أنا والآب واحد، ليكونوا واحد كما نحن – شرح نصوص (يو30:10، يو11:17) – للقديس أثناسيوس الرسولي
10ـ غير أنهم أيضًا يحاولون أن يشكّكوا في هذه الحقائق بواسطة الخرافات الناتجة عن خيالاتهم، فيدّعون أن الابن والآب لا يمكن أن يكونا “واحدًا” أو “متماثلين” بالكيفيّة التي تُعلّم بها الكنيسة، بل بالكيفيّة التي يريدونها هم. إذ يقولون إن ما يريده الآب يريده الابن أيضًا، وهو لا يتعارض معه في الفكر أو في القرار، ولكنه موافق له من جميع الوجوه، وهو يعلن التعاليم نفسها مثل الآب ويقول الكلام المُتّفِق والمتناسق مع تعاليم الآب، لذلك فهو ـ حسب رأيهم ـ واحد مع الآب. ولقد تجرأ البعض[1] منهم أن يكتب هذا وأن يقوله.
وهل يمكن لأحد أن يقول ما هو أكثر غرابة وعدم معقولية من هذا؟ لأنه لو كان الابن والآب هما واحدًا، بحسب رأيهم هذا، وإن كان الكلمة مثل الآب بهذه الكيفيّة، فينتج عن هذا أن الملائكة أيضًا والكائنات الأخرى الأعلى منا، الرؤساء والسلاطين والعروش والربوبيات، وما نراه نحن مثل الشمس والقمر والنجوم كل هؤلاء سيكونوا أبناء أيضًا مثل الابن، وينبغي أن يقال عنهم أيضًا عندئذٍ أنهم هم والآب واحد، وأن كلاً منهم هو صورة الله وكلمته. لأن ما يريده الله يريدونه هم أيضًا، وهم لا يخالفونه لا في الإرادة ولا في الفعل، بل هم يخضعون لخالقهم في كل شئ. لأن كل هذه الكائنات ما كانت تستطيع أن تبقى في مجدها لو لم تشأ ما شاءه الآب أيضًا. فمثلاً إن ذاك الذي لم يبقَ ” في مجده “، بل ضلّ بعيدا، سمع الكلمات: ” كيف سقطت من السماء يا يوسفوروس[2] المشرق في الصباح “؟ (إش12:14س).
وإن كان الأمر هكذا، فكيف يكون هو وحده الابن الوحيد الجنس والكلمة والحكمة؟ أو كيف، بينما يوجد كثيرون مثل الآب، يكون وحده هو الصورة؟ لأنه يوجد كثيرون مثل الآب بين البشر، فكثيرون جدًا صاروا شهداء ومن قبلهم الرسل والأنبياء وقبلهم أيضًا البطاركة، وكثيرون أيضًا، الآن يحفظون وصية المخلّص إذ هم رحماء مثل الآب الذي في السماوات (لو36:6) وحفظوا الوصية القائلة ” تمثلوا بالله كأولاد أحباء واسلكوا في المحبة، كما أحبنا المسيح أيضًا ” (أف1:5ـ2). وكثيرون أيضًا تمثلوا ببولس كما تمثل هو أيضًا بالمسيح (1كو1:11)، ولكن ولا واحد من هؤلاء هو الكلمة، أو الحكمة، أو الابن الوحيد الجنس، أو الصورة. ولم يتجزأ أي واحد منهم أن يقول ” أنا والآب واحد ” (يو30:10)، أو ” أنا في الآب والآب فيّ ” (يو10:14)، بل قد قيل عنهم جميعًا ” من مثلك بين الآلهة يا ربي “؟ (مز8:85) و ” من يشبه الرب بين أبناء الله “؟ (مز6:89)، ولكن قيل عن الابن وحده إنه الصورة الحقيقية للآب ومن جوهره، ورغم أننا قد خلقنا حسب الصورة ودعينا صورة الله ومجده[3] فذلك ليس من ذواتنا، بل بسبب صورة الله ومجده الحقيقي الساكن فينا، الذي هو كلمته، والذي صار جسدًا لأجلنا فيما بعد، لكي ننال نحن نعمة هذه الدعوة.
11ـ وحيث إن فكر الآريوسيين هذا يظهر غير لائق وغير معقول، لذلك فمن الضروري أن يرجع هذا التماثل وهذه الوحدة بين الآب والابن إلى جوهر الابن نفسه، لأنه إن لم يكن سبب التماثل هو وحده الجوهر، فلن يظهر أن الابن يملك شيئًا أكثر من المخلوقات كما سبق القول ولا حتى أنه هو مثل الآب، لكنه سيكون كالآب في التزامه بتعاليم الآب وهو يختلف عن الآب في أن الآب هو آب، أما التعاليم والوصايا فهي للآب. وإن كان الابن هو مثل الآب من جهة التعاليم والوصايا فحينئذٍ ـ بحسب رأيهم ـ يكون الآب أبًا بالاسم فقط، والابن لن يكون صورة الآب التي لا تتبدّل أو بالحري لن يظهر أن له صفات الآب الذاتية وأنه يماثله. لأنه أية مماثلة أو صفات ذاتية يمكن أن يكون لمن هو مختلف تمامًا عن الآب؟ فبولس رغم أنه علّم بنفس تعاليم المخلّص، إلاّ أنه لم يكن مثله في الجوهر.
فهؤلاء لأن عندهم مثل هذه الأفكار، يتكلّمون بافتراءات كاذبة. لكن الابن والآب هما واحد، كما قلنا سابقًا. وبنفس الطريقة فالابن هو مثل الآب ومن ذات الآب كما يمكن أن يرى وأن يفهم المرء أن أي ابن هو من أبيه، وكما يمكن أن يرى أن الشعاع هو من الشمس. إذًا لأن علاقة الابن بالآب هي هكذا، فحينما يعمل الابن يكون الآب هو العامل، وعندما يأتي الابن إلى القديسين فالآب هو الذي يأتي في الابن، كما وعد حينما قال ” نأتي أنا والآب ونصنع عنده منزلاً ” (يو23:14). لأنه في الصورة يُرى الآب كما أنه في الشعاع يكون النور. لذلك أيضًا وكما قلنا قبل ذلك بقليل، فحينما يُعطى الآب النعمة والسلام، فالابن أيضًا يعطيهما، كما يكتب بولس في كل رسالة له قائلاً ” نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح ” (رو7:1، 1كو3:1، أف1، 2). لأنه توجد نعمة واحدة وهي نفس النعمة التي من الآب في الابن، كما أن نور الشمس وشعاعها هما واحد، وكما أن إنارة الشمس تحدث بواسطة الشعاع. وهكذا أيضًا حينما يدعو الرسول لأهل تسالونيكي فهو يقول لهم ” والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يُهدي طريقنا إليكم ” (1تس11:3) فهو بهذا يحفظ وحدة الآب والابن معًا. فهو لم يقل يهديان، كما لو كانت هناك نعمة مزدوجة تعطى من مصدرين: هذا وذاك، بل قال “يهدي” لكي يبيّن أن الآب يُهدي بواسطة الابن، كل هذا كان ينبغي أن يخجل منه هؤلاء عديمو التقوى، ولكنهم لا يخجلون.
