اعتراضات ضد لاهوت المسيح والرد عليها – القديس أثناسيوس الرسولي
اعتراضات والرّد عليها
59 ـ وبعد هذه البراهين الكثيرة ضدهم، والتي يخجل منها حتى الشيطان نفسه الذي هو أبوهم ويتراجع، فإنهم بسبب قلبهم المعوّج يدمدمون باعتراضات أخرى، أحيانًا بالهمس وأحيانًا أخرى بضوضاء كطنين البعوض. فهم يقولون لنا: [حتى إن فسّرتم هذه الآيات هكذا وانتصرتم في الأفكار والبراهين، لكن يجب أن تقولوا إن الابن قد أخذ وجوده بمشيئة الآب ومسرّته] لأنهم بتقديمهم لمشيئة الله ومسّرته هكذا يخدعون كثيرين. والآن لو أن أي واحد ممّن يؤمن باستقامة قال هذا ببساطة لما كان هناك سبب للشك في هذا التعبير، لأن القصد المستقيم يكون مهيمنًا على استعمال الكلمات، ولكن حيث إن هذا التعبير هو من الهراطقة، فإن كلمات الهراطقة هي موضع شك ما، كما هو مكتوب ” تدابير الأشرار غاشة وكلامهم خداع ” (أم5:12ـ6س)، حتى لو استعملوا الإشارات[1] فقط، ولأن لهم قلبًا معوجًا فدعونا نفحص قولهم هذا أيضًا. لئلا برغم توبيخهم من كل جهة لا يزالون ـ مثل نبع الوحوش[2] ـ يخترعون كلمة جديدة، وبمثل هذا الأسلوب الجذّاب والمراوغة الخادعة يبذرون أيضًا كفرهم ذلك بطريقة أخرى، لأن هذا الذي يقول: ” إن الابن جاء إلى الوجود بالإرادة الإلهية “، يقصد نفس المعنى مثل الآخر الذي يقول: ” إنه كان هناك وقت لم يكن الابن فيه موجودًا “، وأيضًا ” إن الابن خُلِق من العدم “، وأيضًا ” هو مخلوق “. ولكن حيث إنهم يخجلون الآن من هذه الأقوال، فإن هؤلاء الماكرين قد حاولوا أن يوصلوا معنى هذه الأقوال بطريقة أخرى، مقدّمين لفظ “المشيئة” مثل حبّار[3] يّخفون أفكارهم السوداء، وبذلك يخدعون البسطاء مع أن هؤلاء الهراطقة يحتفظون في أذهانهم ببدعتهم الخاصة لأنه أين وجدوا الألفاظ “بالمشيئة” و “المسّرة”، أو في أي سفر قرأوا مثل هذه التعبيرات؟
فليقل لنا هؤلاء الذين هم موضع شك كبير في كلماتهم وهم يخترعون الكفر بقوة. لأن الآب الذي كشف كلمته من السماء أعلن: ” هذا هو ابني الحبيب ” (مت17:3). وهو الذي قال بواسطة داود “نطق قلبي بكلمة صالحة ” (مز1:44س) وأوصى يوحنا أن يقول ” في البدء كان الكلمة ” (يو1:1). ويقول داود في المزمور ” عندك ينبوع الحياة، وبنورك نعاين النور ” (مز9:35س). ويكتب الرسول ” الذي وهو بهاء مجده ” (عب3:1) وأيضًا ” الذي إذ كان في صورة الله ” (في6:2) وأيضًا ” الذي هو أيضًا صورة الله غير المنظور ” (كو15:1).
