تذمر الكتبة والفريسيون – إنجيل لوقا 5 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
تذمر الكتبة والفريسيون - إنجيل لوقا 5 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
تذمر الكتبة والفريسيون – إنجيل لوقا 5 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
” أم كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوى وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً، وحينئذ ينهب بيته؟” (مت12: 29)، فالمقصود ببيت القوي أي الشيطان هو بلدته على الأرض، أما أمتعته فهي أولئك الذين يفكرون مثله، فإنه كما أننا ندعو القديسين أواني مقدسة، هكذا فليس هناك ما يمنع أن تُسميِّ أولئك الذين يرتكبون كل الشرور (بأواني الشيطان أو أمتعته)، لذلك فكلمة الله الوحيد دخل عند تجسده إلى بيت القوي، أي إلى هذا العالم، وهكذا نهب أمتعته.
ولاوي خلص حقًّا، وتوبة لاوي توحي لنا نحن برجاء سعيد لأننا من هذه الحقيقة نتعلم أن التوبة تخلِّص، نعم وأكثر من ذلك، فإن الله نفسه الذي هو رب الكل سيكون ضمانتنَا الأكيدة، حيث يقول بصوت النبي “التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض” (إش45: 22).
أي واحد منكم له مئة خروف وضل واحد منها، أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال؟ وإن اتَّفق أن يجده فالحق أقول لكم إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل. لأن جمهور الكائنات العاقلة التي تشكِّل قطيع المسيح في السماء وعلى الأرض، هذا الجمهور لا يعد، وهو عظيم جدًّا حتى أنه يصل إلى عدد كامل. لأن هذا ما يشير إليه بتعبير مئة فجموع الملائكة القديسين هم التسعة والتسعين، لأني كما قلت هم كثيرون، أما القطيع على الأرض فهو واحد، ولكن من النافع أن يكمل العدد، ولذلك يبحث عنه المسيح. فهل بحث عنه إذًا كمن كان ضالاً، أم أنه لم يكن قد وصل إلى هذا؟ ولكن من الواضح أن ما يبحث عنه هو الذي ضل. بأي طريقة إذًا قد ضل وفُقِدَ؟ بسقوطه في الخطية، وبابتعاده عن المشيئة الإلهية وضلاله عن الراعي الشامل.
ولكن كل هذه الأشياء لم تؤثر في الفريسيين، بل بالعكس فإنهم يلومون التلاميذ، فاسمع المكتوب:
(لو5: 30ـ31) ” فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟ فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى “.
هناك بعض الناس[1] يحاولون أن يحرموا الخطاة من الرحمة الإلهية، لأنهم لا يسمحون بالتوبة، وكأنهم يوبِّخون المخلِّص لبحثه عن خاصته، وسعيه أن يجمعهم من كل ناحية تشتَّتوا فيها. ولهؤلاء نقول: إن الفريسيين يُقدِّمون لكم مثال التذمر حينما رأوا لاوي يُدعى من الرب وجمهور من العشارين مجتمعين معًا في وليمة مع المسيح مخلِّصنا جميعًا، فتوجهوا إلى الرسل القديسين يلومونهم قائلين: لماذا تأكلون وتشربون مع العشارين؟ ولكنهم تلقوا الجواب: ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب“، لأن مخلِّص الكل، لكونه طبيب الأرواح، فإنه لا يتخلى عن أولئك الذين هم في حاجة إليه، بل لأنه يستطيع أن يُطهِّرهم، فإنه يقصد أن يتحدث مع أولئك الذين لم يتطهَّروا بعد من خطاياهم. ولكن دعنا نرى أيها الفريسي، كبرياءك المفرط، فدعنا نتَّخذ المسيح نفسه، الذي كل الأشياء مكشوفة أمامه، نتَّخذه كشارح وموضح للَّوم الكبير الذي تجلبه على نفسك بمعاملتك المتغطرسة للخطاة. فقد تحدث السيد عن فريسي يتباهى بنفسه وهو يصلي وعن عشَّار يدين نفسه. فقال الرب: ” الحق أقول لك أن هذا (أي العشَّار) نزل إلى بيته مبررًا أكثر من ذلك الفريسي“. لذلك فالعشَّار الذي اعترف بخطيته تبرر أفضل من الفريسي المتعالي.