12ـ لأنه لو لم تكن هناك وحدة (في الجوهر) ولو لم يكن الكلمة هو وليد جوهر الآب كالشعاع من النور، وكان الابن مختلفًا في الطبيعة عن الآب، لكان يكفي أن الآب وحده هو الذي يُعطي، طالما أن أي واحد من المخلوقات لا يشترك مع خالقه في العطاء. ولكن الآن كما هي حقيقة الأمر، فإن مثل هذا العطاء يُظهر وحدة الآب والابن. فلا أحد يصلي إلى الله والملائكة أو إلى أي مخلوق آخر، لكي ينال منهم شيئًا وليس هناك من يدعو قائلاً ” ليت الله والملاك يعطيك ” ولكنه يُطلَب من الآب والابن، بسبب وحدتهما (في الجوهر) ووحدة عطائهما. لأن ما يُعطىَ إنما يُعطىَ بواسطة الابن. وليس هناك شئ إلاّ ويعمله الآب بالابن. لأن مَن يطلب هكذا ينال بالتأكيد نعمة. فإن كان رئيس الآباء يعقوب وبينما هو يبارك حفيديه افرايم ومنسى قال “.. الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم. الملاك الذي خلّصني من كل شر يبارك الغلامين .. ” (تك15:48ـ16)، فهو لم يُقرِن أي من أولئك الذين خُلقوا بالطبيعة ملائكة، مع الله خالقهم. كما أنه لم يُهمِل ذكْر الله الذي رعاه، ولكنه طَلَبَ البركة لحفيديه من الملاك. لأنه بقوله ” الذي خلّصني من كل شر، لم يشر إلى ملاك مخلوق، بل إلى كلمة الله، الذي قَرَنَه مع الآب في طلبته، الذي بواسطته يخلّص الله أولئك الذين يريدهم لأنه إذ يعرف أنه يُدعى أيضًا ملاك المشورة العظمى للآب ” (إش6:9س)، قال إنه ليس هناك سواه هو الذي يُعطى البركة ويخلّص من الشر. ومع أنه استحق أن ينال البركة من الله إلاّ أنه عندما رغب في مباركة حفيديه، فإنه طلب ذلك من الملاك الذي كان قد سبق وأن طلب منه البركة لنفسه قائلاً: ” لن أتركك إن لم تباركني ” (تك26:32). إذ أن هذا الملاك كان هو الله بحسب ما ذَكَرَ يعقوب نفسه قائلاً: ” قد رأيت الله وجهًا لوجه ” (تك30:32). وهذا هو الذي صلّى إليه أن يبارك أيضًا ابني يوسف. فما يناسب عمل الملاك إذًا هو أن يخدم أوامر الله، وكثيرًا ما كان يذهب أمامهم لكي يطرد الأموريين، وكان يُرسِل ليحرس الشعب في الطريق[4]. لكن ليست هذه هي أعماله بل هي أعمال الله الذي أمره وأرسله، وهو أيضًا الذي يخلّص الذين يريد أن يخلّصهم. لهذا فملاك المشورة لم يكن سوى الرب الإله نفسه الذي قد رآه يعقوب وهو الذي قال له ” وها أنا معك وأحفظك حيثما تذهب ” (تك15:28).
ولم يكن آخر بل أيضًا كان هو الله الذي لم يسمح للابان أن يخدع يعقوب وأَمَرَه ألاّ يتكلّم بالشر معه، ولم يكن أيضًا سوى الله الذي توسّل هو إليه قائلاً ” نجني من يد أخي عيسو. لأني خائف منه ” (تك11:32س)، ولأنه أيضًا حينما تحدّث مع زوجاته عن لابان قال ” الله لم يسمح له أن يصنع بي شرًا ” (تك7:31).
13ـ وداود أيضًا لم يدع إلهًا آخر سوى الله نفسه لكي ينجيه عندما صرخ إليه قائلاً ” إلى الرب في ضيقي صرخت فاستجاب لي يا رب نج نفسي من شفاه الكذب من لسان غش ” (مز1:120ـ2). وأيضًا في اليوم الذي أنقذه فيه الرب من يد جميع أعدائه ومن يد شاول رنّم بكلمات الفرح شاكرًا الله هكذا ” أحبك يا رب يا قوتي. الرب صخرتي وحصني ومنقذي ” (مز1:18ـ2). وبولس بعد أن احتمل اضطهادات كثيرة. لم يقدّم الشكر إلى أحد سوى إلى الله وحده إذ قال ” ومن الجميع أنقذني الرب الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي ” (2تيمو11:3، 2كو10:1).
كما أن إبراهيم واسحق لم يباركا أحدًا سوى الله. فاسحق طلب لأجل يعقوب قائلاً: ” والله القدير يباركك ويجعلك مثمرًا ويكثرك فتكون جمهورًا من الشعوب ويعطيك بركة أبي إبراهيم ” (تك3:28ـ4). ولكن إن كان الله وحده وليس سواه هو الذي يبارك وينجي وليس سوى الرب نفسه هو الذي أنقذ يعقوب، وهو الذي أعطى لرئيس الآباء البركة التي طلبها لأحفاده، فمن الواضح أن يعقوب لم يُقرن مع الله ـ في صلاته ـ أحد سوى كلمة الله، لأنه هو وحده الذي يعلن الآب، ومن أجل هذا دعى كلمة الله بـ “الملاك”[5]. وهذا هو ما فعله الرسول أيضًا حينما قال ” نعمة لكم وسلام من الله والرب يسوع المسيح ” (رو7:1). فإنه بهذا صارت البركة مؤكّدة بسبب وحدة الآب والابن، ولأجل ذلك فالنعمة التي تعطى منهما هي واحدة وهي هي نفسها. فرغم أن الآب يعطي النعمة، إلاّ أنها تُوهب بالابن، ورغم أن الابن هو الذي يَهِبُ النعمة، فالآب هو الذي يعطيها بالابن وفي الابن. لأن الرسول يقول وهو يكتب إلى أهل كورنثوس ” أشكر إلهي في كل حين من جهتكم على نعمة الله المعطاة لكم في يسوع المسيح ” (1كو4:1).
