Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الويلات – إنجيل لوقا 6 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

الويلات – إنجيل لوقا 6 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

الويلات – إنجيل لوقا 6 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

مضار الغِنى ـ وفائدة الرحمة

(لو 6: 24) “ وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ“.

          اقبلوا تلك الأشياء التي تقودكم إلى الحياة الأبدية، لأنه مكتوب أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت4:4). كل الكتاب هو بالحقيقة موحى به من الله، ولكن هذا صحيح بنوع خاص من كلام الإنجيل، لأن الله الذي أعطى في القديم الناموس الذي يتكوَّن من رموز وظلال بواسطة خدمة موسى، هو نفسه إذ قد صار إنسانًا تكلم إلينا، كما يشهد بولس الحكيم قائلاً: ” الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه” (عب1:1). فنحن متعلِّمون من الله، لأن المسيح هو بالحق الله وابن الله. لذلك فلنُثبِّت انتباهنا بحرص على ما يقول، ونفحص بتدقيق عُمق ما يعنيه، لأنه يقول: ” ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم“. ومناسب جدًّا أن يُضاف هذا القول على الحديث الذي سبق، لأنه بعد أن بيَّن أن الفقر لأجل الله هو أصل كل بركة، وقال إن جوع القديسين وبكاءهم لن يكون بدون مكافأة، فإنه يتقدم ليتكلم عن الأمور المضادة ويقول عنها إنها تجلب الحزن والدينونة. لأنه يلوم الأغنياء، وأولئك الذين ينغمسون بدون إتِّزان في الملذات وهم دائمًا في الملاهي والأفراح أي في الملذات العالمية، وبذلك فإن المسيح لا يترك وسيلة دون أن يستخدمها لمنفعة الذين يقتربون منه وخاصة الرسل القديسين. لأنه إن كان احتمال الفقر لأجل الله، مع الجوع والدموع ـ التي تعني التعرض للألم والضيقات في سبيل التقوى ـ إن كانت هذه نافعة أمام الله، وهو ينطق بثلاثة تطويبات[1] لأولئك الذين يحتملونها، فإنه ينتج بالضرورة أن أولئك الذين يعتنقون الرذائل المضادة لتلك الفضائل، أن يكونوا معرضين إلى أعظم لوم.

 

          لذلك فإن الناس يمكن أن يُربحوا إلى الرغبة في العمل والفقر الاختياري لأجل الله بواسطة شهوة الأكاليل والمكافأة، وأيضًا من الجهة الأخرى فإنهم يمكن أن يهربوا من الغنى ومن الحياة في التنعُّم واللهو عن طريق الخوف من العقاب الذي يُهدِّدون به. لذلك فهو يقول إن الأولين هم ورثة لملكوت السموات، أما الآخرين فإنهم سيتورطون في بؤس فائق، لأنه يقول ” لأنكم قد نلتم عزاءكم“.

 

          وتُتاح لنا الفرصة أن نرى هذا الحق موضَّحًا بطريقة جميلة في أمثال الإنجيل كما لو كان في رسم، لأننا قد سمعنا الإنجيل يقول إنه كان هناك إنسان غني يلبس الأرجوان والبز، وكان لعازر المسكين مطروحًا عند بابه مضروبًا بالفقر والقروح، والغني لم يشعر بأي إشفاق من نحوه. ولكن الإنجيل يقول إن لعازر حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم بينما الغني كان في العذاب واللهيب. وحينما رأى الغني لعازر في راحة وسعادة في حضن إبراهيم، وتوسَّل قائلاً: ” يا أبي إبراهيم ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد طرف لساني، لأني معذب في هذا اللهيب” (لو16: 24). ولكن ماذا كان جواب إبراهيم المبارك؟ قال: ” يا ابني اذكُر أنك قد استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا، والآن هو يتنعم وأنت تتعذب” (لو16: 25). لذلك فحق هو ما يقوله المسيح هنا عن أولئك الذين يعيشون في غنى وتنعم ولهو:       ” لأنكم قد نلتم عزاءكم“، ويقول عن أولئك الشباعى الآن إنهم سيجوعون، وعن الضاحكون الآن إنهم سيحزنون ويبكون.