ولكن لأي سبب يلوم الفريسيون المخلّص لأكله مع الخطاة؟ هم يلومونه بسبب أن الناموس يفصل بين ما هو مقدَّس وما هو نجس، أي أن كل شيء مقدس لا ينبغي أن يتصل بالأشياء النجسة، فقد وجهوا الإتهام على اعتبار أنهم يدافعون عن الناموس. ولكن في الحقيقة كان عندهم حسد للرب وكانوا يتصيَّدون له الأخطاء. ولكنه يبين لهم أنه في حضوره الآن في العالم لم يأت كقاضٍ بل كطبيب، ويعمل ما يجب على الطبيب أن يقوم به، بأن يختلط بأولئك الذين هم في حاجة إلى الشفاء. ولكنهم بمجرد أن سمعوا ردًّا وتوضيحًا على اتهامهم الأول، قدموا اتهامًا آخر بسبب أن تلاميذ الرب لم يكونوا يصومون قاصدين أن يجدوا فرصة ضدهم.
(لو5: 33) ” وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيرًا وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذلِكَ تَلاَمِيذُ الْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضًا، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟“.
ولكن انظروا استمرارهم في الخبث، فبعد أن رد الرب على اتهامهم الأول، فإنَّهم غيَّروا الحديث إلى موضوع آخر راغبين أن يجدوا فرصة لاتهام التلاميذ القديسين، بل ويسوع نفسه بإهمال الناموس. ولكنه يجيبهم بأنه يوجد هنا الآن عرس، فهو زمان الدعوة، زمان الكرازة، والأطفال تتم تربيتهم، وأولئك الذين تتم دعوتهم يتغذون باللبن، فالصوم ليس مناسبًا لهم. وهم يقولون، نعم أنتم تأكلون مع العشارين والخطاة، رغم أن الناموس يأمر أن الطاهر لا ينبغي أن يتصل بالنجس، وحجَّتك في تعدي الناموس هي محبتك للبشر، ويقولون لماذا لا تصومون حسب عادة الأبرار وأولئك الذين يرغبون أن يعيشوا حسب الناموس؟ وجوابًا على مثل هذه الاعتراضات يمكن أن نقول، أيها اليهودي هل أنت تفهم وتعرف الطريقة السليمة للصوم؟ لأنه كما يقول إشعياء النبي: “ في أيام صومكم توجدون مشيئتكم الخاصة، وبكل أشغالكم تسخرون، ها أنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر، لماذا تصومون لي؟ ليس هذا هو الصوم الذي أختاره يقول الرب” (إش58: 3ـ5 س). فإن كنتم أنتم أنفسكم لا تعرفون كيف تصومون، فلماذا تلومون الرسل القديسين على عدم صومهم حسب طريقتكم؟
ولننظر الموضوع في ضوء آخر، وذلك في حالة أولئك الذين صاروا حكماء بواسطة العهد الجديد في المسيح، فهؤلاء يصومون بحكمة، أي بتذليل أنفسهم أمام عيني الله، وبأن يضعوا على أنفسهم تعبًا إراديًا وصومًا عن الطعام، وذلك لكي يتمموا التوبة عن خطاياهم، أو لكي يربحوا موهبة روحية جديدة، أو حتى لكي يميتوا ناموس الخطية الذي في أعضائهم الجسدية.
ولكن هذا النوع من الصوم تجهله أنت أيها الفريسي! لأنك قد رفضت أن تقبل العريس السماوي الذي هو غارس ومعلِّم كل فضيلة، أي المسيح. وأيضًا فإن القديسين يصومون لكي يخضعوا شهوات الجسد بإرهاقه. أما المسيح فلم يكن محتاجًا أن يصوم لكي يكمل الفضيلة، لأنه كإله كان حرًّا من كل شهوة، ورفاقه لأنهم نالوا من نعمته صاروا أقوياء وأكملوا الفضيلة حتى بدون صوم. ورغم أنه صام أربعين يومًا فهو لم يفعل هذا ليميت أي شهوات في نفسه، بل ليضع مثالاً للبشر في سلوكه بقانون الصوم والإمساك، لذلك فهو يدافع عن نفسه حسنًا بالكلمات التي يسجلها البشير بعد ذلك.