وهذا يمكن أن نراه في مثال النور والشعاع، لأن ما ينيره النور إنما ينيره بشعاعه، وما يشعه الشعاع فهو يأخذه من النور، هكذا أيضًا حينما يُرى الابن يُرى الآب، لأنه هو شعاع الآب، ولذلك فالآب والابن هما واحد (في الجوهر).
14ـ ولا يستطيع أحد أن يقول هذا بالنسبة للأشياء الصائرة والمخلوقة لأن ما يعمله الآب، لا يعمله أي ملاك أو أي مخلوق آخر، لأن ولا واحد من هؤلاء هو علّة فاعلة بل هو من الأشياء المخلوقة، وفضلاً عن ذلك فلأنها بعيدة ومنفصلة عن الإله الوحيد ومختلفة في الطبيعة وهي أيضًا مخلوقة، فإنها لا تستطيع أن تعمل ما يعمله الله، كما أنها ـ كما قلت سابقًا ـ لا تستطيع أن تشترك مع الله في إعطاء النعمة.
ولا يستطيع أحد عندما يرى ملاكًا أن يقول إنه قد ر أي الآب لأن الملائكة كما هو مكتوب ـ هي أرواح خادمة، مرسلة للخدمة (عب14:1)، وهم يبشرون بالعطايا التي تُوهَب من الآب بواسطة الكلمة إلى أولئك الذين ينالونها.
كما أن الملاك نفسه عند ظهوره، يعترف أنه قد أُرسِل من سيّده كما اعترف جبرائيل عندما ظهر لزكريا وأيضًا عندما ظهر لمريم والدة الإله. ومن يرى منظر ملائكة يعرف أنه ر أي ملاكًا ولم ير الله. فزكريا ر أي ملاكًا، وإشعياء ر أي الرب ومنوح ابو شمشون ر أي ملاكًا، أما موسى فر أي الله وجدعون ر أي ملاكًا، أما إبراهيم فقد ظهر له الله. فالذين رأوا الله لم يقولوا إنهم رأوا ملاكًا، كما أن الذين رأوا ملاكًا اعتبروا أنهم قد رأوا الله لأن الأشياء المخلوقة هي بالطبيعة تختلف اختلافًا عظيمًا بل بالحري اختلافًا كاملاً عن الله الخالق، ولكن يحدث أحيانًا أن يُرى ملاك، والذي يراه يسمع صوت الله، كما حدث في العليقة ” لأن ملاك الرب ظهر في لهيب نار من العليقة ” (خر2:3)، وكلّم الله موسى من العلّيقة قائلاً: ” أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب ” (خر6:3)، ولكن الملاك لم يكن هو إله إبراهيم، بل الذي تكلّم في الملاك هو الله فالذي ظهر هو ملاك، ولكن الله تكلم فيه. لأنه كما تكلّم الله مع موسى في الخيمة من خلال عمود السحاب هكذا أيضًا يظهر الله ويتكلّم من خلال الملائكة، مثلما تكلّم إلى يشوع بن نون بواسطة ملاك (يش2:1 الخ).
فإن ما يتكلّم به الله من الواضح أنه يتكلّم به بواسطة الكلمة وليس بواسطة آخر. فالكلمة ليس منفصلاً عن الآب، وليس له جوهر غير جوهر الآب ولا هو غريب عنه. فالأعمال التي يعملها، هي أعمال الآب وهو الخالق مع الآب، فالعطايا التي يعطيها الابن، هي عطايا الآب. والذي قد ر أي الابن، يعرف أنه برؤيته له، لم ير ملاكًا ولا شخصًا أعظم من الملائكة، ولا أي مخلوق على وجه العموم، بل قد ر أي الآب نفسه والذي يسمع الكلمة يعرف أنه يسمع الآب نفسه. مثل ذلك الذي يستنير بواسطة الشعاع، يعرف أنه يستنير بواسطة الشمس.
15ـ ولأن الكتاب المقدّس يريدنا أن نفهم هذا الأمر هكذا، فقد أعطانا مثل هذه الإيضاحات، التي تكلّمنا عنها أعلاه، والتي بها يمكننا أن نُخجِل اليهود الخائنين من جهة وأن ندحض ادعاءات الوثنيين[6] من الجهة الأخرى، الذي يفكرون ويظنون أننا حينما نتحدّث عن الثالوث، فنحن نعترف بآلهة متعدّدة. لأنه كما يتضّح من المثال، نحن لا نقدم ثلاثة بدايات أو ثلاثة آباء كما يفعل أتباع ماركيون[7] وماني[8] حيث إننا لن نعرض صورة ثلاثة شموس بل شمس واحدة وشعاع واحد. وهناك نور واحد من الشمس في الشعاع، وهكذا فنحن لا نعرف سوى بداية واحدة ونعترف أن الكلمة خالق الكلّ ليس له مصدر آخر للاهوته سوى لاهوت الإله الوحيد، لأنه مولود منه. وعندئذٍ يكون الآسيويون بالحري هم المتهمين بتعدّد الآلهة أو الإلحاد، لأنهم يهذون بالقول عن الابن إنه مخلوق وغريب عن جوهر الآب وإن الروح القدس أيضًا جاء من العدم. لأنهم إما أن يقولوا إن الكلمة ليس هو الله، أو يقولوا ـ بسبب ما قد كتب عنه ـ إنه هو الله. لكنه ليس من ذات جوهر الآب وهكذا يقدمون لنا آلهة متعدّدة بسبب اختلاف الآلهة في الجوهر. إلاّ إذا تجاسروا أن يقولوا إن الابن يدعى إلهًا بالمشاركة فقط (في الجوهر) مثل كل المخلوقات الأخرى.
وحتى إن كان هذا هو تصوّرهم فهم مازالوا على كفرهم. حيث إنهم يعتبرون الكلمة كواحد من بين المخلوقات. ولكن لا ندع هذا الفكر يأتي إلى أذهاننا إطلاقًا. لأن الألوهة هي واحدة، وهي كائنة أيضًا في الكلمة. وإله واحد هو الآب، كائن بذاته، إذ هو ضابط الكل وظاهر في الابن حيث إنه يتخلّل كل الأشياء بواسطته، وظاهر في الروح القدس حيث إنه يعمل كل شيء بالكلمة في الروح القدس. لأننا بهذا نعترف أن الله واحد في ثالوث، ونقول إن هذا الإيمان بالإله الواحد في ثالوث هو أكثر تقوى جدًا من التعليم بإله الهراطقة بأنواعه الكثيرة وأجزائه العديدة.
