التطويبات – إنجيل لوقا 6 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
وكيف كان الحكيم بولس مِثل المسيح؟ هل هو أسَّس السموات (مز33: 6)، مثلما فعل كلمة الله؟ هل هو ثبَّت الأرض فوق أساساتها الراسخة؟ هل هو خلق الشمس والقمر والنجوم، والنور؟ كيف إذًا كان هو مثله؟ لقد كان (مثله) بتمثله بتلك الفضيلة البشرية التي أظهرها المسيح كمثال لنا.
(لو6: 17ـ 19) ” وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْل، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، الَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ، وَالْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. وَكُلُّ الْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ، لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي الْجَمِيعَ “.
ولكن أرجو أن تلاحظوا طريقة الاختيار، لأن الإنجيلي الحكيم جدًّا يقول إن الاختيار لم يتم في زاوية أو سرًّا، بل بالحري حينما اجتمع تلاميذ كثيرون معًا، وجمهور كبير من كل بلاد اليهود، ومن ساحل صور وصيدا، وهاتان المدينتان الأخيرتان كانتا عابدتين للأوثان أي كانتا عرجاء الساقين لأنهما كانتا من ناحية تحافظان على عادات اليهود، ولكن دون أن تتركا ممارساتهما الوثنية. إذًا فالاختيار قد حدث في حضور كل هؤلاء الناظرين. إنهم اختيروا معلِّمين لكل الذين تحت السماء، وهذه هي الرسالة التي تمموها، عندما دعوا اليهود أن يأتوا من عبادتهم الناموسية، كما دعوا أولئك الذين يخدمون الشياطين أن يأتوا من الضلال الوثني إلى الإيمان بالحق.
وحينما قام الرب بتعيين وإقامة الرسل القديسين، صنع آيات كثيرة وعجيبة، فطرد الشياطين، وخلص الذين اقتربوا منه من الأمراض غير القابلة للشفاء، وأظهر قوته الخاصة الإلهية، حتى يعرف كلاً من اليهود الذين أسرعوا إليه معًا وأولئك الذين من بلاد الوثنيين أن المسيح الذي نال التلاميذ منه كرامة الرسولية، لم يكن إنسانًا عاديًّا من الذين في مستوانا، بل بالعكس هو الله، لكونه الكلمة الذي صار جسدًا، ومع ذلك فقد احتفظ بمجده الخاص. لأن ” قوة كانت تخرج منه وتشفى الجميع“، لأن المسيح لم يستعر قوة من شخص آخر غيره، بل لكونه هو نفسه الله بالطبيعة، رغم أنه صار جسدًا فقد شفاهم جميعًا بخروج قوة منه إلى المرضى.
فإذا أردتم أن تتعلموا تفسير أسماء الرسل، فاعرفوا أن بطرس تُشرح على أنها تعني الحل أي الفك، أو المعرفة؛ وأندراوس تعني قوة مناسبة أو إجابة، ويعقوب هو الذي يمسك بالعقب، ويوحنا يعني نعمة الرب، ومتى هو المعطَى (أي الذي ينال)، وفيلبس هو فتح اليدين أو فم المصباح، وبرثلماوس تعني الابن الذي يمسك بالماء، وتوما تعني حفرة أو توأم، ويعقوب بن حلفى تعني استئصال عبور الحياة، ويهوذا تعني التسبيح، وسمعان تعني الطاعة.
(لو6: 20) ” وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ“.
هذه هي كلمات المخلص حينما كان يوجِّه تلاميذه إلى جدَّة حياة الإنجيل بعد أن اختارهم للرسولية. ولكننا يجب أن نعرف من هم المساكين الذين يتكلم لهم بمثل هذه الأمور العظيمة، لأنه في الإنجيل حسب متى مكتوب هكذا: ” طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات” (مت5: 3). وهو يريدنا بهذا أن نفهم بكلمة المسكين بالروح أنه هو الإنسان الذي يفكر أفكارًا منخفضة عن نفسه، وعقله منخفض بوضوح، وقلبه لطيف، ومستعد للطاعة والخضوع، وهو بريء كلية من إثم الكبرياء.