60ـ الجميع في كل مكان يخبروننا عن وجود الكلمة، ولكن لا أحد يخبرنا عن وجوده بالمشيئة ولا عن خَلقِه بالمرّة، ولكني أتساءل أين وجد هؤلاء “المشيئة” أو “المسّرة” سابقة على كلمة الله، إلاّ إذا كانوا قد تركوا الكتب المقدسة، وتمثلوا بانحراف فالانتينوس[4]؟ لأن بطليموس الفالانتيني زعم أن الله غير المولود، له صفتان هما “الفكر” و “الإرادة”، فهو قد فكّر أولاً ثم أراد فيما بعد. وما فكّر فيه لم يستطع أن يقدّمه إلاّ حينما صارت له قوة الإرادة. ولقد تعلّم الآريوسيون من هذا، جاعلين الفكر والإرادة يسبقان الكلمة. فبالنسبة لهم إذًا دعهم ينافسون تعليم فالانتينوس. أما نحن فحينما نقرأ الكتب المقدسة بيقظة فإننا نجد عبارة “كان” تطلق على الابن، وعنه فقط سمعنا أنه كائن في الآب، وأنه صورة الآب. أما في حالة الملخوقات وحدها فقد عرفنا أن الفكر والإرادة سابقة عليها. حيث إنها بالطبيعة كانت غير موجودة في وقت ما ثم وجدت فيما بعد، فداود يرتل في المزمور 113 قائلاً: ” أما إلهنا فقد صنع في السماء وعلى الأرض كل ما أراده ” (مز11:113س) وفي المزمور 110 ” عظيمة هي أعمال الرب مطلوبة حسب كل إرادته ” (مز2:110س)، وأيضًا في المزمور 134 ” كل ما شاء الرب، صنع في السماوات وفي الأرض، في البحار وفي كل اللجج ” (مز6:134س). إذًا فإن كان الابن مصنوعًا أو شيئًا مخلوقًا، وواحدًا بين كثيرين، فيمكن أن يقال عنه كالآخرين إنه صار “بالإرادة”. فالكتاب يوضّح أن هذه المخلوقات، هكذا أتت إلى الوجود. وأستيريوس[5] المدافع عن هذه البدعة، يقبل هذا، إذ يكتب هكذا [لأنه إما أن يكون من غير اللائق بالنسبة للخالق أن “يشاء” ثم بعد ذلك “يفعل”، وبالتالي يجب أن يقال إنه “يشاء” فقط وحينئذٍ يجب أن ينسحب هذا على كل الخلائق حتى تُحفظ لله عظمته. أو أن يكون من اللائق به أن “يشاء” أولاً ثم “يفعل” بعد ذلك بالتالي يجب أن ينسحب هذا على أول وأفضل من ولده لأنه بالتأكيد من المستحيل أن يكون لائقًا بنفس الإله الواحد أن يصنع أشياء بإرادته، وفي نفس الوقت يصنع أشياء أخرى “بغير إرادته].
فالسفسطائي قدّم كفرًا عظيمًا بقوله إن [المولود والمخلوق هما نفس الشيء، وأن الابن هو مولود واحد بين كل المولودات الموجودة وانتهي إلى النتيجة أنه من اللائق أن يقال إن المخلوقات توجد بالفكر والإرادة.
61ـ لذلك، فإن كان الابن هو آخر يختلف عن كل الأشياء المخلوقة ـ كما قد أوضحنا أعلاه، وبالحري صارت كل الأشياء بواسطته، إذًا فلا ينبغي أن يقال تعبير “بالمشيئة” لوصف طريقة ولادته، وإلاّ فإنه يكون قد أتى إلى الوجود مثل الأشياء التي صارت بواسطته. فبولس، الذي لم يكن رسولاً من قبل، صار فيما بعد رسولاً “بمشيئة الله” (انظر 1كو1:1). ودعوتنا نحن أيضًا هذه هي نفسها لم تكن موجودة في وقت ما، ولكنها الآن قد صارت وهي مسبوقة بالمشيئة، كما يقول بولس نفسه أيضًا إنها صارت ” بحسب مسرة مشيئته ” (أف5:1). وما كتبه موسى “ليكن نور” ولتظهر اليابسة”، “لنعمل الإنسان” (انظر تك3:1، 11، 26)، أظن، بحسب ما قلناه قبلاً إنه يدّل على مشيئة الخالق، لأن الأشياء التي لم تكن موجودة قبلاً بل صارت فيما بعد من أسباب خارجة عنها، هذه يعملها الخالق بمشورته، أما كلمته الذاتي المولود منه بالطبيعة، فهو لا يفكر في ولادته لأن الآب يخلق كل الأشياء الأخرى التي يشاء أن يخلقها من خلال الابن، مثلما