16ـ لأنه إن لم يكن الأمر كذلك، وكان الكلمة مخلوقًا ومصنوعًا من العدم، فهو إما أنه ليس إلهًا حقيقيًا، بسبب أنه هو نفسه واحد من المخلوقات، أو إن كانوا يدعونه إلهًا خجلاً من الكتاب المقدّس، فينبغي بالضرورة أن يقولوا بوجود إلهين، واحد خالق، والآخر مخلوق ووجب أن يعبدوا ربين، واحد غير مخلوق والآخر مخلوق ومصنوع، وينبغي أن يكون لهم إيمانان إيمان بالإله الحقيقي وإيمان بواحد آخر صنعوه وصاغوه بأنفسهم ودعوه إلهًا. ويتبع بالضرورة عن هذا عمى عظيم جدًا حتى أنهم حينما يسجدون لغير المخلوق فَهُم يرفضون المخلوق وحينما ينشغلون بالإله المخلوق، فإنهم يتحوّلون عن الإله الخالق، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الواحد كائنًا في الآخر، لأن طبيعتهما وأفعالهما هي غريبة ومختلفة عن بعضها. وحيث إنهم يفكرون بهذه الطريقة، فحتمًا ستقودهم خيالاتهم إلى الاعتقاد بوجود عدد أكثر من الآلهة، لأن هذه هي محاولات أولئك الذين قد ابتعدوا عن الله الواحد. ولماذا إذًا إن كان للأريوسيين هذه التصّورات والآراء، لا يحسبون أنفسهم مع الوثنيين؟ لأنهم مثل هؤلاء تمامًا يعبدون المخلوق بدلاً من الله خالق الكّل. وبينما يتحاشون تسميتهم بالوثنيين لكي يخدعوا غير المحنكين، إلاّ أنهم يضمرون في باطنهم فكرًا مشابهًا لفكر الوثنيين، بل ودائمًا ما يرددون قائلين ” نحن لا نعتقد في اثنين غير مخلوقين ” معتبرين أن قولهم هذا مليء بكل حكمة مع أنه من الواضح أنهم يقولونه لكي يخدعوا البسطاء. لأنه باعترافهم وقولهم ” نحن لا نقول باثنين غير مخلوقين ” فهم يقرون بوجود إلهين مختلفين في طبيعتهما واحد مخلوق، والآخر غير مخلوق، ورغم أن الوثنيين يعبدون إلهًا غير مخلوق وآلهة أخرى كثيرة مخلوقة، فهؤلاء الآسيويون يعبدون واحدًا غير مخلوق وواحدًا مخلوقًا، وهم في هذا لا يختلفون عن الوثنيين. لأن الإله الذي يدعونه مخلوقًا هو واحد بين كثيرين، وأيضًا الآلهة الكثيرة عند الوثنيين لها نفس طبيعة هذا الواحد، لأن الواحد والكثيرين هم مخلوقات.
إنهم تعساء وتعاستهم هي بالأكثر ناتجة عن معتقداتهم التي هي ضد المسيح لأنهم قد سقطوا من الحق وقد فاقوا اليهود في حياتهم بإنكار المسيح وهم منغمسين مع الوثنيين، ومبغضين له مثلهم، عابدين الخليقة والآلهة المتعدّدة، لأنه يوجد إله واحد وليس كثيرون. وواحد هو كلمته وليسوا كثيرين لأن الكلمة هو الله[9]، وهو وحده صورة الآب. ولأنه هو المخلّص فإنه جعل اليهود يضطربون من هذه الكلمات: ” الآب نفسه، الذي أرسلني، هو يشهد لي، لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته وليست لكم كلمة ثابتة فيكم، لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به ” (يو37:5ـ38). لذلك جمع بين “الكلمة” و “الهيئة” لكي يوضّح أن كلمة الله هو نفسه صورة ورسم وهيئة أبيه، وأن اليهود الذين لم يقبلوا الذي تكلّم إليهم لم يقبلوا الكلمة الذي هو صورة الله. وهذا أيضًا هو ما قد رآه يعقوب رئيس الآباء الذي نال البركة من الله وأعطى اسم إسرائيل بدلاً من يعقوب كما يشهد الكتاب الإلهي، قائلاً: ” وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل (وجه الله)” (تك31:32) وهذا هو نفسه الذي قال: ” من رآني فقد ر أي الآب ” و ” أنا في الآب والآب في ” و ” أنا والآب واحد ” (يو9:14ـ10، يو30:10).
وهكذا فإن الله واحد والإيمان بالآب والابن هو واحد. لأنه رغم أن الكلمة هو إله، فالرب إلهنا رب واحد. لأن الابن هو خاص بذاك الواحد وغير منفصل عنه بحسب ذاته وخصوصية جوهره.
17ـ ومع ذلك فالآريوسيون إذ لا يخجلون من هذا فإنهم يجيبون: [ ليس كما تقولون أنتم، بل كما نريد نحن لأنه طالما قد رفضتم آراءنا السابقة، فإننا قد أوجدنا رأيًا جديدًا، نقول فيه: كما أن الابن والآب واحد، وكما أن الآب هو في الابن والابن في الآب، هكذا أيضًا نكون نحن واحدًا فيه ].
لأن هذا هو ما كُتِبَ في الإنجيل بحسب يوحنا، وهو ما طَلَبَه المسيح لأجلنا في هذه الكلمات ” أيها الآب القدوس إحفظهم في اسمك الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن ” (يو11:17). وبعدها بقليل يقول ” ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم أنك أرسلتني ” (يو20:17ـ23). وبعد ذلك فهؤلاء الرجال الخادعون، كأنهم قد وجدوا حجة يستندون عليها يضيفون ويقولون [ إن كنا نصير نحن واحدًا في الآب، هكذا أيضًا يكون الابن واحدًا مع الآب، وهكذا أيضًا يكون هو في الآب، فكيف تستنتجون أنتم من قوله ” أنا والآب واحد”، و” أنا في الآب والآب فيّ ” أن الابن هو من ذات جوهر الآب ومساوٍ له؟ وهذا يتطلّب إما أن نكون نحن أيضًا من ذات جوهر الآب أو أن يكون هو غريب عن هذا الجوهر مثلما نحن غرباء عنه].
هكذا يثرثر هؤلاء الناس، ولكني لا أرى في كلامهم الباطل هذا سوى وقاحة غير معقولة وجنون شيطاني، حيث إنهم يقولون مثلما قال الشيطان ” نصعد إلى السماوات ونصير مثل العلّي “[10] لأن ما يُعطَى للإنسان بالنعمة هذا يجعلونه مساويًا لألوهية المُعطي لأنهم إذ سمعوا أن البشر سيصيرون أبناء لله، ظنوا أنفسهم مساويين للابن الحقيقي بالطبيعة والآن أيضًا إذ يسمعون من المخلّص قوله: ” لكي يكونوا واحدًا، كما نحن “، يخدعون أنفسهم وتصل بهم الوقاحة لدرجة أنهم يظنون أنهم سيوجدون مثلما الابن هو كائن في الآب والآب في الابن، غير معتبرين بسقوط أبيهم الشيطان، الذي سقط نتيجة لمثل هذا التخيّل والخداع.