 

          ولكن هيا بنا ودعونا نفحص الأمر بين أنفسنا. إن مخلِّصنا في أمثاله قد تكلم هكذا ” إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصلِّيا، واحد فريسي والآخر عشار، أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا، اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار، أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتني. وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: اللهم ارحمني أنا الخاطئ. الحق أقول لكم إن هذا نزل إلى بيته مبررًا دون ذاك” (لو 18: 10ـ14). لأن الفريسي المتكبِّر كان يفتخر على العشار، وإذ ادَّعى لنفسه رتبة واضع الناموس، أدان رفيقه الذي كان من واجبه أن يظهر شفقة من نحوه. أما العشار فلأنه قد أدان ضعفه الخاص فإن ذلك أدى إلى تبريره، لأنه مكتوب ” أعلن خطاياك أولاً لكي ما تتبرر” (إش43: 26س)، لذلك فلنفك أولئك الذين يعانون من الأمراض ونطلقهم أحرارًا ولا ندينهم، وذلك لكي ما يحِلنا الله من خطايانا، لأنه هو لا يدين بل بالحرى يُظهر رحمة.

 

          والرحمة لها اتصال وثيق بالفضائل التي تكلمنا عنها الآن، وهي الصفة التي يذكرها بعد ذلك، لأنها أمر ممتاز جدًّا وهي تُسر الله جدًّا، وهي مناسبة جدًّا لأقصى درجة ومناسبة جدًّا بصورة فائقة للنفوس التقية، والتي فيما يخصها يكفينا أن نطبع في أذهاننا أنها صفة من صفات الطبيعة الإلهية. لأنه يقول “كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي أيضًا رحيم”. لقد أعطانا تأكيدًا كاملاً أننا سنكافأ بيد سخية من الله الذي يعطي كل الأشياء بسخاء لأولئك الذين يحبونه، وذلك لأنه يقول “ كيلاً جيدًا ملبدًا فائضًا يعطون في أحضانكم” (لو6: 38)، ويضيف أيضًا ” لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكال لكم“. ولكن هناك تناقض ظاهر بين الإعلانين، لأنه إن كنا سننال كيلاً جيدًا وملبدًا وفائضًا، فكيف سيُكال لنا بنفس الكيل الذي نكيل به؟ لأن هذا يتضمن مكافأة مساوية لنا وليست مكافأة فائضة جدًّا فوق كل المقاييس. فماذا نقول إذًا؟ إن بولس الكلِّي الحكمة قد حررنا من هذه الصعوبات بأن قدم لنا حلاً لهذه الأمور، لأنه يقول إن ” مَنْ يزرع بالشح” وهو يعني بذلك من يوزع حاجات الحياة الضرورية على أولئك الذين هم في ضيق وعوز بقِلة وكما لو كان بيد مغلقة وليس بسخاء واتساع، ” فبالشح أيضًا يحصد، والذي يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد” (2كو9: 6). وهو يعني بذلك أنه يُعطَى بسخاء، حتى أنه إذا كان أحد ليس له ما يعطيه فإنه لم يخطئ بعدم عطائه، لأن الإنسان يكون مقبولاً بحسب ما له وليس بحسب ما ليس له. وهذا ما علَّمنا إياه ناموس موسى الحكيم جدًّا بالرمز، لأن أولئك الذين كانوا تحت الناموس كانوا يقدمون الذبائح لله بحسب ما يملكون وبحسب ما يستطيعون أن يحتملوا، فالبعض مثلاً يقدمون العجول والبعض يقدمون الكباش، أو الخراف، أو اليمام أو الحمام، أو الدقيق المخلوط بالزيت، ولكن حتى ذلك الذي يقدم هذا (الدقيق) … لأنه ليس له عجل ليقدمه، ورغم أن هذا قليل جدًّا ويمكن الحصول عليه بثمن رخيص جدًّا، فإنه يكون مساويًا للآخر (أي الذي قدم العجل) فيما يخص نيَّته.

 

الرحمة ومحبة الأعداء وعدم الإدانة

(لو6: 24) ” وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ “.

          هذا أيضًا يجب أن نبحثه فيما بين أنفسنا، لأنه هل كل مَن هو غني، ويملك ثروة وفيرة هو بالتأكيد مقطوع الرجاء من جهة توقُّع نعمة الله؟ هل هو مُغلق عليه تمامًا من جهة رجاء القديسين؟ وهل ليس له ميراث ولا نصيب مع الذين يُكلَّلون؟ نقول ليس الأمر هكذا، بل بالحرى على العكس، إن الرجل الغني لو أظهر رحمة على لعازر لصار مشتركًا في عزائه، لأن المخلِّص أوضح طريقًا للخلاص لأولئك الذين يملكون الغنى الأرضي، بقوله: ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية “ (لو9:16).

 

(لو6: 27، 28) ” لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، 28 بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ “.