علّم أيضًا يعقوب الرسول قائلاً ” شاء فولدنا بكلمة الحق ” (يع18:1). لذلك فمشيئة الله بخصوص كل الأشياء ـ سواء تلك التي وُلدت مرّة أخرى أو التي أُوجدت لأول مرّة ـ هي في كلمته الذي فيه يصنع ويلد ثانية، ما يبدو صوابًا عنده، كما يكتب أيضًا الرسول إلى تسالونيكي ” لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم ” (1تس18:5). فإن كانت إرادة الله هي في مَنْ بواسطته قد خُلق كل شئ (أي الكلمة)، فمن الواضح أن إرادة الله أيضًا هي في المسيح (الكلمة المتجسّد)، فكيف يكون من الممكن أن يكون قد أتى إلى الوجود (في الزمن) بمشيئة وإرادة الله مثل كل المخلوقات؟ لأنه إن كان هو أيضًا قد أتى إلى الوجود بالمشيئة كما تدّعون، فيتبع ذلك أن مشيئة الله ستكون في كلمة آخر يأتي إلى الوجود حسب مشيئة الله، لأننا أوضحنا أن مشيئة الله ليست في الأشياء التي يخلقها، بل هي في هذا (الكلمة) الذي بواسطته وفيه تأتي كل الأشياء المخلوقة إلى الوجود. وبالإضافة إلى ذلك القول، كان الكلمة هو ابن “بالمشيئة”، له نفس معنى القول إنه ” كان وقت لم يكن هو موجودًا “. إذًا فليكتفوا بقولهم عنه أنه ” كان وقت لم يكن هو موجودًا “، لكي يخجلوا عندما يدركون أن المقصود بهذا هو الأزمنة، ويفهموا أنهم عندما يقولون “بالمشيئة” إنما يضعون الأزمنة قبل الابن لأن المشيئة تسبق الأشياء التي لم تكن موجودة من قبل، كما في حالة كل المخلوقات. ولكن إن كان الكلمة هو خالق المخلوقات. وهو كائن مع الآب، كيف يمكن أن تسبق المشيئة الكائن الأزلي كما لو لم يكن موجودًا؟ لأنه لو كانت المشيئة سابقة عليه إذًا فكيف خُلقت كل الأشياء بواسطته؟ لأنه بالحري سيكون هو أيضًا كواحد بين الآخرين، مولودًا ليكون ابنًا بالمشيئة، كما صرنا نحن أيضًا أبناء بكلمة الحق. وبالتالي فكما قلنا، يلزم البحث عن كلمة آخر، وُجِد هو أيضًا بواسطته ووُلِدَ مع كل الأشياء التي صارت بحسب مسّرة الله.
62ـ إذًا لو كان هناك كلمة آخر لله، يكون الابن قد وجد بكلمة، ولكن إن لم يكن هناك كلمة آخر(وهذه هي الحقيقة)، ولكن كل الأشياء التي شاء الآب أن توجد قد وُجِدَت بواسطته، أفلا يكشف هذا الخبث الشديد الذي لهؤلاء الناس؟ فمع أنهم يشعرون بالخجل من القول إنه “مصنوع” وإنه “خليقة” وإن “كلمة الله لم يكن موجودًا قبل أن يولد إلاّ أنهم يؤكدون بطريقة أخرى أنه مخلوق، ويروّجون للفظة “المشيئة” ويقولون ” لو لم يكن قد أتى إلى الوجود بالمشيئة، فيكون الله قد وُلد الابن عن اضطرار وضد مسّرته. فمَن هو إذًا ذاك الذي يفرض الاضطرار على الله، أيها المملوؤن خبثًا، الذين تحرّفون كل شيء لخدمة هرطقتكم؟ لأنه كما أن الذي هو مختلف في الرأي هو ضد المشيئة، هكذا فإن من هو بحسب الطبيعة يفوق المشيئة، ويسبقها. فالإنسان يمكن أن، يبني منزلاً بواسطة المشيئة ولكنه يلد ابنًا بحسب الطبيعة. والمنزل الذي يبنيه الإنسان هو خارج عنه وهو قد بنى نتيجة الفكر، أما الابن فهو مولود من جوهر الوالد نفسه وليس خارجًا عنه. لهذا فهو لا يفكر في وجود ابنه “بالمشيئة” لئلا يبدو أنه هو نفسه موجود “بالمشيئة”. إذًا فبقدر ما يعلو الابن عن الخليقة، كذلك يعلو ما هو بالطبيعة على ما هو بالمشيئة. وينبغي على هؤلاء، حينما يسمعون عنه ألاّ يقيسوا ما هو بالطبيعة بمقياس المشيئة. وهؤلاء إذ ينسون أنهم يسمعون عن ابن الله، فهم يتجاسرون أن يطبقوا اعتراضات بشرية على الله مثل (الضرورة) و (اختلاف الرأي)، لكي يمكنهم بذلك أن ينكروا أنه يوجد ابن حقيقي لله. لكن هؤلاء يجاوبوننا ويقولون، هل كَوْن الله صالحًا ورحيمًا، هل هذا يتصل به بواسطة المشيئة أم لا؟ فإن كان بواسطة المشيئة، فينبغي أن نفكر، أنه بدأ أن يصير صالحًا وأنه كان هناك احتمال بألاّ يكون صالحًا، لأن المشيئة والاختيار يعنيان وجود ميل نحو كل من الطرفين، وهذا الميل يخص، الطبيعة العاقلة. ولكن إن كان من غير المقبول تمامًا أنه ينبغي أن يسمى صالحًا ورحيمًا بالمشيئة، إذًا فليسمعوا هذا الذي قد قالوه هم أنفسهم، لذلك فهو صالح عن الاضطرار وليس بالمشيئة. وأيضًا مَنْ هو الذي يفرض هذا الاضطرار عليه؟ ولكن إن كان من غير المقبول أن نتكلّم عن وجود الاضطرار في حالة الله، إذ هو صالح بالطبيعة، فبالأولى جدًا وبالحقيقة تمامًا يكون الآب أبًا للابن بالطبيعة وليس بالمشيئة.
63ـ ودَعهم يجيبوننا على هذا أيضًا (لأني بسبب عدم حيائهم أريد أن أطرح عليهم سؤالاً آخر، أكثر جرأة ولكن بهدف التقوى، فلتسامحني يا رب). هل الآب نفسه شاء أولاً قبل أن يوجد ثم بعد أن شاء وُجِد أم أنه كان موجودًا قبل أن يشاء؟
فحيث إنهم متجاسرون إلى هذه الدرجة في كلامهم عن الكلمة، لذلك ينبغي أن يسمعوا جوابًا مماثلاً لكي يعرفوا أن وقاحتهم هذه تصل حتى إلى الآب نفسه.
إذًا فإن كانوا سيفكرون هم أنفسهم بخصوص المشيئة ويقولون إنه حتى الآب هو من المشيئة، فماذا كان هو إذًا قبل أن يشاء، أو ما هو الذي اقتناه أكثر ـ كما تظنون ـ بعد أن شاء؟
ولكن إن كان مثل هذا السؤال غير لائق وضار ويصدم السامع بمجرد ذكره (لأنه يكفي فقط أن نسمع اسم الله لنعرف ونفهم أنه هو الكائن الذي يكون)، ألا يكون ضد العقل أيضًا أن يفكر أحد بمثل هذه الأفكار عن كلمة الله، ويقدّم ادعاءات بخصوص الإرادة والمسّرة؟ لأنه يكفي بالمثل أن نسمع فقط اسم الكلمة، لكي نعرف ونفهم أن ذاك الذي هو الله بغير المشيئة، له كلمته الذاتي بالطبيعة وليس بالمشيئة. وكيف لا يكون أمرًا يتجاوز كل جنون أن يفكر الإنسان أن الله الذي يشاء ويعتبر ويختار وله مسّرة صالحة، هو بدون كلمة وبدون حكمة، وهو الذي له كليهما؟ ذلك لأنه يبدو أنه يفكر عن نفسه، ويشاء من جهة ما هو خاص بجوهره. إذًا فلأنه يوجد تجديف كثير في مثل هذا الفكر، فيكون من التقوى أن نقول، إن الأشياء المخلوقة قد وُجدت “بالمسّرة” و “المشيئة”، أما الابن فلم يوجد بالمشيئة ولم يصر بعدها كالخليقة، بل هو بالطبيعة المولود الذاتي لجوهر الله. لأنه لكونه كلمة الآب الذاتي، فهو لا يسمح لنا أن نحسب إن المشيئة سابقة عليه هو، إذ أنه هو نفسه مشورة الآب الحيّة، وهو القوة، وهو خالق الأشياء التي استحسنها الآب. وهذا ما يقوله عن نفسه في الأمثال ” لي المشورة والأمان، لي الفهم، لي القدرة ” (أم14:8س). لأنه رغم أنه هو نفسه الفهم الذي به هيأ السماوات (انظر أم19:3) وهو نفسه القدرة والقوّة ” لأن المسيح هو قوّة وحكمة الله ” (1كو24:1)، فهو هنا قد غيّر الألفاظ وقال لي الفهم، ولي القدرة. هكذا بينما هو يقول “لي المشورة” فيجب أن يكون هو نفسه مشورة الآب الحيّة، كما قد تعلّمنا من النبي أيضًا أنه يصير “ملاك المشورة العظمى” (انظر إش6:9س)، ودُعيَ مسّرة الآب الصالحة لأنه هكذا ينبغي أن ندحضهم، طالما هم يفكرون أفكارًا بشرية عن الله.