18ـ فإن كان كلمة الله ـ كما قلنا مرات عديدة ـ هو مثلنا ولا يختلف عنا في شئ سوى في الزمن، فهو يكون مساويًا لنا وله نفس الوضع الذي لنا عند الآب ولا ينبغي عندئذٍ أن يدعى الابن الوحيد ولا الكلمة الوحيد ولا كلمة الآب الوحيد، بل يطلق علينا جميعًا نفس الاسم بصورة مشتركة نحن الذين نماثله، لأنه من الصواب أن الذين لهم طبيعة واحدة، يكون لهم نفس الاسم، حتى لو اختلفوا الواحد عن الآخر من جهة الزمن لأن آدم كان إنسانًا وبولس كان إنسانًا وكل من يولد اليوم هو إنسان، فالزمن ليس هو الذي يغيّر طبيعة الجنس البشري. إذًا فإن كان الكلمة يختلف عنا فقط من جهة الزمن، فعندئذٍ يجب أن نكون مثله هو. ولكن حقيقة الأمر أننا لسنا الكلمة ولا الحكمة، كما أنه هو ليس مخلوقًا ولا مصنوعًا، وبالتأكيد سيتساءلون: لماذا هو فقط من دوننا يكون هو الكلمة مع أننا جميعًا قد خُلقنا بواسطة الله الواحد؟ لكن إن كانت هذه الأمور تناسبهم لكي يتكلّموا بها، فهي لا تناسبنا لأنه لا يجب أن نفكر في تجاديفهم هذه. ومع ذلك رغم أن هذه الآيات لا تحتاج إلى توضيح إذ أن معناها واضح جدًا في إيماننا المستقيم فإننا لكي نوضّح ضلالهم هنا أيضًا في فهم هذه الآيات وعدم أرثوذكسيتهم سوف نشرحها بعد قليل وبحسب ما استلمناه من الآباء.
لقد اعتاد الكتاب المقدّس أن يستخدم ظواهر الطبيعة كصور وإيضاحات لأجل البشر وهو يفعل هذا لكي يشرح أفعال البشر الإختيارية مما يحدث في الطبيعة، وهكذا يُظهر سلوكهم إما شريرًا أو بارًا. ففي حالة ما هو شرير مثلاً يأمر قائلاً: ” لا تكونوا كفرس أو بغل بلا فهم .. ” (مز9:32)، وعندما يلوم أولئك الذين تشبهوا بهذه الحيوانات يقول ” إنسان في كرامة ولا يفهم يشبه البهائم التي تباد ” (مز20:49) وأيضًا يقول ” صاروا أحصنة معلوفة سائبة ” (إر8:5). والمخلّص لكي يكشف فكر هيرودس قال ” قولوا لهذا الثعلب ” (مت32:13). ومن الجهة الأخرى حذّر تلاميذه ” ها أنا أرسلكم كحملان في وسط ذئاب فكونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام ” (مت16:10). وهو قال هذا لا لكي نصير بالطبيعة حيوانات، أو حيّات، أو حمام لأنه هو نفسه لم يخلقنا هكذا، والطبيعة نفسها لا تسمح بذلك، ولكن لكي نتجنّب الانفعالات الحيوانية الخاصة بأحدها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نكون واعين لمكر الحيوان الآخر لكي لا نُخدع به، ولكي نكتسب أيضًا وداعة الحمام.
19ـ وأيضًا فإن المخلّص إذ يتخّذ من الأمور الإلهية نماذج يقدّمها للإنسان فإنه يقول ” كونوا رحماء كما أن أباكم الذي في السماوات هو رحيم “، ” كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل ” (لو36:6، مت48:5). وهو قد قال هذا ليس بالطبع لكي نصير مثل الآب، لأنه مستحيل علينا نحن المخلوقين الذين قد خُلقنا من العدم أن نصير مثل الآب. ولكن كما أنه أمرنا ” لا تصيروا كالحصان ” لا لئلا نكون كالحيوانات غير الناطقة، بل لكي لا نتمثل بها في نقص العقل، هكذا فقد قال ” كونوا رحماء مثل الآب ” لا لكي نصير مثل الله، بل لكي عندما نتطلّع إلى أعماله الصالحة فإن ما نفعله من أعمال حسنة إنما نفعله ليس لأجل الناس بل لأجله هو، حتى نأخذ مكافأتنا منه وليس من الناس.
لأنه كما أنه يوجد ابن واحد حسب الطبيعة وهو الابن الحقيقي الوحيد الجنس، هكذا نصير نحن أيضًا أبناء، لكن ليس مثله هو بالطبيعة وبالحق، بل بحسب نعمة ذاك الذي دعانا، ورغم أننا بشر من الأرض، ومع ذلك نصير آلهة ليس مثل الإله الحقيقي أو كلمته، بل كما قد سرّ الله الذي قد وهبنا هذه النعمة؛ هكذا أيضًا نصير رحماء مثل الله، لا بأن نصير مساويين لله ولا بأن نصير صانعي خيرات بالطبيعة وبالحقيقة، لأن صُنع الخير في ذاته ليس من أنفسنا بل هو من الله ـ بل لكي نوزع على الآخرين الخيرات الموهوبة لنا من الله بالنعمة، دون أن نفرّق بين الناس، بل مقدّمين خدمتنا الرحيمة باتساع للجميع. لأننا بهذه الطريقة وحدها وليس بأي طريقة أخرى نصير متشبّهين به، حينما نقدّم للآخرين العطايا التي ننالها منه. وكما أننا نقدم معنى واضحًا ومستقيمًا لهذه الآيات، هكذا يكون الأمر أيضًا بالنسبة للآيات التي ذَكَرتُ من يوحنا، فهو لا يقول إننا ينبغي أن نصير مثلما أن الابن هو في الآب: فمن أين يمكن أن يكون هكذا طالما الابن هو كلمة الله وحكمته، وبينما نحن قد جُبلنا من الأرض، فإن الابن هو بالطبيعة وبالجوهر هو الكلمة والإله الحقيقي. لأنه هكذا يتكلّم يوحنا: ” ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية ” (1يو20:5).
