صوم المسيح والتجربة – عظة 12 ج1 – إنجيل لوقا 4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
صوم المسيح وتجربته في البرية
(لو4: 1ـ2) ” أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا“.
حينما يتكلم الأنبياء المباركون عن كلمة الله الوحيد، الذي هو مساوٍ لله في المجد، وشريك عرشه، الذي يضئ معه بمساواة كاملة، فإنهم أي الأنبياء يقودوننا إلى الاقتناع أنه أُظهر كمخلص ومُحرر لأولئك الذين على الأرض، وذلك بقولهم “ قم يا رب، أعني” (مز44: 26). لذلك قام وأعان، وذلك باتخاذه صورة عبد، إذ قد صار في شبه الناس، فإنه كواحد منا قد أقام نفسه كمنتقم بدلاً منا، منتقم من تلك الحية القاتلة والمتمردة، التي أدخلت الخطية إلينا، وبذلك جعلت الفساد والموت يملكان الأرض. فإننا بواسطته وفيه نحصل على النصرة بينما كنا في القديم مهزومين وساقطين في آدم.
لذلك تعالوا بنا لنُسبح الرب ونرتل مزامير لله مخلصنا، هلموا ندوس الشيطان تحت أقدامنا، لنرفع صوت النصر على الذي هو الآن مطروح وساقط، هيا لنرتفع فوق الزحّاف الخبيث الذي أُمسِكَ في فخ لا فكاك منه، ولنقل عنه نحن أيضًا بكلمات إرميا النبي: “ كيف كسرت مطرقة الأرض كلها وضربت! فقد وُجِدت وأُخِذت، لأنك وقفت ضد الرب” (إر1: 23س). لأنه منذ القدم، أي قبل زمن مجيء المسيح مخلِّص الكل، فإن عدو الجميع كانت له تصورات كبيرة ومخيفة عن نفسه. لأنه كان يفتخر متعظمًا على ضعف سكان الأرض قائلاً: “سأمسك العالم في يدي وكعش وكبيض مهجور آخذه، ولن يهرب أحد مني أو يتكلم ضدي” (إش10: 14س). وفي الحقيقة لم يكن أحد من أولئك الذين على الأرض يستطيع أن يقوم ضد قوته، ولكن الابن قام ضده وتصارع معه إذ قد صار مثلنا، لذلك كما قلت فإن الطبيعة البشرية وهى منتصرة فيه تربح الإكليل. وهذا ما أنبأ به الابن نفسه في الزمن القديم حينما خاطب الشيطان بواسطة أحد الأنبياء القديسين هكذا ” هاأنذا عليك أيها الجبل المُهلك، المهلك كل الأرض” (إر51: 25).
تعالوا إذًا وهيا بنا لنرى ماذا يقول الإنجيل المبارك، حينما كان المسيح ذاهبًا ليحارب لحسابنا ضد ذلك الذي أهلك الأرض كلها: ” أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس“. انظروا هنا، أرجوكم، طبيعة الإنسان ممسوحة بنعمة الروح القدس في المسيح كباكورة، ومُتوَّجة بأعلى الكرامات، لأنه منذ القديم قد وعد إله الكل قائلاً: “ويكون في تلك الأيام أني سأسكب من روحي على كل جسد” (يؤ2: 28). وقد تحقق الوعد لأجلنا في المسيح أولاً. وبينما يقول الله عن أولئك الذين في القديم، الذين استسلموا لشهوة الجسد بلا ضوابط ” لا يسكن روحي في هؤلاء الناس لأنهم جسد” (تك4: 3س)، أما الآن فلأن كل الأشياء قد صارت جديدة في المسيح وقد اغتنينا بالميلاد الجديد الذي بواسطة الماء والروح، فإننا لم نعد أولاد اللحم والدم، بل بالحري ندعو الله أبًا لنا، لذلك إذ صرنا الآن في كرامة بحق، وإذ نمتلك امتياز التبني المجيد، فقد صرنا شركاء الطبيعة الإلهية بواسطة حصولنا على الروح القدس. ولكن الذي هو البكر في وسطنا، حينما صار هكذا بكرًا بين إخوة كثيرين وأعطى نفسه للإخلاء فإنه كان أول من حصل على الروح، رغم أنه هو نفسه معطي الروح، لكي تصل إلينا بواسطته هذه الكرامة ونعمة الشركة مع الروح القدس. والرسول بولس يُعلِّمنا مثل هذا حينما يتحدث عنه وعنا ويقول “ لأن المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد” (عب2: 11، 12)، لهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة قائلاً: ” أخبر باسمك إخوتي“. ولأنه لم يستح بالمرة أن يدعونا إخوة نحن الذين أخذ شكلنا لذلك إذ قد نقل فقرنا إلى نفسه، فإنَّه يتقدس معنا رغم أنه هو نفسه مقدِّس الخليقة كلها، وذلك لكي لا تراه أنت رافضًا لمستوى الطبيعة البشرية، هو الذي رضيَ من أجل خلاص وحياة الكل أن يصير إنسانًا.