64ـ لذلك إن كانت المصنوعات قد صارت “بالمشيئة والمسّرة” وكل الخليقة خُلِقت بالمشيئة، وبولس دُعيَ ليكون رسولاً “بمشيئة الله” (انظر 1تيمو1:1). ودعوتنا قد صارت بالمسّرة والمشيئة (انظر أف5:1)، وكل الأشياء قد أتت إلى الوجود بالكلمة. إذًا فهو خارج عن كل الموجودات التي قد وُجدت بالمشيئة بل بالأحرى هو نفسه مشورة الآب الحيّة، والتي بها قد صارت كل هذه الأشياء، والذي به أيضًا يقدَّم داود تشكّرات في المزمور الثاني والسبعين قائلاً: ” أمسكت بيدي اليمنى وبمشورتك تهديني ” (مز23:72ـ24س). كيف يمكن إذًا أن الكلمة الذي هو مشورة الآب ومسّرته يوجد هو نفسه “بالمسّرة والمشيئة” مثل كل الآخرين؟ إلاّ إذا كانوا كما قلت سابقًا، يكرّرون في جنونهم، أنه قد أتى إلى الوجود بواسطة نفسه أو بواسطة واحد آخر. فمن هو إذًا ذاك الذي بواسطته قد أتى هو إلى الوجود؟ دعهم يخترعون كلمة آخر، ودعهم يسمّون مسيحًا آخر منافسين تعليم فالانتينوس، لأن الكتاب ليس فيه هذا التعليم بتاتًا. وحتى إذا اخترعوا آخرًا، فبالتأكيد يأتي هذا الآخر أيضًا إلى الوجود بواسطة واحد آخر، وهكذا. وبينما نحن نحسب هكذا ونبحث في تتابع هؤلاء (الذين يخترعونهم)، فإن الهرطقة ذات الرؤوس المتعددة التي للكفّار تتضح أنها تؤدي إلى تعدد الآلهة وإلى جنون لا حدود له، التي فيها إذ يرغبون أن يكون الابن مخلوقًا وأنه يوجد من العدم، فإنهم يعنون نفس الشيء بكلمات أخرى، باستعمال تعبير المشيئة والمسّرة، والتي تخص بصواب الأشياء الصائرة والمخلوقة. ألا يكون إذًا من عدم التقوى أن تُنسب خصائص هذه المخلوقات إلى خالق الكل؟ أليس تجديفًا أن يقال إن المشيئة كانت في الآب قبل الكلمة؟ لأنه لو كانت المشيئة سابقة في الآب، لن تكون كلمات الابن حقيقية في قوله “أنا في الآب” (يو10:14)، أو حتى لو كان هو في الآب، فإنه مع ذلك يشغل المكان الثاني فقط، ولم يكن يحق له أن يقول ” أنا في الآب ” حيث إن المشيئة وُجِدَت قبلْه، والتي بها أتت كل الأشياء إلى الوجود، وهو نفسه وُجِدَ بها حسبما تعتقدون. لأنه رغم كونه فائقًا في المجد، إلاّ أنه ليس هو أصغر واحد من الأشياء التي وجدت بالمشيئة. وكما قد قلنا قبلاً لو كان الأمر هكذا، كيف يكون هو الرب وهم يكونون العبيد؟ ولكنه هو رب الكل لأنه واحد مع الآب في الربوبية، والخليقة كلها خاضعة له، حيث إنها خارجة عن الآب الواحد، وبينما كانت في وقت ما غير موجودة فقد أتت إلى الوجود فيما بعد.