ونحن به نصير أبناء بالتبني وبالنعمة، مشتركين في روحه، لأنه مكتوب ” وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه ” (يو12:1). لذلك فهو أيضًا الحق لأنه يقول: ” أنا هو الحق ” (يو6:14). وفي مخاطبته لأبيه قال: ” قدّسهم في حقلك كلامك هو حق ” (يو17:17). أما نحن فبالتمثل به نصير فاضلين وأبناء.
20ـ لذلك فهو لم يَقُل ” لكي يكونوا واحدًا كما نحن لكي نصير كما هو بل كما أنه هو، وهو الكلمة، هو في أبيه، هكذا نحن أيضًا ونحن متخّذين أباه مثالاً لنا ونحن ناظرون إليه، نصير واحدًا فيما بيننا في الوفاق ووحدة الروح. ولا نكون في اختلاف مثل الكورنثيين[11]، بل يكون لنا قلب واحد ونفس واحدة مثل أولئك الخمسة آلاف الذين ذُكِروا في سفر الأعمال (انظر أع4:4، 32) والذين كانوا كواحدٍ. فنحن طبعًا لسنا أبناء كالابن، ولسنا آلهة مثله هو نفسه، ونحن لسنا مثل الآب، بل نصير “رحماء كالآب”. وكما سبق أن قلنا، فإننا عندما نصير واحدًا، كما أن الآب والابن هما واحد، فنحن لن نصير واحدًا مثلما أن الآب هو في الابن بالطبيعة وكذلك الابن في الآب، بل بحسب ما يتّفق مع طبيعتنا الخاصة ومن هذا يمكننا أن نتشكّل وأن نتعلّم كيف يجب أن نصير واحدًا، مثلما تعلّمنا أيضًا أن نكون رحماء. لأن الأشياء المتماثلة هي بالطبيعة واحدة بعضها مع بعض، لأن كل ذي جسد يُولَد منه جسد من نوعه، أما الكلمة فهو مختلف عنا، ولكنه مثل الآب، ولذلك فهو واحد مع أبيه بالطبيعة والحق. وأما نحن فلأننا من جنس واحد (لأن كل البشر قد جاءوا من واحد، وطبيعة البشر جميعهم هي واحدة)، فإننا نصير واحدًا بعضنا مع بعض بالنيّة الصالحة، واضعين أمامنا مثال الوحدة الطبيعية للابن مع الآب. ولأنه كما علّمنا الوداعة بنفسه قائلاً ” تعلّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب ” (مت29:11) لا لكي نصير مساويين له، لأن هذا غير ممكن ـ بل بنظرنا إليه نظل دائمًا ودعاء. هكذا هنا أيضًا، فهو إذ يريد أن تكون لنا نيّة صالحة بعضنا نحو بعض وتكون أُلفتنا حقيقية وثابتة وغير مضمحلّة، فإنه يجعل لنا من نفسه مثالاً ويقول: ” لكي يكونوا واحدًا، كما نحن ” تلك الوحدة التي لا انفصال فيها، أي بتعلّمهم منّا تلك الطبيعة غير المنقسمة، فإنهم بنفس الطريقة يحفظون الوفاق فيما بينهم، وكما سبق أن قلنا، فإن التمثّل بالأمور الطبيعية يمكن أن يتحقّق بين الناس بصورة مأمونة، حيث إنهم يظلّون بطبيعتهم غير متغيّرين، بينما سلوك الناس هو قابل للتغيّر، فيمكن للإنسان بنظره نحو غير المتغيّر بالطبيعة، أن يتجنّب ما هو رديء، وأن يعيد تشكيل نفسه على حسب الصورة الأفضل، ولهذا السبب أيضًا يكون للكلمات: ” ليكونوا هم أيضًا واحد فينا ” معنى مستقيم.
21ـ فلو أنه كان من الممكن عندئذٍ أن نصير مثل الابن في الآب، لكان ينبغي أن تكون الكلمات هكذا ” لكي يكونوا هم واحدًا فيك ” مثلما أن الابن هو في الآب، ولكنه لم يَقُل الكلمات هكذا. بل بقوله “فينا”، أظهر المسافة والاختلاف بيننا وبين الابن إذ أنه هو وحده كائن في الآب كالكلمة الوحيد والحكمة الوحيد، ولكننا نحن موجودون في الابن وبواسطته موجودين في الآب. وبكلامه هكذا قصد هذا فقط: هكذا يمكن أن يصيروا واحدًا فيما بينهم بتمثلهم بوحدتنا، كما أننا واحد بالطبيعة وبالحق، وإلاّ فإنهم لن يستطيعوا أن يصيروا واحدًا إلاّ إذ تعلّموا من الوحدة الموجودة فينا. ويمكن أن نتعلّم أيضًا من بولس الرسول هذا المعنى الذي تعطيه كلمة “فينا” عندما نسمعه يقول ” فهذا أيها الأخوة حوّلته تشبيهًا إلى نفسي وإلى أبلوس من أجلكم لكي تتعلّموا “فينا” أن لا تفتكروا فوق ما هو مكتوب ” (1كو6:4). وبالتالي فإن كلمة “فينا” لم تذكر عن كينونة الابن في الآب، بل تقدم مثلاً وصورة بدلاً من أن يقول ” فليتعلّموا منا “. لأنه كما أن بولس يقدّم مثالاً للوحدة إلى أهل كورنثوس، هكذا تكون وحدة الابن والآب هي مثال تعليم ودرس للجميع، يمكن أن يتعلّموا بواسطته عن طريق تطلّعهم إلى الوحدة الطبيعية للآب والابن ـ كيف يجب أن يصيروا فيما بينهم واحدًا في الفكر. ولكن إن كانت كلمة “فينا” تحتاج أن تفسر بمعنى آخر فيمكن عندئذٍ أن تعني أنه: بواسطة قوة الآب والابن يصيروا واحدًا ويقولون “قولاً واحدًا ” (1كو10:1)، لأن هذا غير ممكن بدون معونة الله. وهذا المعنى يمكننا أن نجده أيضًا في الكتاب المقدس مثل ” بالله نصنع ببأس ” (مز12:60س) و ” بك ندوس أعداءنا ” (مز5:44س). فواضح إذًا أننا باسم الآب والابن نصير أشداء، ونصير واحدًا ممسكين برباط المحبة بقوة. وفي نفس المعنى يقول الرب ” وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد ” (يو22:17). فهنا أيضًا لم يَقُل ” لكي يكونوا فيك مثلما أنا فيك “. بل قال ” كما نحن ” والآن هو الذي يقول “كما” لا يقصد أن يتحدّث عن وحدة الطبيعة بل يتحدّث عن صورة ومثال لما ينبغي أن يكونوا عليه.