لذلك، حينما يقول الإنجيلي الحكيم عنه ” أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح“، فلا تعثروا ولا تخطئوا في أفكاركم الداخلية وتحيدوا عن تعليم الحق، فيما يخص الطريق والكيفية التي بها تقدس الكلمة الذي هو الله، بل بالحرى افهموا حكمة التدبير التي بسببها، هو موضوع إعجابنا، لأنه قد صار جسدًا وأصبح إنسانًا، لا لكي يتحاشى كل ما يخص بحالة الإنسان ويحتقر فقرنا، بل لكي نغتني نحن بما هو له، وذلك بأنه قد صار مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية، لذلك فهو يتقدس كإنسان، ولكنه يُقدِّس كإله، لأنه إذ هو بالطبيعة إله صار إنسانًا. لذلك يقول الإنجيلي ” وكان يُقتاد بالروح في البرية أربعين يومًا يُجرب من إبليس“، فما هو إذًا معنى كلمة يُقتاد؟ إنها لا تعني توصيله إلى هناك، بقدر ما تعني أنه أقام واستمر هناك. لأننا نحن أنفسنا أيضًا اعتدنا أن نقول عن أي واحد يحيا بالتقوى، إن فلانًا أو فلانًا أيًّا كان الشخص إنما يحيا حياة صالحة. ونحن نعطي لقب مُربِّي لا لنشير به بحسب المعنى الحرفي إلى أولئك الذين يقودون الأطفال فعلاً، بل نعني أنهم يعتنون بهم ويدربونهم بطريقة حسنة جديرة بالثناء، مربين إياهم ومعلمينهم أن يسلكوا بطريقة لائقة.