          إن بولس المبارك ينطق بالحق حينما يقول: “ إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17)، لأن كل الأشياء قد صارت جديدة فيه وبواسطته، كل الأشياء أي العهد، والناموس وطريقة الحياة. ولكن انظروا بدقة ولاحظوا كيف أن طريقة الحياة الموصوفة هنا تليق بصورة شاملة بأولئك المعلمين القديسين، الذين كانوا عتيدين أن يكرزوا برسالة الخلاص في كل أركان العالم، ومع ذلك فبسبب هذا الأمر نفسه (أى الكرازة)، ينبغي أن يتوقعوا أن مضطهديهم سيكونون كثيرين وأنهم سيتآمرون ضدهم بطرق مختلفة كثيرة. فلو كانت النتيجة إذًا أن التلاميذ قد صاروا ناقمين على هذه المضايقات وكانوا يرغبون في الانتقام من أولئك الذين أزعجوهم، لكانوا قد ظلُّوا صامتين وعبروا بهم دون أن يقدموا لهم الرسالة الإلهية، ولا أن يدعوهم إلى معرفة الحق. لذلك فقد كان ضروريًّا أن يشد ذهن المعلمين القديسين بإحساس عالٍ من واجب الصبر، لكي يجعلهم يحتملوا كل ما يمكن أن يحل بهم، حتى لو شتمهم الناس، وتآمروا ضدهم بلا مخافة. وهكذا كان سلوك المسيح نفسه قبل كل الآخرين، وذلك كمثال لنا، لأنه بينما كان لا يزال معلقًا على الصليب الثمين، وبينما كان الشعب اليهودي يهزأون به، فإنه قدم لله الآب صلوات من أجلهم قائلاً: ” اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ” (لو23: 34). وأيضًا إستفانوس المبارك بينما كان يُرجم بالحجارة، جثا على ركبتيه قائلاً: ” يا رب لا تُقم لهم هذه الخطية” (أع7: 60). وبولس المبارك أيضًا يقول “ نُشتم فنبارِك، يُفترى علينا فنعظ” (1كو4: 12).

          لذلك فإن تعليم الرب كان ضروريًّا للرسل القديسين، ونافعًا جدًّا لنا نحن أيضًا لكي يلزمنا أن نعيش بطريقة صائبة ومثيرة للإعجاب، لأنها مملوءة من كل حكمة. ولكن أفكارنا المسبقة الخاطئة وتمرد شهواتنا الشديدة، يجعلها أمرًا صعبًا على أذهاننا أن نتممها. لذلك فهو إذ يعرف أن الإنسان النفساني لا يقبل هذه الأمور ويعتبر أن كلام الروح جهالة وغير ممكن تحقيقه، فهو يفصل هؤلاء (النفسانيين) عن أولئك الذين يستطيعون أن يسمعوا ويقول: أقول لكم أيها السامعون والمستعدون أن تتمموا كلماتي. لأن مجد الثبات الروحاني يظهر في التجارب والأتعاب، لذلك تمثلوا بالمسيح في هذه الأشياء، ” الذي حينما شُتم لم يكن يَشتم عوضًا. وإذ تألم لم يكن يهدد، بل كان يُسلِّم لمن يقضي بعدل ” (1بط2: 23). ولكن ربما ستعترضون قائلين في داخلكم، “المسيح هو الله أما أنا فإنسان ضعيف وليس لي إلاَّ عقل ضعيف وغير قادر أن يقاوم هجمات الشهوة والألم”. إنك تتكلم بصواب لأن عقل الإنسان ينزلق بسهولة إلى الخطأ، ومع ذلك أقول إن الرب لم يتركك محرومًا من رحمته ومحبته. فأنت حاصل عليه في داخلك بواسطة الروح القدس، لأننا نحن مسكنه، وهو يسكن في نفوس أولئك الذين يحبونه. إنه يعطيك قوة لكي تحتمل بنبل كل ما يحل بك، وأن تقاوم برجولة هجمات التجارب. لذلك “ لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير” (رو12: 21).

 

(لو6: 29، 30) ” مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا. وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ

          إن المسيح هو غاية الناموس والأنبياء هذا أمر أعلنه بولس الحكيم جدًّا في (رو10: 4)، لأن الناموس خدم كمؤدِّب لكي يقود الناس إلى سر المسيح. وكما يقول بولس المبارك أيضًا “ ولكن الآن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدِّب” (غل3: 25)، لأننا لم نعد أطفالاً في أذهاننا، بل بالعكس قد نمونا “ إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح” (أف4: 12). لذلك فنحن لا نحتاج إلى لبن، بل بالحرى إلى طعام قوي حسب ما ينعم المسيح، بأن يضع أمامنا ذلك الطريق الذي يفوق قوة الناموس، لأنه هو نفسه قال للرسل القديسين ” الحق أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين فلن تدخلوا ملكوت السموات” (مت5: 20). فهذا إذًا ما هو ضروري أن نناقشه، ماذا يعني ” يزيد بركم على” فيما يخص البر بحسب رسالة الإنجيل المخلِّصة.

