شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الثاني – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الإصحاح الثاني
يو 2: 1-3 “وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل. وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له، ليس عندهم خمر”.
مناسب جداً ان يجيء إلى بداية المعجزات، رغم ان الذين دعوه لم يكن لديهم هذا الهدف. كان احتفال بالعرس قد أقيم، وواضح ان الإشارة اليه، هي اشارة إلى شيء مقدس. وجاءت أم المخلص، وعندما دعي هو جاء مع تلاميذه، لكي يصنع المعجزة، لا لكي يتمتع بالاحتفال معهم. ولكن بشكل خاص جاء لكي يقدس بداية ميلاد الإنسان، وأنا أعني ميلاده حسب الجسد. لقد كان يليق بمن جاء لكي يجدد طبيعة الإنسان، وأن يعيد ما هو أفضل، لا ان يعطي بركته فقط للموجودين، وانما ايضاً ان يهيئ نعمة مقدماً للذين سوف يولدون، ويجعل مجيئهم إلى العالم مقدساً.
ويوجد سبب ثالث، لقد قيل للمرأة من قبل الله “بالحزن سوف تحبلين” (تكوين 3: 16) ألم تكن الحاجة أكثر إلى القضاء على هذه اللعنة ايضاً؟ والا كيف يمكننا ان نتفادى زواجاً مداناً؟ ولكن لأن المخلص هو محب البشر، فإنه يرفع هذه اللعنة. فهو فرح وسعادة الكل، وأكرم الزواج بحضوره لكي ما يزيل العار القديم الخاص بالحبل. لأنه ان كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الاشياء القديمة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً (2 كو 5: 17). ولذلك جاء مع تلاميذه إلى العرس. لقد كان ضرورياً حضور محبي المعجزات مع صانع المعجزات، لكي يجمعوا أعماله، فتصبح طعاماً لإيمانهم. وعندما فرغ خمر المحتفلين، سألت أمه، الرب الصالح محب البشر وقالت له “ليس لهم خمر” ولأن كل شيء تحت سلطانه، لكي يفعل ما يشاء، أخذت تحثه كي يقوم بالمعجزة.
يو 2: 4 “قال لها يسوع، مالي ولك يا امرأة. لم تأت ساعتي بعد”.
حسن جداً هو الأسلوب الذي اختاره لنا المخلص في صياغة حديثه. فهو لا يريد ان يتسرع في القيام بشيء لأنه لا يريد ان يظهر كصانع المعجزات، الذي لا يطلبه أحد، بل ينتظر حتى يدعوه المحتاجون، وليس الفضوليون. فهو يعطي النعمة لمن يحتاج، وليس لمن يريد ان يتمتع بالمشاهدة وعندما يتأخر عن القيام بمعجزة مطلوبة فإن الرجاء ينمو أكثر، وأيضاً، يريد المسيح ان يسجل اكرام الوالدين، فقد سمح بما ارادته أمه، رغم أنه لم يكن يريد القيام بالمعجزة.
يو 2: 5 “قالت أمه للخدام، مهما قال لكم فأفعلوه”.
كان لأمه تأثير “عظيم” في القيام بهذه المعجزة، وقد تمت ارادتها، لأنها طلبت من الرب ما يليق بها كأمه وهو كأبنها. وبدأت تعمل بأن هيأت الخدم لكي يجتمعوا لإطاعة ما سيأمر به.
يو 2: 7-10 “قال لهم يسوع املأوا الأجران ماء. فملأوها حتى الحافة. وقال لهم املأوا منها الآن، وقدموا إلى رئيس المتكأ فقدموا. فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول إلى خمر، ولم يكن يعلم من أين هي. لكن الخدم الذين ملأوا وقدموا علموا فدعا رئيس المتكأ العريس. وقال له كل انسان انما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتى سكر الحاضرون فحينئذ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن”.