22ـ إذًا فالكلمة هو في الواقع وبالحقيقة واحد مع الآب في الجوهر. أما نحن فقد أُعطِيَ لنا أن نتشبّه بهذه الطبيعة كما سبق أن قيل لأنه أضاف مباشرةً ” أنا فيهم وأنت فيّ، ليكونوا مكملّين إلى واحد ” (يو23:17). ولذا فالرب هنا يطلب لأجلنا شيئًا أعظم وأكمل. لأنه واضح أن الكلمة قد جاء لكي يكون فينا لأنه قد لبس جسدنا. وبقوله ” وأنت أيها الآب فيّ ” فهو يعني ” لأني أنا كَلِمَتك، وحيث إنك أنت فيّ، بسبب كوني كَلِمَتك، وأنا فيهم بسبب الجسد، ومنك يتحقق خلاص البشر فيّ، لذلك أسأل أن يصيروا هم واحدًا، بسبب الجسد الذي فيّ وبحسب كماله لكي يصيروا هم أيضًا كاملين إذ يكون لهم وحدة مع الجسد، ولأنهم قد صاروا واحدًا في هذا الجسد، فإنهم كما لو كانوا محمولين فيّ، يصيرون جميعًا جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا (أف13:4) لأننا جميعًا، باشتراكنا فيه، نصير جسدًا واحدًا، لأننا نحصل على الرب الواحد في أنفسنا.
وطالما أن هذه الفقرة لها هذا المعنى فإننا بذلك ندحض هرطقة أعداء المسيح بوضوح أكثر. وإني أكرر القول، إنه لو كان قد قال ببساطة وبصورة مطلقة ” لكي يكونوا واحدًا فيك ” أو ” لكي يصيروا هم وأنا واحدًا فيك ” لكان أعداء الله قد وجدوا بعض العذر رغم أنه عذر قبيح، ولكن حقيقة الأمر أنه لم يتكلّم هكذا بالمرّة بل قال ” كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ” (يو21:17). وبالإضافة إلى ذلك فإنه باستعماله لفظة “كما” فهو يشير إلى أولئك الذين يصيرون مثله كما هو في الآب ولكن عن بعد، عن بعد ليس من جهة المكان ولكن من جهة الطبيعة لأنه من جهة المكان ليس هناك شئ بعيد عن الله، لكن من جهة الطبيعة وحدها فإن كل الأشياء هي بعيدة عن الله. وكما قلت سابقًا فإن استعمال الأداة “كما” لا يعني التطابق، ولا المساواة ولكن يعني التشّبه بمثال يُنظر إليه من جهة معيّنة.
32ـ وهذا ما يمكننا أن نتعلّمه أيضًا من المخلّص نفسه، حينما يقول ” لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ” (مت40:12). فإن يونان طبعًا لم يكن مثل المخلّص، ويونان لم ينزل إلى الجحيم، ولا الحوت كان هو الجحيم كما أن يونان حينما ابتلعه الحوت لم يُخرج أولئك الذين كان الحوت قد سبق وابتلعهم قَبْلَه، بل هو وحده الذي خرج من الحوت حينما قذفه. لذلك فليس في لفظة “كما” هنا أي تطابق أو مساواة، بل شيئان مختلفان، فهي توضح نوعًا من التشابه في حالة يونان من جهة الأيام الثلاثة، وبنفس الطريقة فحينما يقول الرب “كما” فإننا نحن أيضًا لا نصير كالابن في الآب ولا كالآب في الابن، لأننا نحن البشر جميعًا نصير واحدًا في الفكر واتفاق الروح مثلما أن الآب والابن واحد.
والمخلّص سيكون مثل يونان في بطن الأرض ولكن بما أن المخلّص ليس هو يونان، وليس كما أُبتلع يونان هكذا نزل المخلّص إلى الجحيم لأن الابن مختلف عن يونان، هكذا بنفس الطريقة فإن صرنا نحن أيضًا واحدًا، مثلما أن الابن هو في الآب، فسوف لا نصير مثل الابن ولن نكون مساويين له، لأن الحديث عن الابن شئ، والحديث عنا شئ آخر. ولهذا السبب فإن لفظة “كما” تنطبق علينا، حيث إن الأشياء التي تختلف عن بعضها في الطبيعة، يمكن أن تصير مشابهة لبعضها البعض حينما ينظر إليها من جهة علاقة معينة تربط بينها. ولذلك فالابن ذاته هو في الآب لأن لهما طبيعة بسيطة[12]، والابن هو ابن الآب حسب الطبيعة، أما نحن فلسنا أبناء للآب حسب الطبيعة. ولهذا فالأمر قد احتاج أن يكون أمامنا نحن البشر مثال كي نكون واحدًا ولهذا قال عنا ” كما أنك أنت فيّ وأنا فيك “. وكأنه يقول “وحينما يصيرون كاملين هكذا حينئذٍ يَعرِفُ العالم أنك أنت أرسلتني” لأنني لو لم أكن قد جئت ولبست جسدهم، لما استطاع أحد منهم أن يصير كاملاً، بل لَظَلَ الجميع في الفساد. أيها الآب اعمل إذًا فيهم، وكما أعطيتني أن ألبس هذا الجسد إعط روحك لهم، لكي يصيروا هم أيضًا بالروح، واحدًا وأن يصيروا مكمّلين فيّ. لأن تكميلهم يدّل على أن كلمتك قد سَكَنَ بينهم، وعندما يراهم العالم كاملين وحاملين لله، فسوف يؤمن أنك أنت أرسلتني وأني أنا قد جئت هنا ـ لأنه من أين يأتيهم الكمال لو لم أكن أنا كلمتك قد أخذت جسدهم، وصرت إنسانًا، وقد أكملت الذي أعطيتني إياه أيها الآب إلى النهاية؟ قد اكتمل العمل، لأن البشر، وقد اُفتُدوا من الخطية لا يبقون أمواتًا بعد. بل إذ يتألهون[13] فإنهم بنظرهم إلىّ يصير لهم رباط المحبة فيما بينهم.
24ـ ونحن إذ قد تكلّمنا كثيرًا محاولين شرح كلمات هذه الفقرة، فإن يوحنا المبارك في رسالته أظهر معنى هذه الفقرة بكلمات قليلة وأكثر كمالاً من كلماتنا، فهو يُظهر خطأ فهم أولئك الجاحدين، ويعلّمنا كيف أن الابن يختلف عنا في الطبيعة، وبذلك يوقف الآريوسيين عن التفكير في أنهم سيصيرون كالابن، لئلا يسمعوا القول ” أنت إنسان لا إله ” (حز2:28)، ” لا تقس نفسك بإنسان غني وأنت فقير ” (أم4:23س). فيوحنا يكتب هكذا ” بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه ” (1يو13:4). لذلك، فبسبب نعمة الروح الذي أُعطيَ لنا نصير نحن فيه وهو فينا. وحيث إن روح الله فينا لذلك فبواسطة سكناه فينا وبسبب حصولنا على الروح نُحسب أننا في الله وهكذا يكون الله فينا.