 

          الناموس المعطى لأولئك الذين في القديم بواسطة موسى حدَّد العين بالعين والسن بالسن، وبينما منع فعل الشر، فإنه لم يوصِ الذين يؤذون أن يحتملوا الأذى بصبر كما أوصى الإنجيل. لأنه يقول “ لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور ” (خر20: 15)، ويضيف أيضًا إلى هذا “عين بعين، ويد بيد، ورجل برجل، وجرح بجرح، ورض برض” (خر21: 24، 25). مثل هذه الوصية تستلزم من الإنسان ألا يجرح الآخرين، وإذ تفترض أنه قد جُرح فإن غضبه من الذي جَرَحَه لا ينبغي أن يمتد أكثر من رد مماثل، ولكن المعنى العام لطريقة الحياة الناموسية لم تكن مرضية لله، لقد أُعطِيَت هذه الطريقة للقدماء كمؤدب لكي تُعوِّدهم قليلاً قليلاً على بر مناسب، وتقودهم بلطف إلى امتلاك الصلاح الكامل، لأنه مكتوب ” أن تفعل البر هو بداية الطريق الصالح” (أم16: 5)، ولكن في النهاية فإن كل كمال هو في المسيح وفي تعاليمه. لأن عنده ” من ضربك على خدك فاعرض له الآخر“. وفي هذا يشير لنا عن الطريق المؤدي إلى أعلى درجة من الصبر. وإلى جانب ذلك فهو يريد ألا نعطي اهتمامًا للغنى حتى أنه إن كان لابسًا ثوب واحد فإنه لا ينبغي أن يحسبه شيئًا غير محتمل أن يعطى معه رداءه أيضًا لو احتاج الأمر إلى ذلك. ولكن هذه فضيلة ممكنة فقط لعقل تحوَّل تمامًا عن الاشتهاء والطمع، لأنه يقول ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه، بل أعط كل من سألك. وهذا برهان بالحق على المحبة والاستعداد لأن تكون فقيرًا. والإنسان الرحيم ينبغي بالضرورة أن يكون مستعدًّا أن يغفر، لكي يُظهِر أعمال محبة حتى لأعدائه.

 

(لو6: 31) ” وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا

          قد كان محتملاً أن يفكِّر الرسل القديسون أن هذه الأشياء يصعب وضعها موضع التنفيذ، لذلك فإن ذاك الذي يعرف كل الأشياء يتخذ القانون الطبيعي لحب النفس كحكم لما يريد أي واحد أن يحصل عليه مِن الآخر. فهو يقول اعمل مع الآخرين ما ترغب أن يعمله الآخرون معك. فإن رغبتَ أن يكونوا خشنين، وبلا شعور وغضوبين ومنتقمين، ومتخذين موقفًا معاديًا فأظهر نفسك هكذا أيضًا. ولكن على العكس إن رغبت أن يكونوا شفوقين وصفوحين فلا تظن أنه شيء لا يطاق أن تكون أنت كذلك. وفي حالة أولئك الذين يكون موقفهم هكذا فلا حاجة هناك إلى الناموس، لأن الله يكتب في قلوبهم معرفة مشيئته. إذ يقول الرب “ لأني في تلك الأيام سأجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم” (إر31: 32).

 

(لو 6: 36) ” فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ “.

          عظيم هو مجد الرحمة، ولذلك فحق هو ما كُتِب أن ” الإنسان له قيمة عظيمة، والإنسان الرحيم هو مُكرَّم جدًا” (أم20: 6س)، لأن الفضيلة تردّنا إلى صورة الله، وتطبع على نفوسنا صفات معيَّنة كما لو كانت من الطبيعة السامية جدًّا.