مثل هذا الإنسان هو جدير بالإعجاب وهو صديق لله حتى إن الله قال بواسطة أحد أنبيائه القديسين: ” إلى من أنظر إلاَّ إلى المتضع والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي؟” (إش66: 2). وداود النبي أيضًا يقول ” إن المنسحق والمتواضع القلب لا يرذله الله” (مز51: 17) والمخلِّص نفسه أيضًا يقول: ” تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت11: 29). وفي الدروس الموضوعة أمامنا الآن يقول إن المساكين سيكونون مغبوطين بدون أن يضيف كلمة “بالروح”، ولكن البشيرين يتكلمون بهذه الطريقة لا كمتناقضين أحدهم مع الآخر، بل كما لو كانوا في أحيان كثيرة يقسمون الرواية بينهم. فمرة يلخصون، نفس التفاصيل، وفي مرة أخرى فإن ما يهمله أحدهم يذكره الآخر في روايته، حتى لا يخفي أي شيء نافع عن أولئك الذين يؤمنون بالمسيح. لذلك فإنه يبدو محتملاً أن المقصود بالمساكين الذين يطوِّبهم هم أولئك الذين لا يهتمون بالغنى، وهم مرتفعون فوق الطمع ويحتقرون الهدايا الوضيعة، وهم متحررون من محبة المال، وهم لا يعطون أي اعتبار لمظاهر التفاخر بالغنى.
وهكذا فإن بولس الحكيم جدًّا يرشدنا بوضوح إلى أفضل التعاليم حيث يقول، ” لتكن سيرتكم خالية من محبة المال، كونوا مكتفين بما عندكم” (عب13: 5)، وأضاف إلى هذا قوله: ” فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما” (1تي6: 8)، لأنه كان ضروريًّا بصورة مطلقة، لأولئك الذين سيكون عملهم هو الكرازة برسالة الإنجيل الخلاصية أن يكون لهم عقل لا يبالي بالغنى، بل ويكون منشغلاً فقط بشهوة الأمور الفضلى. وبالإضافة إلى ذلك فإن الحديث لا يؤثِّر على أولئك الذين لهم موارد كثيرة، بل فقط على أولئك الذين شهوتهم في الغنى، ومن هم هؤلاء؟ هم كل الذين تنطبق عليهم كلمات المخلص: ” لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” (مت6: 19).
(لو6: 21) ” طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ َ“.
في إنجيل متى يقول: ” طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم سيشبعون” أما هنا فهو يقول فقط إن الجياع سيشبعون، لذلك فنحن نقول إنه أمر عظيم وسامي جدًّا أن نجوع ونعطش إلى البر، أي أن نعتاد أن نشترك في المساعي الجادة نحو التقوى، لأن هذا هو معنى البر، كما لو كان هو طعامنا وشرابنا. وبمقدار ما يجب أن نعطي لهذه الفقرة أيضًا معنى، بحسب الشروحات السابقة فنحن نقول أيضًا هكذا: إن المخلص نطق بالطوبي لأولئك الذين يحبون الفقر الاختياري، لكي يمكنهم بكرامة وبدون تشتت أن يمارسوا سيرة الحياة الرسولية. لأن هذا يتطابق بوضوح مع عدم اقتناء ذهب ولا فضة في مناطقهم، ولا ثوبين، وأيضًا أن يحتملوا خشونة كبيرة في طريقة حياتهم، ونادرًا ما يحصلوا على الطعام لحاجتهم، ولكن هذا أمر ثقيل على أولئك الذين يعانون الفقر والاضطهادات، لذلك فإن ذلك الذي يعرف القلوب لا يسمح لنا أن نفقد روحنا المعنوية بسبب نتائج الفقر، ولأنه يقول إن أولئك الذين يجوعون الآن لأجل تقواهم من نحوه، سوف يشبعون أي سوف يتمتعون بالبركات العقلية والروحية المذخرة لهم.