إذًا فهو قد أقام في البرية بالروح، أي روحيًّا، فإنه صام، ولم يمنح أي طعام إطلاقًا لحاجات الجسد، ولكني أتخيل أن البعض قد يعترضون على هذا قائلين:
وما هو الضرر الذي يلحق يسوع من الإقامة الدائمة في المدن؟ وما هو الذي يفيده حتى يختار الإقامة في البرية؟ فليس هناك شيء حسن يحتاج إليه، وأيضًا لماذا هو يصوم؟ وما الذي كان يضطّره أن يتعب وهو الذي لا يعرف أي أحساس بتحرك أي رغبة منحرفة؟ فنحن نمارس الصوم كوسيلة نافعة جدًّا نميت اللَّذات بواسطته ونقاوم ناموس الخطية الذي في أعضائنا، ونقتلع تلك العواطف التي تؤدي إلى الشهوة الجسدية. أما المسيح فأي حاجة له إلى الصوم؟ فهو الذي بواسطته يبيد الآب الخطية في الجسد. وبولس الإلهي إذ عرف هذا كتب: ” لأن الناموس فيما كان عاجزًا عنه بسبب ضعفه بواسطة الجسد فإن الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح” (رو8: 3، 4). لذلك فهو الذي يميت حركات الجسد فينا نحن أنفسنا الكائنات البائسة، وقد أباد الخطية، فأي صوم يمكن أن يحتاجه فيما يخصه هو نفسه؟ إنَّه قدوس وغير مدنَّس بالطبيعة، وهو نقي تمامًا وبلا عيب، وهو لا يمكن أن يحدث له ولا ظل تغيير. فلماذا إذًا جعل إقامته في البرية وصام وجُرِّب؟
يا أحبائي إنَّ المسيح كمثال لنا يهتم بنا، فهو يضع أعماله أمامنا كنموذج لنا، ويؤسس مثالاً للحياة الفضلى والعجيبة التي يمكن أن تُمارَس في وسطنا، وأنا أعني حياة الرهبان القديسين، لأنه منذ متى كان ممكنًا للناس على الأرض أن يعرفوا أن عادة السكن في الصحاري هي نافعة لهم، ومفيدة جدًّا للخلاص؟ لأنهم يعتزلون من أمام الأمواج والعواصف ومن الاضطراب الشديد وارتباكات هذا العالم الباطلة، وهكذا كما لو كانوا مثل يوسف المبارك، فأنهم يتجردون ويتركون للعالم كل ما هو خاص به. وبولس الحكيم يقول شيئًا مثل هذا أيضًا عن أولئك الذين يريدون أن يعيشوا هكذا “ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل5: 24). وهو يُبين لأولئك الذين يختارون هذه الطريقة للحياة أن الإمساك ضروري، الذي ثمرته الصوم وقوة الاحتمال، والإمساك عن الطعام أو أخذ القليل منه. فإنَّه عندئذ حينما يُجرِّب الشيطان فإنه سيُهزم.
لاحظوا هذا بنوع خاص أن الرب اعتمد أولاً وامتلأ من الروح القدس، وبعد ذلك ذهب إلى البرية، ومارس الإمساك أي الصوم كما لو كان سلاحًا له، وهكذا إذ كان مستعدًا فحينما اقترب منه الشيطان انتصر عليه، وبذلك فقد وضع نفسه أمامنا كنموذج لنا.
فأنت، لذلك ينبغي أيضًا أن تلبس أولاً سلاح الله، وترس الإيمان، وخوذة الخلاص. ينبغي أولاً أن تلبس قوة من الأعالي، أي ينبغي أن تصير مشتركًا في الروح القدس بواسطة المعمودية الثمينة، وحينئذ يمكن أن تسلك الحياة المحبوبة والمكرَّمة لدى الله، وحينئذ يمكنك بشجاعة روحية أن تسكن في الصحاري، وحينئذ تحفظ الصوم المقدس وتميت الأهواء وتهزم الشيطان حينما يجربك، لذلك، فإننا في المسيح قد حصلنا على كل الأشياء…
يا للعجب فإنَّه يظهر بين المصارعين وهو نفسه كإله يمنح الجائزة، يظهر بين أولئك الذين يلبسون إكليل النصر، وهو الذي يكلل هامات القديسين. لذلك فلننظر ولنلاحظ مهارته في مصارعته وكيف هزم خبث الشيطان وشره، فحينما قضى أربعين يومًا صائمًا فإنه جاع أخيرًا ولكنه هو نفسه يعطي الجياع طعامًا، وهو نفسه الخبز النازل من السماء الواهب حياة للعالم وهو الذي به تقوم كل الأشياء. ولكن مِن الجهة الأخرى، بسبب أنه كان من الضروري لذلك الذي لم يرفض فقرنا، أن لا ينسحب من أي شيء يخص حالة الإنسان، لذلك فقد وافق أن يحتاج جسده للمؤونة الطبيعية. وهذا هو السبب للقول “إنَّه جاع” ولكنه مع ذلك لم يجُع إلاَّ بعد أن صام مدة كافية، وبقوته الإلهية قد حفظ جسده من الخوار، رغم امتناعه عن الطعام والشراب، لكي يسمح لجسده أن يشعر بالإحساسات الطبيعية كما هو مكتوب “إنَّه جاع”. ولأي سبب هذا؟ لكي بمهارة بواسطة الاثنين[1]، فإنَّ ذلك الذي هو إله وإنسان معًا في نفس الوقت يمكن أن يُعرف بهاتين الصفتين في نفس الشخص الواحد: أي أعلى منَّا بطبيعته الإلهية، ومساوٍ لنا في بشريته.
