانوا رؤساء لهم، أي الكتبة والفريسيين الذين عنهم قال المسيح “ بماذا أشبه أناس هذا الجيل؟“.
ربما كان هناك نوع من اللعب بين أولاد اليهود أو شيء من هذا النوع بمجموعة من الشباب كانت تقسم إلى قسمين، وكانوا يلعبون ويخلطون الأمور بعضها ببعض، وكانوا ينتقلون سريعًا من حالة إلى أخرى مما هو مفرح إلى ما هو محزن، وكان بعضهم يلعب على آلات الموسيقى بينما البعض الآخر كانوا ينوحون. فالنائحون لم يكونوا يشاركون فرح أولئك الذين يلعبون الموسيقى ويُهللون، ولا أيضًا أصحاب الآلات الموسيقية كانوا يشتركون في حزن أولئك الذين يبكون، وأخيرًا لاموا بعضهم بعضًا لعجزهم عن التعاطف مع بعضهم البعض أي على غياب الشعور المشترك لأن فريقًا منهم يقول ” زمَّرنا لكم فلم ترقصوا” فيرد عليهم الفريق الآخر ” نحنا لكم فلم تبكوا“.
لذلك فالمسيح يُعلِن أن الجمهور اليهودي وقادتهم كانوا في حالة من الشعور شبيهة بهذه، لأنه يقول ” جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا فيقولون، به شيطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر ومُحب للعشارين والخطاة“. أيها الفريسي الغبي بأي طريقة إذًا يمكن أن تُربح إلى الإيمان، وأنت هكذا تلوم كل الأشياء بلا تفريق، ولا تعتبر أي شيء مستحقًا للمديح؟ فالمعمدان المبارك كان سابقًا للمخلص، مناديًا قائلاً “ توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله” (مت3: 2)، لأنه كان رجلاً يستحق أن ينال الثقة، وهو قادر على الإقناع، حتى أنهم هم أنفسهم شهدوا له أن حياته كانت نبيلة وجديرة بالإعجاب. فهو قد سكن في البراري وكان يرتدي ثيابًا فقيرة وخشنة وبالكاد كان يُلبِّي ضرورات جسده بالجراد والعسل البري. وأنتم قد خرجتم لتروه كشخص قديس، وقد وصل إلى كمال كل فضيلة، فهل تجرؤ أيها الفريسي بعد ذلك أن تتكلم رديئًا عن فِعل هذا الشخص وهو شخص ينبغي بالحرى أن يحسب مُستحقًا لكل إعجاب؟ هل تقول إن به شيطان وهو الذي كان بالأصوام يميت قانون الخطية الذي في أعضائنا الجسدية المحارب ضد ناموس ذهننا؟ (انظر رو7: 23)، وهل هناك ما هو أعظم من حياة التعفف؟ لأنه كونه قادرًا أن ينتهر بحكمة تلك اللذات التي تقود إلى الشر وأن يعيش حياة زهد وتعفف، فكيف لا يكون هذا عظيمًا وباهرًا؟
إن المعمدان المبارك كان مكرسًا كلية في تقواه نحو المسيح، ولم يكن يوجد فيه أقل اعتبار للشهوات الجسدية، أو لأمور هذا العالم، لذلك فهو إذ تخلى تمامًا عن ارتباكات هذا العالم الباطلة وغير النافعة فإنه عمل في أمر واحد بكل اهتمام وهو أن يُتمِّم بلا لوم الخدمة التي أؤتمن عليها. لأنه قد أُمِرَ أن يكرز قائلاً ” أعدوا طريق الرب” (إش40: 3). أخبرني هل أنت تظن أن هذا الإنسان به شيطان، وهو إنسان ليس للشيطان سلطان عليه، وهو ليس أسيرًا لأي شهوة شريرة، وهو قد قفز فوق كل شراك حب الجسد الوضيع، وهو قد أمر جموع الشياطين أن تسكت، وقاوم هجماتهم برجولة؟ فإنه في الحقيقة لم يكن ليصل لهذا المجد وتلك الفضيلة إلا بواسطة المسيح، الذي هو مُمجَّد ومرتفع جدًّا فوق الشيطان، الذي يجرِّب القديسين ويصر بأسنانه على نجاحهم. ألا تخجل إذًا من أن تشتم واحدًا قد وصل إلى مثل هذا الصبر العظيم والاحتمال الكبير، وله حول رأسه أكاليل من الفضيلة الرجولية؟ هل تُحرِّك لسانك ضده وتتجاسر بوقاحة أن تفتري عليه، بأن تقول إنه إنسان مجنون، وتافه وليس مالكًا لقواه العقلية؟