إذًا نحن لا نصير في الآب مثلما أن الابن كائن في الآب، لأن الابن ليس كائنًا في الآب بمجرد اشتراكه في الروح ولا هو ينال الروح بل بالحري هو نفسه الذي يَهِبُ الروح للجميع وليس الروح هو الذي يوّحد الكلمة مع الآب بل بالحري فإن الروح يأخذ من الكلمة. والابن كائن في الآب، ككلمته الذاتي وشعاعه، أما نحن فبدون الروح القدس فإننا نكون غرباء عن الله، وعن طريق اشتراكنا في الروح نصير أقرباء لله حتى أن وجودنا في الآب هو ليس منّا، بل هو خاص بالروح الموجود فينا والذي يسكن فينا، ونحن نحتفظ به في داخلنا عن طريق الإقرار كما يقول يوحنا ” مَنْ اعترف أن يسوع هو ابن الله فالله يسكن فيه وهو في الله ” (1يو15:4).
إذًا فما هي المشابهة وما هي المساواة التي لنا مع الابن؟ بل إن آراء الآريوسيين تُدحض من كل ناحية وخاصةً بكلمات يوحنا، أن الابن هو في الآب بطريقة، أما نحن فنصير في الآب بطريقة أخرى. وأننا لن نصير مثل الكلمة أبدًا، ولا الكلمة سيصير مثلنا، إلاّ إذا تجاسروا كما يفعلون عادة ـ فقالوا إن الابن باشتراكه في الروح وبتقدّمه في الفضيلة صار هو نفسه في الآب. ولكن حتى مجرد قبول هذا الفكر هو كُفر شديد لأن الكلمة ـ كما سبق أن قيل ـ هو الذي يُعطي الروح، وكل ما هو للروح قد أخذه من الكلمة.
25ـ إذًا فعندما يقول المخلّص ” كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ” فهو لا يعني بهذا أنه سوف يصير لنا تطابق معه. لأن هذا قد أوضحه في مثال يونان، ولكن كلامه هذا هو طلب إلى الآب لكي يَهِبُ الروح بواسطته للذين يؤمنون به، والذي به نصير في الله، كما كتب يوحنا وبهذا نكون متحدين فيه. وحيث إن الكلمة هو في الآب، والروح يُعطى من الكلمة فهو يريد أن ننال نحن الروح، لكي عندما نناله يصير لنا روح الكلمة الذي هو في الآب، وبسبب الروح سوف نتمجد نحن أيضًا ونصير واحدًا في الكلمة، ومن خلاله في الآب. وعندما يقول ” كما نحن” فهو لا يعني شيئًا آخر سوى أن يسأل أن تصير نعمة الروح المعطاة للتلاميذ ثابتة بلا تزعزع، لأن ما هو للكلمة بالطبيعة في الآب ـ كما قلت سابقًا ـ يريد أن يعطيه لنا بواسطة الروح بلا رجعة. وهذا ما عرفه الرسول، فقال ” مَن سيفصلنا عن محبة المسيح ” (رو35:8). لأن “هبات الله ونعمة دعوته هي بلا ندامة ” (رو29:11). إذًا فالروح هو الكائن في الله ولسنا نحن بذواتنا، ولكن حيث إننا نصير أبناء وآلهة بسبب الكلمة الذي فينا هكذا أيضًا سنصير في الابن وفي الآب، وسوف نحسب أننا صرنا واحدًا في الابن وفي الآب، بسبب وجود ذلك الروح فينا نحن وهو الروح الذي يكون في الكلمة الكائن في الآب، إذًا حينما يسقط إنسان من الروح بسبب شر ما فإنه عندما يتوب ويرجع عن سقطته فالنعمة تظّل مستمرة بلا ندامة في أولئك الذين يريدونها. وإلاّ فإن مَن سقط لا يعود الله ساكنًا فيه (بسبب أن الروح القدس الباراقليط الذي هو في الله قد هجر هذا الإنسان)، ولكن ذلك الخاطئ يصير في ذلك (الروح الشرير) الذي أخضع نفسه له كما حدث في حالة شاول لأن روح الله فارقه، وبغته روح رديء (1صم14:16). وعندما يسمع أعداء الله هذا الكلام فيجب عليهم أن يخجلوا ولا يعودوا يساوون أنفسهم بالله، ولكنهم لا يفهمون لأن ” الشرير لا يفهم معرفة ” (أم7:29)، ولا يحتملون كلمات التقوى بل يجدونها ثقيلة على مسامعهم.
1 يشير هنا إلى استيريوس الآريوسي.
2 هذه الكلمة وردت هكذا في الترجمة السبعينية للعهد القديم باليونانية وتعني نجم الصباح.
4 انظر سفر العدد 24:21، عاموس 9:2.
5 ἄγγελος باليونانية والفعل اليوناني ἀγγέλω معناه “يُعلِن” أو “يُبشر”
6 لم يفهم الوثنيين التعاليم المسيحية بخصوص الله الواحد مثلث الأقانيم، لهذا فقد اتهموا المسيحيين بأنهم يعبدون آلهة متعدّدة.
7 ماركيون: عاش في القرن الثاني وعلّم تعاليمًا خاطئة عن أن المسيحيين يؤمنون بإلهين: إله العهد القديم وهو إله متشدّد وقاسٍ وإله آخر حنون ومحب البشر وهو إله العهد الجديد.
8 ماني: هرطوقي من بلاد فارس علّم نفس تعاليم ماركيون تقريبًا. وُلد في عام 215 وخلط في تعاليمه ما بين العبادات الفارسية والمسيحية والديانات الشرقية وكان يؤمن بوجود بدايتين هما النور وهو مبدأ الصلاح والظلمة وهى مبدأ الشر.
12 تعبير أن الطبيعة الإلهية هى طبيعة بسيطة تعني أنها طبيعة واحدة غير منقسمة، أى أنه ليس للآب نصف الطبيعة الإلهية وللابن النصف الآخر، بل أن لهما نفس الطبيعة الإلهية الواحدة أو كما يقول القداس الإلهي عندما يتحدّث عن الروح القدس مشدّدًا على طبيعته الإلهية وعمله فينا بكونه هو أحد أقانيم الثالوث القدوس ذو الطبيعة الإلهية الواحدة فيقول ” البسيط في طبيعته ….. “.
13 هذا التعبير عند الآباء لا يعني أن الإنسان يصير بطبيعته إلهًا، بل يعني أنه يشترك في الحياة الإلهية، حياة البر والقداسة.