(لو4:4) ” وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ، فَقُلْ لِهذَا الْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا“.
حينئذ يقترب الشيطان لكي يجربه، متوقعًا أن إحساس الجوع سيساعده في خطته الخبيثة. فإن الشيطان كثيرًا ما ينتصر علينا باتخاذه ضعفاتنا كمساعد لمكائده ومغامراته، لقد تصور الشيطان أن الرب يسوع سيقفز حالاً نحو الرغبة في رؤية الخبز جاهزًا للأكل، ولذلك قال ” إن كنت ابن الله، فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا“. إذًا فهو يقترب منه، كإنسان عادي وكواحد من القديسين، ومع ذلك فهو لا يزال متشككًا في أمره، أنه ربما يكون هو المسيح. فبأي طريقة أراد أن يعرف هذا؟ لقد اعتبر الشيطان أن تغيير طبيعة شيء إلى طبيعة أخرى إنما هو فعل وعمل قوة إلهية، لأن الله هو الذي يصنع هذه الأشياء وهو الذي يحوِّلها. لذلك، قال في نفسه إن فَعَل هذا، فإنه يكون هو بالتأكيد ذلك الشخص المنتظر الذي سيُبطل قوَّتي، ولكن إن رفض أن يعمل هذا التغيير، فإني بذلك أتعامل مع إنسان وأطرح الخوف بعيدًا، وأنجو من الخطر، لذلك فإن المسيح لمعرفته بحيلة الشيطان فإنه رفض أن يحول الحجر خبزًا، كما أنه لم يقل إنَّه غير قادر أو غير راغب أن يعمل هذا التغيير، بل بالحرى يصده بسبب إلحاحه وتداخله فيما ليس له قائلاً: ” إن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده“. وهو يعني بهذا، أنه إن أعطى الله القوة للإنسان، فإنه يمكن أن يصمد بدون طعام، ويحيا مثل موسى وإيليا اللذان بقوة كلمة الرب صرفا أربعين يومًا دون أن يأكلا شيئًا، لذلك فإذا كان ممكنًا للإنسان أن يحيا بدون خبز، فلماذا أحوِّل الحجر خبزًا؟ ولكن الرب تعمد ألاَّ يقول، إنِّي لا أستطيع وذلك لكي لا ينكر قوته الخاصة، كما إنَّه لم يقل، إني أستطيع لئلا عندما يعرف المجرب بذلك أنه هو الله الذي عنده وحده كل شيء مستطاع، فإنه يتركه ويهرب.
وأرجوكم أن تلاحظوا كيف أن طبيعة الإنسان في المسيح هي حرة من أخطاء شراهة آدم، فعن طريق الأكل انهزمنا في آدم وبواسطة الصوم انتصرنا في المسيح.
بواسطة الطعام الذي يخرج من الأرض، يتقوَّى جسدنا الأرضي، ويسعى إلى الحصول على غذائه مما هو مجانس له، أما النفس العاقلة فإنَّها تتغذى وتنمو إلى الصحة الروحانية بواسطة كلمة الله، لأن الطعام الذي تقدمه الأرض يغذي الجسد الذي هو قريب لها، أما الطعام الذي من فوق ومن السماء فيُقوِّي الروح ويشددها، طعام النفس هو الكلمة الآتية من الله، أي الخبز الروحاني الذي يُقوِّى قلب الإنسان كما يرنم في كتاب المزامير، وإننا نؤكد أيضًا أن الطبيعة خبز الملائكة هي هكذا.