ثم دعونا نرى، مَن هو على الناحية الأخرى، وما يبدو كأنه يتبع طريقًا مختلفًا عن سلوك المعمدان، فالمسيح لم يكن في البرية، بل بالحرى جعل مسكنه في المدينة بصحبة رسله القديسين، هو لم يأكل جرادًا وعسلاً بريًّا، وثيابه لم تكن من وبر الإبل، ولم يكن له منطقة من جلد على حقويه. وطريقة حياته بالحري كانت كالطريقة المعتادة في المدن، ولم يكن فيها خشونة مثل تلك التي كان يمارسها المعمدان القديس. فهل أنت إذًا تمدحه على الأقل، وهل توافق على سهولة طريقته، واختلاطه بحرية مع الآخرين، وعدم اهتمامه بالمرة من جهة طعامه؟ لا أظن، فإن ميلك إلى النقد القاسي يمتد حتى إلى المسيح. فأنت تقول أيها الفريسي “هوذا إنسان أكول، وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة”، فهل بسبب أنه تصادف أنك رأيت يسوع يأكل مثل الناس، فهو يبدو لك أنه شريب خمر وأكول؟ كيف يمكنك أن تُثبت ذلك لأنه حينما قامت مرَّة مريم ومرثا باستقباله في بيت عنيا، وكانت واحدة منهما منشغلة بخدمة كثيرة، فإننا نرى المسيح يمنع المبالغة والزيادة، ويدعو إلى ما هو ضروري فقط، لأنه قال “ مرثا مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى أشياء قليلة، أو إلى واحد” (انظر لو10: 41). وهكذا كان هو دائمًا وفي كل مكان.
ولكن هل أنت تتهم المسيح بسبب أنه كان يمشي مع العشارين والخطاة؟ وهل هذا هو سبب استيائك؟ ولكن أي ضرر يمكن أن نتخيله أصاب المسيح من ترحيبه أن يكون مع الخطاة؟ فهو لم يكن معرّضًا بأن يتأثر بخطاياهم لأنه كان فوق كل خطية تمامًا. حتى أنه قال مرة ” رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء” (يو14: 30)، وفي مرة أخرى قال “ من منكم يبكتني على خطية؟” (يو8: 46). لذلك فهو لا يمكن أن يتلوث من أي ناحية بوجوده مع الخطاة.
ولكنك تقول أيها الفريسي، إن ناموس موسى أمر أننا ” لا ينبغي أن نتكلم مع الأشرار”. دعونا إذًا ندرس موضوع الناموس، ودعونا نرى لأي سبب منع الإسرائيليين أن يتحدثوا مع الأشرار، ويختلطوا مع الخادعين. والآن فإن الحقيقة بالتأكيد هي، أن ناموس موسى أمر بهذه الأشياء، ليس لكي تتفاخر بنفسك على الآخرين، وتجعل الوصية سببًا للانتفاخ، بل بالحرى بسبب أن ذهنك ضعيف وأنت منجذب إلى الحماقة، وبسبب أن قلبك يجري بإرادته وراء اللذات الشريرة فإن الناموس يحفظك من الرغبة في أن تكون مع أولئك الذين حياتهم تستحق اللوم، لئلا تصير مثلهم في ذهنك وتُقتنَص بغباوة في فخهم ” لأن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة” (1كو15: 23). لذلك فأنت قد استلمت الوصية كحارس لضعفك، فلو أنك كنت قد تأسَّست في الفضيلة، ولو كان عقلك ثابتًا في مخافة الله لَمَا كان الناموس يمنعك من أن تتحدث حديثًا نافعًا مع أولئك الذين هم ضعفاء، وذلك لكي ما يصيروا متمثلين بتقواك ويتعلموا أن يتشبهوا بأعمالك، حتى أنهم إذ يسيرون في خطوات غيرتك، يمكن أن يتقدموا إلى ما هو أكثر فضلاً وسموًا. لذلك فلا تتخيل تخيلات متكبرة، إذ أنه حتى في وصية موسى أنت متهم بالضعف.