65ـ وأيضًا إن كانوا يقولون إن الابن وُجِدَ بالمشيئة، فيجب أن يقولوا أيضًا إنه وُجد بالفهم، لأني أعتبر أن الفكر والمشيئة شئ واحد ولأن ما يشاءه أحد هو دائمًا ما يفكر فيه أيضًا. والأمر الذي يفكر فيه فهذا هو ما يشاؤه أيضًا. ولذلك فالمخلّص نفسه قد جمعهما معًا كشقيقين حينما قال ” لي المشورة والأمان، لي الفهم، لي القدرة ” (أم14:8س). فالآن القدرة والأمان هما نفس الشيء (لأنهما يعنيان صفة واحدة)، هكذا يمكن ان نقول إن الفهم والمشورة هما نفس الشئ، الذي هو الرب. لكن هؤلاء الكفّار لا يريدون أن يكون الابن هو الكلمة والمشورة الحيّة بل ينحرفون بقولهم عن الله إن الفهم والمشورة والحكمة هي حالات، أحيانًا تحدث له وأحيانًا أخرى لا تحدث بحسب الطريقة البشرية. ويعملون كل شئ عارضين “الفكر” و”المشيئة” اللذين عند فالانتينوس، لكي يفصلوا الابن عن الآب، ويدعونه مخلوقًا بدلاً من أن يكون هو ابن الآب الذاتي. وليسمعوا إذًا ما سمعه سيمون الساحر (انظر أع20:8): كفر فالانتينوس ليكن معك للهلاك. أو ليصدق كل واحد بالأحرى سليمان الذي يقول إن الكلمة هو الحكمة والفهم، لأنه يقول “الرب بالحكمة أسس الأرض وأثبت السماوات بالفهم ” (أم19:3). وهكذا بالفهم هنا، كما هو في المزامير: ” بكلمة الرب صنعت السماوات ” (مز6:33). وكما صنع السماوات بالكلمة “هكذا كل ما شاء صنع ” (انظر مز6:135). وكما يكتب الرسول إلى التسالونيكيين ” مشيئة الله في المسيح يسوع ” (أف18:5) إذًا فابن الله هو “الكلمة” و “الحكمة”، هو “الفهم” و “المشورة” الحيّة” ومسرّة الآب هي فيه وهو حق الآب ونوره وقوته.
لكن إن كانت مشيئة الآب هي الحكمة والفهم، والابن هو الحكمة إذًا فالذي يقول إن الابن وُجِدَ بالمشيئة فهو في الواقع يقول إن الحكمة قد أتت إلى الوجود بالحكمة، والابن قد أوجِدَ بابن والكلمة خلق بواسطة كلمة. وهذا يتناقض مع الله وهو عكس ما جاء عنه في الكتب المقدسة لأن الرسول يكرز بالابن انه ليس شعاع مشيئة الآب وصورتها بل شعاع جوهره ورسمه نفسه، قائلاً: ” الذي وهو شعاع مجده ورسم جوهره ” (عب3:1). ولكن إن كان ـ كما سبق أن قلنا ـ جوهر الآب وكيانه ليس من المشيئة، فمن الواضح جدًا أن ما هو خاص بكيان الآب ليس من المشيئة، لأنه كما يكون الكيان الطوباوي هكذا ينبغي أن يكون أيضًا المولود الذاتي منه. وتبعًا لذلك فالآب نفسه لم يَقل هذا هو ابني الذي وجد بمشيئتي ولا قال “الابن الذي اقتنيته بمسّرتي” لكن قال ببساطة ابني، وأضاف على ذلك “الذي به سررت” (مت17:3). ويعني بهذا، أنه هو الابن بالطبيعة، وفيه توجد مشيئتي بخصوص الأشياء التي أسر بها.