(لو4: 5) “أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَانِ“.
وأنت أيها الكائن الخبيث الشرير الملعون، كيف تتجاسر أن تُري الرب ممالك الخليقة كلها وتقول “ إنها لي؟ فإن سجدت أمامي سأعطيها لك” فكيف تعد بشيء ليس هو لك؟ من جعلك وارثًا لمملكة الله؟ من جعلك سيدًا على كل ما تحت السماء؟ إنَّك حصلتَ على هذه الأشياء بالخداع والاحتيال، لذلك أرجعها، للابن المتجسد، رب الكل. واسمع ما يقوله إشعياء النبي عنك: ” هل قد أعد لك أيضًا أن تملك؟ هي هوة عميقة، ونار، وكبريت، وحطب مرتَّب، وغضب الرب كهوة مشتعلة بكبريت ” (إش33:30س). فكيف إذًا وأنت نصيبك هو اللهيب الذي لا ينطفئ تَعِد مَلِك الكل بما هو ليس لك؟ هل تظن أنك تجعله يسجد لك وهو الذي ترتعد أمامه كل الكائنات والسارافيم وكل القوات الملائكية تُسبح بمجده؟ إنَّه مكتوب: ” للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد“. لقد ذكر الرب هذه الوصية في الوقت المناسب ووجَّهها إليه في الصميم، فقَبْل مجيء الرب، كان الشيطان قد خدع كل من تحت السماء، وكان يُعبَد في كل مكان، أما وصية الله هذه فإنها تطرده من السيادة التي اغتصبها بالخداع، وتوصى الناس أن يعبدوا الذي هو بالطبيعة وبالحق الله وأن يُقدِّموا الخدمة والسجود له وحده.
(لو4: 9) ” ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلُ “.
التجربة الثالثة التي يستخدمها الشيطان هي المجد الباطل قائلاً: ” ألقِ نفسك إلى أسفل“، كبرهان على ألوهيتك، ولكنه لم يستطع أن يُسقطه بواسطة الغرور، بل إنَّ سهم الشيطان أخطأ الهدف، فقد أجابه الرب ” إنه قيل لا تجرب الرب إلهك“. فإن الله لا يمنح معونته لأولئك الذين يجربونه، بل لأولئك الذين يثقون به، ولا ينبغي بسبب تلطفه ورحمته علينا أن نتباهى ونغتر، ولنلاحظ أيضًا أن المسيح لم يعطِ آية لأولئك الذين كانوا يجربونه: فيقول “جيل شرير يطلب آية ولا تعطى له آية” (مت39:12). فليسمع الشيطان وهو يجرِّب هذه الكلمات. لذلك فنحن قد نلنا الانتصار في المسيح، أما الذي انتصر في آدم فمضى الآن خجلاً لكي ما نستطيع أن نضعه تحت أقدامنا، لأن المسيح كمنتصر قد سلَّمنا أيضًا القوة لكي ننتصر، قائلاً ” ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ” (لو19:10).
(لو4: 10) ” لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ ”
انظروا كيف يحاول بخبث أن يستخدم الكتاب المقدس لكي يحطَّ من مجد الرب، كما لو كان الرب محتاجًا لمساعدة الملائكة، وكما لو كان سيعثر لو لم تساعده الملائكة، لأن هذا المزمور لا يشير إلى المسيح، والرب العالي لا يحتاج للملائكة. أما جناح الهيكل، فقد كان مبنَى مرتفع جدًّا، مُقام إلى جانب الهيكل.