 

(لو 6: 37) “وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ

          الرب ينزع من أذهاننا شهوة قوية جدًّا وهي أصل ووالدة الكبرياء. فبينما هو واجب على الناس أن يفحصوا أنفسهم ويرتبوا سلوكهم حسب مشيئة الله، إلاّ أنهم يتركون هذا الأمر جانبًا ويشغلون أنفسهم بأمور الآخرين. وهم إذ ينسون ضعفاتهم الشخصية، فإنهم إذا رأوا ضعفًا في الآخرين يجعلونه مبررًا لتصيُّد الأخطاء ووسيلة لتشويه السمعة. فهم يدينون الآخرين، غير عالمين أنهم لكونهم مصابين بنفس الضعفات بالتساوي مثل أولئك الذين ينتقدونهم، فإنهم يدينون أنفسهم، لأنه هكذا أيضًا يكتب بولس الحكيم جدًّا: “لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها” (رو2: 1). بل إنه من واجبنا بالحرى أن يكون لنا رحمة على الضعفاء، مثل أولئك الذين انغلبوا من هجمات الشهوات واصطيدوا داخل شباك الخطية، وأن نصلي لأجلهم ونعظهم، ونقيمهم إلى التعقل ونسعى نحن أنفسنا ألا نسقط في أخطاء مماثلة، لأن ” من يدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس” (يع4: 11)، كما يقول تلميذ المسيح، لأن واضع الناموس والديان هو واحد. لأن من يدين النفس الخاطئة ينبغي أن يكون أعلى من تلك النفس. ولكن حيث إنك لست كذلك، فإن الخاطئ سيعترض عليك في إدانتك قائلاً: ” لماذا تدين أخاك“. ولكن إن كنت تتجاسر وتدينه دون أن يكون لك سلطان على ذلك، فإنك أنت بالحري الذي سوف تدان، لأن الناموس لا يسمح لك أن تدين الآخرين. 

          لذلك فإن من ينقاد بإحساس صالح، لا ينظر إلى خطايا الآخرين، ولا يشغل نفسه بأخطاء قريبه، بل بالحري يفحص بدقة عن أخطائه الشخصية. هكذا كان المرنم المبارك ساقطًا بوجهه أمام الله ويقول بخصوص خطاياه “ إن كنت تراقب الآثام يا سيد فمن يحتمل؟” (مز129: 3س)، ومرة أخرى إذ يقدِّم ضعف الطبيعة البشرية كعذر فإنه يتوسل من أجل غفران معقول قائلاً: ” اذكر أننا تراب نحن” (مز102: 14س).

 

(لو6: 39، 40) ” وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً: هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ الاثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟ لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَارَ كَامِلاً يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ “.

          هذا مَثَل أضافه كملحق ضروري جدًّا لِمَا سبق أن قيل. إن التلاميذ المباركين كانوا على وشك أن يصيروا مُتلمِذي ومُعلِّمي العالم، لذلك كان ضروريًّا لهم أن يبرهنوا أنهم يملكون كل شيء ضروري للتقوى، فينبغي أن يعرفوا طريق ومثال الحياة الإنجيلية وأن يكونوا عُمَّالاً مستعدين لكل عمل صالح، وقادرين أن يمنحوا السامعين المتعلمين تعليمًا صحيحًا ومخلصًا يُمثِّل الحق بدقة. هذا ينبغي أن يفعلوه باعتبارهم قد حصلوا أولاً على بصيرة، وعلى عقل مستنير بالنور الإلهي لئلا يصيروا قادة عميان للعميان، لأن الرجال الغارقين في ظلمة الجهل لا يستطيعون أن يقودوا أولئك الذين هم مصابون بنفس الطريقة إلى معرفة الحق، لأنهم إن حاولوا ذلك فإنهم سيسقطون كلهم إلى حفرة الفسق.

          وبعد ذلك إذ يلقى جانبًا شهوة الافتخار المتبجحة التي ينغلب منها معظم الناس، فلكي لا يسعوا بتنافس أن يتفوَّقوا على معلميهم في الكرامة أضاف: ” ليس التلميذ أفضل من معلمه“، حتى وإن كان البعض يتقدمون كثيرًا حتى أنهم يصلون إلى فضيلة تعادل فضيلة معلميهم، فإنهم لن يحسبوا أنفسهم أعلى من مستوى معلميهم، بل يكونون متمثلين بهم. وبولس سيكون أيضًا ضامنًا لنا بقوله “ كونوا متمثلين بي كما أيضًا أنا بالمسيح” (1كو11: 1)، ولذلك حيث إن المعلم لا يدين، فلماذا تدين أنت؟ لأنه جاء لا ليدين العالم، بل ليقدِّم رحمة، وبحسب الشرح السابق فإنه يقول إن كنتُ أنا لا أدين، فلا ينبغي لكَ أنتَ التلميذ أن تدين، ولكن إن كنتَ مذنبًا بجرائم أردأ من التي تدين بها الآخر، فكيف تستطيع أن تحفظ نفسك من العار حينما توبِّخ عليها؟ وهذا ما يوضِّحه الرب بمَثَل آخر.

 

[1] تطويب الفقر، وتطويب الجوع، وتطويب البكاء.

 

الويلات – إنجيل لوقا 6 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

Exit mobile version