(لو 5: 34) ” فَقَالَ لَهُمْ: أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي الْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ “.
أرجو أن تلاحظوا الطريقة التي بها يوضح المسيح أنهم لم يكن لهم أي اشتراك في الفرح والعيد، بل هم غرباء تمامًا عن الشعور بأي فرح من جهته وليس لهم شركة في عيد العالم العظيم. لأن ظهور مخلصنا للعالم لم يكن شيئًا أقل من عيد شامل قد وحَّد فيه نفسه روحيًّا مع طبيعة الإنسان، لكي تكون كأنها عروس له، لكي بعد أن كانت عقيمة لمدة طويلة تصير مثمرة، ومُباركة بأولاد كثيرين. لذلك فالجميع هم أبناء العرس الذين دعاهم برسالة الإنجيل الجديدة. أما الكتبة والفريسيون فلم يكونوا من بني العرس لأنهم ربطوا أنفسهم فقط بظل الناموس وحده. ولكن كما أنه أَذَن مرة لأبناء العرس أن يتعبوا أنفسهم بالصوم كامتياز مناسب للوقت لأنهم كانوا يحتفلون بعيد روحاني، فإنه لكي لا يكون الصوم مرفوضًا كلية عندنا فإنه يضيف كلامًا مناسبًا جدًّا قائلاً:
(لو5: 35) ” وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ “.
لأن الأشياء تكون صالحة في وقتها المناسب. ولكن ما معنى أن يُرفع العريس عنهم؟ المقصود هو ارتفاعه إلى السماء.
(لو5: 36، 37) “ وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا مَثَلاً:لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق. وَإِلاَّ فَالْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَالْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ الرُّقْعَةُ الَّتِي مِنَ الْجَدِيدِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ “.
الأشياء التي يؤسِّسها المسيح لا يستطيع أن يقبلها أولئك الذين يعيشون حسب الناموس ولا تدخل في قلوب من لم ينالوا التجديد بعد بواسطة الروح القدس، وهذا يوضحه الرب بقوله “إن رقعة جديدة لا يمكن أن توضع على ثوب عتيق، ولا تستطيع الزقاق القديمة أن تحتمل الخمر الجديد”. لأن العهد الأول قد شاخ، وهو لم يكن بلا عيب، لذلك فأولئك الذين يتمسكون به ويمسكون بالوصية التي عتقت ليس لهم نصيب في عهد المسيح الجديد. ” لأنه فيه (المسيح) كل الأشياء صارت جديدة” (2كو5: 17).
ولكن عقلهم إذ قد فسد فليس لهم أي انسجام ولا أي نقطة اتفاق مع خدام العهد الجديد، وإله الكل يقول في موضع ما بواسطة أحد الأنبياء القديسين: ” وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم” (حز36: 26).
وداود أيضًا يرنِّم ” قلبًا نقيًا أخلق فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدِّد في داخلي” (مز50: 10 س).
ونحن قد أُمِرنا أن نخلع الإنسان العتيق، وأن نلبس الإنسان الجديد الذي يتجدد حسب صورة خالقه (انظر كو3: 9). وبولس أيضًا يعطي نصيحة قائلاً: ” لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة” (رو12: 2). لذلك فأولئك الذين لم ينالوا تجديد الروح بعد، لا يستطيعون أن يختبروا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة.
“ وليس أحد يجعل خمرًا جديدة في زقاق عتيقة“.
إذًا فقلب اليهود هو زقاق عتيق، ولذلك لا يستطيع أن يحفظ الخمر الجديدة التي هي وصية الإنجيل المخلّصة ” التي تُفرح قلب الإنسان“. ولكن المسيح قد ملأنا بهذه البركات العظيمة بمنحه إيانا مواهب روحية بسخاء، وقد فتح لنا الطريق واسعًا إلى كل فضيلة.
[1] غالباً يقصد بدعة النوفاتيين الذين كانوا ينكرون التوبة للخطاة بعد المعمودية.