فعل الخدام ما أمر به، وبقوة لا يمكن حتى وصفها تحول الماء إلى خمر، فهل هناك شيء أصعب على الذي يستطيع ان يفعل كل شيء؟ وهو الذي يدعو غير الموجودات إلى الوجود، فكيف لا يحول ما هو موجود اي الماء إلى خمر؟ لقد اندهش الحاضرون من ذلك، وهكذا كانت أعمال المسيح. ويبدو لي ان رئيس المتكأ يمدح العريس الذي أبقى الخمر الجيدة حتى النهاية، مما يدل على ان الخمر كانت فعلاً جيدة.
يو 2: 11 “هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل، وأظهر مجده فآمن به تلاميذه”.
أمور فائقة حدثت في وقت وأحد وبمعجزة وأحدة. الزواج المكرم تقدس، ولعنة المرأة ازيلت، (ولم تعد بعد في “حزن سوف تلد أولاداً” (تكوين 3: 16) لأن المسيح الآن يبارك أصل ميلادنا) ومجيء مخلصنا يشرق مثل اشعة الشمس، وبالإضافة إلى كل هذا لقد ثبت التلاميذ في الايمان بواسطة المعجزة.
ان السرد التاريخي سوف يقف عند الذي ذكرناه، ولكن علينا ان ننظر إلى الجانب الآخر للموضوع لندرك المعنى الخفي. لقد نزل كلمة الله من السماء، لكي يصير عريساً للطبيعة الإنسانية، فأخذها وجعلها مسكنه، لكي يخطبها ويقودها اليه فتلد ثمار الحكمة الروحية.
ولذلك دعيت الطبيعة الإنسانية العروس، والمخلص العريس، على عادة الأسفار المقدسة التي تستخدم اللغة الإنسانية العادية وتعطيها معاني سمائية وقد تم الزواج في اليوم الثالث، اي في نهاية الدهور لأن رقم ثلاثة هو البداية والوسط والنهاية، وهذه الثلاثة هي أبعاد الزمن كله. وينسجم تماماً مع هذا بما قاله وأحد من الانبياء “لقد ضرب، وسيعصبنا. بعد يومين يحيينا، وفي اليوم الثالث يقيمنا، لنحيا قدامه.. “ (هوشع 6: 1-3). لقد خربنا بسبب تعدي آدم، وقال له “تراب أنت وإلى التراب تعود” (تكوين 2: 19) ولكن الذي ضرب بالفساد والموت، عصبه وربطه في اليوم الثالث اي ليس في الأول ولا في الوسط بل في نهاية الدهور، عندما تجسد، وجعل طبيعتنا صحيحة اذ اقامها من الموت في نفسه ولذلك دعي “باكورة الراقدين” (1 كورنثوس 15: 20). وعندما قيل ان الزواج تم في اليوم الثالث، فقد كان يعني نهاية الدهور، ولكن عندما أشار إلى المكان “قانا الجليل” فعلى الذين يحبون المعرفة ان يلاحظوا الدقة، فلم يكن المكان اورشليم حيث يتم الاجتماع، ولا في كل اليهودية تم الاحتفال بالعرس، بل في اقليم الأمم. لأن النبي يقول “جليل الأمم” (اشعياء 9: 1) واعتقد انه واضح ان مجمع اليهود رفض العريس من السماء أما كنيسة الأمم فقد قبلته بفرح شديد.
لم يأت المخلص إلى العرس بإرادته وحده، بل بدعوة، اي برجاء والحاح أصوات القديسين. ولكن الخمر فرغت ولم يعد لدى المحتفلين منها اي شيء لأن الناموس لم يكمل شيئاً، ولم تعط الوصايا الموسوية الفرح، ولم يستطع الناموس الطبيعي المغروس فينا ان يخلصنا. ولذلك من الصواب ان نقول ان “ليس عندهم خمر” قد قيلت عنا نحن ايضاً. ولكن صلاح الله وغناه لا ينضب، ولا يمكن ان يعجز أمام احتياجاتنا. لقد اعطانا خمراً أفضل من الخمر الأول، لأن الحرف يقتل أما الروح فيعطي حياة (2 كورنثوس 3: 6) والناموس لم يكمل شيئاً، ولم يعط الخيرات، ولكن التعليم الإلهي للإنجيل يعطي البركة الكاملة. لقد اندهش رئيس المتكأ من جودة الخمر، لأن كل الذين يشرطنون للكهنوت المقدس ويؤتمنون على بيت مخلصنا المسيح، يندهشون من تعليمه الذي يفوق الناموس. وقد أمر المسيح ان يعطي الخمر لرئيس المتكأ أولاً، وحسب قول بولس “الحراث الذي يتعب يشترك هو أولاً في الثمار” (2 تيموثاوس 2: 6) وعلى السامعين ان يجدوا المعنى الذي اقصده.