أنت تلوم المسيح لسيره مع الخطاة والعشارين: هل أنت تفعل ذلك لئلا يتأثر بنجاستهم؟ لذلك أخبرني هل أنت تتخيل أنه يشترك أيضًا في ضعفك؟ هل أنت جاهل تمامًا بالأسرار الخاصة به؟ وهي أن الكلمة إذ هو الله صار معنا، أي تجسد لأجلنا، وأن الآب أرسله “ لا ليدين العالم، بل ليخلص به العالم” (يو3: 17). لأن مَن يدين، هو الذي يتحاشى صحبة مثل هؤلاء الذين لا زالوا في خطاياهم، أما الذي يريد أن يخلّص فإنه يكون معهم ويحثهم ويؤثر عليهم ليتغيروا من مسالكهم المشينة، وأن يختاروا الطريق المؤدي إلى الحياة الأبدية بدلاً من طريق الشر. إنه لم “ يأتِ ليدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة” (لو5: 32)، وكما قال هو نفسه ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى “. لذلك فلماذا تلومه على محبته للإنسان هكذا وتنتقده على لطفه الإلهي؟ لماذا توبخه على كونه شفوقًا بنا، وشافيًا لمرضنا؟
إن كل إنسان يمدح الأطباء، ليس حينما يتحاشون الاختلاط بالمرضى، بل حينما يكونون معهم دائمًا، وبوسائل فهمهم الخاص يعودون بهم بالتدريج إلى الصحة التامة. وإذا كان يسوع هو طبيب النفوس والأرواح، فلماذا تلومه لتخليصه الخطاة؟ إنه لا يمكن أن يتلوث، حتى لو أكل مع الخطاة، لأن الشمس الساطعة ترسل أشعتها وتدخل إلى كل شيء تحت السماء، ويحدث إذًا أن القاذورات تتعرض لتأثيرها، أما الشمس التي ترسل إشعاعها فهي لا تتلوث بالمرة رغم أنها تسطع على مواد كريهة جدًّا. إن ربنا يسوع المسيح هو شمس البر، ولا يستطيع إنسان شرير مهما كان أن يُلوِّثه حتى لو كان قريبًا بجواره ويأكل معه.
هذا ما نقوله فيما يخص المسيح مخلصنا جميعًا. ولكن مع ذلك ربما يعترض البعض ويقول أليست أيضًا كرازة الإنجيل الجديدة والمخلِّصة توصينا بوضوح أن نبتعد عن الاتصال بالناس غير الطاهرين؟ لأن بولس الحكيم جدًّا كتب أيضًا للبعض “ كتبتُ إليكم في الرسالة أن لا تخالطوا الزناة، إن كان أحد مدعوًا أخًا زانيًا أو سكيرًا أو خاطفًا أو عابد وثن فلا تؤاكلوا مثل هذا” (1كو5: 9، 11). لذلك فقد كان مناسبًا للمسيح أن يكون مثالاً لنا في هذا السلوك. لقد فقدتَ مقياسك الذي تقيس به أيها الأخ المحبوب! وأنتَ ترغب أن تنافس كرامة سيدك العالية، وأنتَ تمسك بما يفوق طبيعتك جدًّا، فلاحظ ضعف ذهنك، فإن المسيح إله أما أنت فإنسان تتسلط عليك اللذات الجسدية وذهنك ينخدع بسهولة للضلال، ويصير فريسة سهلة للخطايا. ومع ذلك فإذا شعرتَ بثقة في قدرتك الشجاعة أن تسير في سلوك بلا لوم، وأيضًا أن تعظ الآخرين، فمع ذلك ليس هناك ما يستطيع أن يمنعك من أن تشتهي أن تكون مع الأشرار ومحبي الخطية، فإن نصائح الرجال الروحانيين كثيرًا ما أفادت أولئك الذين في الخطية. وبالعكس فإن كنتَ أنت نفسك لا تخلص بسهولة حتى حينما تحفظ نفسك بعيدًا من رفقة الشر، فإنك يجب أن تكون حريصًا في هذه الناحية. تذكر كاتب كتاب الأمثال الذي يقول ” المساير الحكماء يصير حكيمًا، ورفيق الجُهال يُضر” (أم13: 20). وأيضًا يقول داود المبارك ” مع الرجل الكامل تكون كاملاً، ومع الطاهر تكون طاهرًا ومع الأعوج تكون ملتويًا” (مز18: 25، 26).
” فلكي تنجو مثل الظبي من الشباك” (انظر أم6: 5س)، وتهرب من الناس الأشرار، فابتعد عن أولئك الذين لا يستطيعون أن يمتنعوا عن النجاسة، وتوسل إلى المسيح أن يطهر أي شيء فاسد فيك، ويعينك في كل ضعفاتك البشرية لأن الكلمة الذي جاء من الله هو إله، رغم أنه صار جسدًا، أي صار إنسانًا، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.