(لو6: 21) “ طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ “.
إنه ينطق بالطوبى للباكين، ويقول إنهم سيضحكون، ولكننا نقول إن المقصود بالباكين ليس مجرد الذين يذرفون الدموع من عيونهم، لأن هذا أمر عام للجميع بلا استثناء سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين وهو يحدث من طبيعة متألمة. بل المقصود بالحرى هم أولئك الذين ينأون بأنفسهم عن حياة الملاهي والغرور واللذات الجسدية.
فعن الأولين نقول إنهم يعيشون في تمتع وضحك أما المؤمنون فيتخلون عن الترف ويتركون حياة الإهمال واللذات الجسدية وكل شيء آخر سوى البكاء. وبسبب مقتهم للأمور العالمية فإن مخلصنا يعلن أنهم مغبوطون، ولهذا السبب فقد أوصانا أن نختار الفقر، وهو يكرم الأمور التي تصاحب الفقر بالضرورة، مِثل نقص الأشياء الضرورية للتمتع، واتضاع الأرواح الذي تُسبِّبه البلايا، فإنَّه مكتوب “ كثيرة هي بلايا الصديقين، ومن جميعها ينجيهم الرب” (مز33: 19س).
(لو6: 22، 23) ” طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ. اِفْرَحُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا، فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ “.
يسبق الرب فيذكر الاضطهاد حتى قبل أن يذهب الرسل إلى إرساليتهم. لقد سبق الإنجيل وأنبأ بما سيحدث. لأنه كان متوقعًا تمامًا أن أولئك الذين كرزوا برسالة الإنجيل، وجعلوا يهجرون طريقة عبادتهم الناموسية ليتعلموا طريق الإنجيل للحياة الفاضلة، بينما هم أيضًا يربحون عابدي الأوثان إلى الاعتراف بالحق، كان متوقعًا أن هؤلاء يحتكُّون بكثير من الكفار والأشرار، لأن مثل هؤلاء هم الذين في عداوتهم ضد التقوى، يثيرون حروبًا واضطهادات ضد الذين يُبشرون بيسوع، ولكي يحفظ تلاميذه من السقوط، في محنة شديدة تفوق العقل حينما يأتي الوقت الذي فيه تهجم عليهم هذه المصائب من جهة أو أخرى، فإنه يسبق وينبههم لأجل منفعتهم، أنه حتى هجوم الأشياء المحزنة التي يصعب احتمالها سوف تأتي معها بمكافأتها وفائدتها لهم، فكأنه يقول: ” لأنهم سيعيرونكم كمخادعين وكمضللين، وسوف يفرزونكم من وسطهم وحتى من صداقتهم ومجتمعهم“. ولكن لا تدعوا أي شيء من هذه الأشياء يزعجكم، كأنه يقول: لأنه أي أذى يمكن أن يلحقه اللسان الشرير بالعقل المثبت الراسخ، لأنه يقول إن احتمال معاناة هذه الأشياء لن يكون بدون ثمرة، لأولئك الذين يعرفون كيف يحتملون بتقوى، ولكن هذا هو عربون السعادة العليا. وبالإضافة إلى ذلك يقول لهم لفائدتهم، إنه لن يحدث لهم شيء غريب حتى حينما يعانون من هذه الأشياء، بل العكس فإنهم سوف يشبهون أولئك الذين قبلهم كانوا حاملي كلمات الله إلى الإسرائيليين، والذين اضطُهِدوا، ونُشِروا، وماتوا قتلى بالسيف، واحتملوا التعييرات الواقعة عليهم ظلمًا ـ ولذلك فهو يريد أيضًا أن يفهم تلاميذه أنهم سيصيرون شركاء مع أولئك الذين يتمثلون بأعمالهم، وأنهم لن يفشلوا في ربح إكليل الأنبياء بعد أن ساروا مثلهم في نفس الطريق.