يو 2: 14 – “ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً والصيارف جلوساً”.
يحتقر اليهود الناموس، ولا يقيمون وزناً لما جاء في كتابات موسى بل يهتمون فقط بمحبة الربح. ومع ان الناموس أوصى بأن الذين يدخلون الهيكل يجب ان يطهروا أنفسهم بكل وسيلة ممكنة ولكن الذين كان لهم السلطان لم يمنعوا الصيارفة الذين كانوا يكسبون النقود بتغيير العملة (الرومانية إلى عملة الهيكل) والفوائد المالية مع كل أصناف التجارة، لم يمنعوا كل هؤلاء من تدنيس الهيكل المقدس، لم يمنعوهم من دخوله، كما لو كانوا بأقدام غير مغسولة، نعم بل بالحري هم أنفسهم تعودوا ان يأمروا بهذا، حتى ان الله يقول حقاً عنهم: “رعاة كثيرون أفسدوا كرمي. داسوا نصيبي، جعلوا نصيبي المشتهى برية خربة. جعلوه خراباً” (أر 12: 10، 11). لأنه حقاً قد فسد كرم الرب، اذ قد تعلموا ان يدوسوا على العبادة الإلهية نفسها، وعن طريق الحب الدنيء للربح عند اولئك الذين اقيموا عليه فانه (الكرم) ترك عارياً لكل جهالة.
يو 2: 15 – “فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل”.
معقول جداً ان يكون المخلص ساخطاً على حماقة اليهود. لأنه ليس من اللائق ان يكون الهيكل الإلهي بيت تجارة، بل ان يكون بيت صلاة. فهكذا هو مكتوب ولكنه يظهر مشاعره ليس بمجرد الكلمات بل بالحبال وبالسوط يطردهم من المواضع المقدسة، وبالعدل يطبق عليهم العقوبة المناسبة للعبيد، لأنهم لا يقبلون الابن الذي يصير الإنسان حراً بالإيمان. أرجو ان تنظروا ممثلاً كما في صورة ذلك الذي قيل بواسطة بولس “ان كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله” (1 كو 3: 17).
يو 2: 16 – “.. ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة”.
هو يأمر كرب، كمعلم يقود بيده إلى ما هو مناسب، ويضع أمامهم مع العقوبة، اعلان خطاياهم، لكي يخجلهم من خطاياهم فلا تكون لهم فرصة ان يغضبوا من التوبيخ. ولكن ينبغي ان نلاحظ انه يدعو الله أباه بصفة خاصة، باعتباره هو وحده منه بالطبيعة، ومولوده حقاً. لأنه ان لم يكن هو كذلك، اي لو كان الكلمة هو ابن معنا – كوأحد منا – اي بالتبني وبمشيئة الآب فقط، فلماذا يأخذ هو وحده لنفسه الفخر العام للكل وأمام الكل، قائلاً، “لا تجعلوا بيت أبي” ولم “بيت ابينا” لأني افترض ان هذا القول سيكون أكثر مناسبة ان يقوله، لو انه عرف انه هو ايضاً وأحد من اولئك الذين ليسوا ابناء بالطبيعة. ولكن حيث ان الكلمة يعرف انه ليس في عداد اولئك الذين هم ابناء بالنعمة، بل هو من جوهر الله الآب، لذلك فهو يفصل نفسه عن الباقين ويدعو الله أباه. لأنه يليق بأولئك الذين يدعوه إلى البنوة ويحصلون على الكرامة من الخارج، انهم حينما يصلون ان ينادوا “أبانا الذي في السماوات” أما الابن الوحيد اذ هو وحده إله من إله يليق به ان يدعو الله اباه بندائه الخاص.