والبعض يشيرون بهذا المزمور خطأ إلى شخص الرب، ويأخذون عباراته معًا التي تقول هكذا ” لأنك، يا رب أنت رجائي، جعلت العلي ملجأك” (مز91: 9)، ولذلك يقولون إن الرب له ملجأ هو العلي، أى الآب الذي في السماء. وحجَّتهم في مثل هذه الطريقة في الفهم، أن الشيطان فهمها هكذا فقال ” إن كنت ابن الله فالقِ نفسك إلى أسفل: لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بك لكي يحفظوك“، فالشيطان لأنه كذاب ومخادع، يُطبق ما هو مكتوب عنَّا نحن على شخص المسيح مخلصنا جميعًا. ولكننا نحن لا نفهمها بطريقة الشيطان، حتى إن كان الآريوسيون قد فهموها هكذا، فليس هناك ما يدعو للدهشة في موقفنا هذا، لأنهم يتبعون أباهم، الذي هو كذاب، وليس فيه حق، بحسب كلمات المخلِّص (انظر يو44:8)، فإن كان ما يقولونه هو الحق، ونحن قد جعلنا المسيح عوننا، وهو قد جعل الآب ملجأه، فعندئذ نكون نحن قد التجأنا إلى واحد هو نفسه محتاج إلى المساعدة، ودَعونا ذلك الذي يخلص بواسطة آخر مخلِّصًا لنا. هذا لا يمكن أن يكون، حاشا لله. لذلك فنحن نقول لأولئك الذين يريدون أن يفكروا هكذا، أنتم تسيرون خارج الطريق الملكي المستقيم، أنتم تسقطون وسط الأشواك والفخاخ، لقد ضللتم بعيدًا عن الحق. فالابن مساوٍ للآب في كل الأشياء، فهو صورة ورسم جوهره، وهو العلي كما أن الآب أيضًا هو العلي.
الشيطان استخدم إذًا هذه العبارات كما لو كان المخلص إنسانًا عاديًّا، فلأنه ظلام بكليته، وقد أُعمى عقله، فإنه لم يفهم قوة المكتوب في المزمور أنه يقصد به شخص كل إنسان بار ينال عونًا من السماء، وإلى جانب ذلك، لم يعرف أن الكلمة، إذ هو الله، قد صار إنسانًا، والآن هو نفسه يجرَّب بحسب خطة الخلاص. وكما سبق أن قلت، فقد افترض (الشيطان) أن كلمات المزمور قد قيلت كما على إنسان عادي، أو على واحد من الأنبياء القديسين.
ولكن بالنسبة لنا نحن الذين نعرف السر تمامًا، والذين نؤمن أنه من الله وابن الله، وأنه صار من أجلنا إنسانًا مثلنا، فإنه أمر بشع جدًّا أن نتصور أن عبارات المزمور هذه تتحدث عنه، إذًا فنحن نقول، إن عبارة “جعلتُ العلي ملجأك” لا تناسب شخص المخلِّص، فإنه هو نفسه العلي، ملجأ الكل، ورجاء الكل، وهو عن يمين الآب الكلي القدرة، وكل من يجعله حصنًا له، فلن يقترب منه شر لأنه يأمر الملائكة، الذين هم أرواح خادمة، أن يحرسوا الأبرار.
فكما أن آباءنا الجسديين حينما يرون الطريق خشنًا ويصعب عبوره، فإنهم يمسكون أطفالهم في أيديهم، لكي لا تصاب أقدامهم الضعيفة بأذى، لكونهم لا يزالون غير قادرين أن يسيروا على الطرق الصعبة، هكذا أيضًا قوات الملائكة لا يسمحون لأولئك، الذين لا يزالون غير قادرين على الجهاد، والذين لا يزال ذهنهم طفوليًّا، أن يتعبوا بما يفوق طاقتهم، بل يختطفونهم بعيدًا عن كل تجربة.
[1] الاثنين أي بصومه أربعين يومًا دون أن يخور الجسد من ناحية، وبسماحة للجسد أن يشعر بالجوع من ناحية أخرى.