66ـ إذًا حيث إن الابن هو بالطبيعة وليس بالمشيئة، فهل هو كائن بدون مسّرة الآب وبدون مشيئة الآب؟ كلا بالتأكيد، بل الابن هو بمسّرة الآب، وكما يقول هو نفسه، ” الآب يحب الابن، ويُريه جميع ما هو يعمله” (انظر يو20:5)، لأنه لم يبتدئ أن يكون صالحًا من المشيئة، ولا هو أيضًا صالح بدون المشيئة والمسّرة. لأن ما يكون عليه بطبيعته فذلك أيضًا هو مسّرته. هكذا أيضًا ينبغي أن يكون الابن، ورغم أنه لم يوجد “من المشيئة” إلاّ أنه ليس بدون مسّرته، ولا ضد رأيه.
فلأن كيانه الذاتي هو بمسّرته، هكذا أيضًا الابن إذ هو من ذات جوهره فهو ليس بدون مسّرته. إذًا فليكن الابن هو موضوع مسرة الآب وحبه، وهكذا فليفكر كل واحد بتقوى في مسرة الله ومشيئته لأنه بتلك المسّرة التي بها الابن هو موضوع مسّرة الآب، يكون الآب هو موضوع محبة الابن ومسّرته وإكرامه. والمسّرة التي من الآب في الابن هي واحدة، حتى أننا هنا أيضًا يمكننا أن نرى الابن في الآب، والآب في الابن. إذًا فلا يُقدَّم أحد مع فالانتينوس من الآن فصاعدًا مشيئة سابقة ولا يُقحم أحد نفسه باستخدام هذه المشيئة في الوسط بين الآب الوحيد والكلمة الوحيد. لأنه من الجنون أن توضع المشيئة والرأي بين الآب والابن. فأن يقال ” أنه صار إلى الوجود من المشيئة” هذا يختلف عن أن يقال “إن الآب يحب ابنه ويُسّر به، الذي هو من ذاته بالطبيعة “.
لأن القول إنه “صار إلى الوجود بالمشيئة ” يعني أولاً أنه في وقت ما لم يكن موجودًا ثم وجد. ويعني ثانيًا أن هناك ـ كما سبق القول ـ ميلاً في اتجاهين، حتى يمكن للمرء أن يفترض أن الآب كان يستطيع حتى أن لا يريد وجود الابن. ولكن أن يقال عن الابن إنه “يمكن ألاّ يكون قد وُجِدَ” فهذا إدعاء كفري يصل حتى إلى جوهر الآب، كما لو كان أن من هو خاصته، لم يكن موجودًا. هذا هو نفس القول بأن “الآب يمكن أن لا يكون صالحًا” وبما أن الآب هو صالح دائمًا بالطبيعة، هكذا فهو دائمًا يلد بالطبيعة. والقول بأن “الابن هو مسّرة الآب” و “الكلمة هو مسّرة الآب”، لا يعني هذا وجود مشيئة سابقة، بل يعني إصالة الطبيعة، وخصوصية الجوهر وتماثله. لأنه كما يمكن أن يقول أحد في حالة الشعاع والنور، إنه ليست هناك في النور مشيئة سابقة على الشعاع، بل هو مولود النور الطبيعي بمسرة النور الذي ولده، وليس بالمشيئة والرأي بل بالطبيعة والحق، هكذا أيضًا في حالة الآب والابن، فيمكن أن نقول بصواب، إن الآب يحب الابن ويُسّر به، والابن يحب الآب ويُسّر به.
67ـ لذلك فلا تدعو الابن أنه عمل المشيئة ولا تُدخِلوا تعليم فالانتينوس إلى الكنيسة، بل أن الابن هو المشيئة الحيّة، والمولود بالحق والطبيعة، كالشعاع من النور. لأنه هكذا قد تكلّم الآب “نطق قلبي بكلمة صالحة ” (مز1:44س)، وهكذا الابن بالمثل قال “أنا في الآب والآب فيّ ” (يو10:14). لكن إن كان الكلمة في القلب، فأين المشيئة؟ وإن كان الابن في الآب، فأين المسرّة؟ وإن كان هو نفسه المشيئة فكيف تكون المشورة في المشيئة؟ وهذا غير مقبول لئلا يأتي الكلمة إلى الوجود بكلمة، والابن بابن والحكمة بحكمة، كما سبق وقلنا مرارًا. لأن الابن هو كل ما يخص الآب، ولم يكن شئ في الآب قبل الكلمة، لكن المشيئة هي في الكلمة أيضًا وبواسطته تتحقّق كل أغراض المشيئة، كما قد أوضحت الكتب المقدسة، وأرغب في أن الجاحدين ـ إذ قد سقطوا في مثل عدم الفهم هذا، حتى أنهم يفكرون هكذا بخصوص المشيئة ـ أن لا يعودوا الآن يسألون نساءهم اللواتي كن يسألونهن من قبل هكذا قائلين: ” هل كان لكِ ابن قبل أن تلديه”؟ وأن يسألوا الآباء ” هل صرتم آباء بالمشورة أم بالقانون الطبيعي لمشيئتكم “؟ أو ” هل أولادكم هم مثلكم في الطبيعة والجوهر؟ “.
لكي يتعلّموا الحياء ربما من الآباء، الذين منهم اتخذوا هذه الفكرة عن الولادة، والذين منهم يرجون أن يحصلوا على معرفة هذا الأمر. لأنهم سيجيبونهم “ما نلده ليس هو مثل مشيئتنا بل مثل ذواتنا ونحن لا نصير والدين بمشيئة سابقة بل أن الولادة هي أمر خاص بطبيعتنا، حيث إننا نحن أيضًا صور لآبائنا “. إذًا دعهم إما يحكمون على أنفسهم أنهم مخطئون ويكفوا عن سؤال النساء عن ابن الله، أو أن يتعلّموا منهن، أن الابن مولود ليس بالمشيئة، بل بالطبيعة والحق. إنه من اللائق بهم والمناسب لهم أن نوضح أفكارهم بأمثلة بشرية. حيث إن هؤلاء المنحرفين يجادلون في الأمور اللاهوتية بطريقة بشرية، إذًا فلماذا لا يزال أعداء المسيح في حالة جنون؟ لأن هذا الادعاء ـ وأيضًا ادعاءاتهم الأخرى ـ قد اتضّح وتبرهن أنها مجرد خيال وخرافات مصنّعة وعلى هذا الأساس ينبغي ـ رغم أنهم تأخروا ـ برؤيتهم هاوية الحماقة التي سقطوا فيها، أن يقوموا ثانية وأن يهربوا من فخ إبليس، كما ننصحهم نحن. لأن الحق هو محب للبشر وينادي الكل دائمًا: إن كنتم بسبب لباس الجسد لا تؤمنون بي، فعلى الأقل آمنوا بالأعمال لكي ” تعرفوا أني في الآب والآب فيّ ” (يو38:10) وأيضًا ” أنا والآب واحد ” (يو30:10)، وأيضًا “الذي رآني فقد ر أي الآب” (يو9:14). والرب هو دائمًا محّب للبشر، ويريد أن يعين الساقطين كما يسبح داود في المزمور (انظر مز8:145س). لكن الجاحدين لأنهم لا يرغبون في سماع صوت الرب، ولا يحتملون أن يروا السيد مُعتَرِفًا به من الكل أنه الله وابن الله، فهم كتعساء يتجولون مثل الخنافس باحثين عن حجج للكفر مع أبيهم الشيطان. فأية حجج إذًا سيستطيعون أن يجدوها بعد هذا؟ ومن أين يأتون بها إلاّ إذا استعاروا تجاديف اليهود وقيافا واتخذوا الكفر من اليونانيين، لأن الكتب المقدسة هي مغلقة بالنسبة لهم وقد دحضناهم كعديمي العقل وأعداء للمسيح بما جاء في كل موضع في هذه الكتب.
1 يقصد القديس أثناسيوس أنهم حتى لو لم يصرّحوا بأفكارهم بالكلام واستعملوا الإشارات فقط للتعبير.
3 الحبّار حيوان بحري هلامي يمكن أن يأخذ لون الموضع الذي يوجد فيه. ويستخدم القديس أثناسيوس هذا التشبيه لتوضيح خداعهم.
4 فلانتينوس هو أستاذ مصري علّم أولاً في الأسكندرية ثم وسّع مجال تعليمه فذهب إلى روما حيث أسس هناك مدرسة حوالي 150م ولما حُرِمَ من الكنيسة أنشأ جماعة خاصة مستقلة. وله عدّة كتب ورسائل وأناشيد، ولكن لم يبق منها غير القليل، وهو أحد الهراطقة الغنوسيين المشهورين.
5 انظر فقرة رقم 2 في الفصل الثالث والعشرين والهامش التابع لها عن فكر استيريوس.