ولكن ان كان ينبغي ان نتأمل هذا المقطع ونربطه روحياً بما سبق فقراءة النص تتجه إلى معنى آخر.
14 – وما بعد: ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً .. الخ:
انظروا ايضاً كل نظام التدبير الذي من اجلنا، موضحاً في أمرين: لأن المسيح يشترك في العرس مع أهل قانا، وأنا أعني اهل الجليل وهؤلاء الذين دعوه وأكرموه جعلهم مشتركين في مائدته، وهو يساعدهم بالمعجزات ويملأ ما كان ناقصاً عندهم لأجل فرحهم (وأي شيء صالح هو لا يعطيه بسخاء مجاناً؟) معلماً إيانا كما في رمز انه سيقبل سكان الجليل اي الأمم، الذي دعوا بواسطة الايمان الذي فيهم، وهو سيأتي بهم إلى الحجال السماوي اي إلى كنيسة الأبكار، ويجعلهم يجلسون مع القديسين (لأن التلاميذ جلسوا مع المحتفلين بالعرس)، وسوف يجعلهم يشتركون في الوليمة الإلهية الروحية، كما قال هو نفسه “ان كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع ابراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات”، ولن يكون هناك شيء ناقص لفرحهم. لأن فرحاً أبدياً سيكون على رؤوسهم (أنظر اش 35: 10). أما اليهود العاصون فسيطردهم من الأماكن المقدسة، ويجعلهم خارج حظيرة القديسين المقدسة، بل وحتى حينما يقدمون ذبائح فهو لن يقبلها، بل بالحري سيخضعهم للعقاب والسوط، “ممسكين بحبال خطاياهم” (انظر ام 5: 22). فاسمعه يقول: “ارفعوا هذه من ههنا”، لكي تفهم ايضاً تلك الاشياء التي قالها قديماً بفم اشعياء النبي. “اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات. وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر. حينما تأتون لتظهروا أمامي من طلب هذا من ايديكم ان تدوسوا دوري. لا تعودوا تأتون بتقدمة دقيق فهي باطلة. البخور هو مكرهة لي. رأس الشهر والسبت ونداء المحفل. لست أطيق الاثم والاعتكاف. رؤوس شهوركم واعيادكم بغضتها نفسي. صارت عليّ ثقلاً. مللت حملها” (اش 1: 11-14) هذا يشير اليه بوضح جداً بالرمز صانعاً لهم سوطاً من حبال. لأن السياط هي علامة العقاب.
يو 2: 17 “فتذكر تلاميذه انه مكتوب غيرة بيتك اكلتني”:
ان التلاميذ حصلوا على كمال المعرفة في وقت قصير، واذ قارنوا الأحداث بما هو مكتوب، فقد اظهروا تقدماً، عظيماً نحو الأفضل.
يو 2: 18 “فأجاب اليهود وقالوا له اية آية ترينا حتى تفعل هذا؟
اندهش جموع اليهود من السلطان غير المألوف، أما المسئولون عن اليهود فقط اغتاظوا لأنهم حرموا من الارباح التي كانوا يكسبونها، ولم يستطيعوا ان يوبخوه انه لم يتكلم بما يليق في أمره لهم ان لا يجعلوا الهيكل الإلهي بيت تجارة. ولكنهم يخترعون طرقاً لتأخير هروب التجار، ملتمسين العذر لأنفسهم بأنهم لا يجب ان يخضوا له فوراً، او بدون بحث، لكي يقبلوه كابن الله بدون ان يريهم آية.
يو 2: 19 – انقضوا هذا الهيكل:
الذين يطلبون اشياء صالحة بقصد صالح، فان الله لا يتأخر بالمرة في منحها لهم، أما الذين يأتون اليه لكي يجربوه، فهو لا يرفض طلبهم فقط الذي يسألونه، ولكنه يتهمهم بالشر. لذلك فحينما طلب الفريسيون في أجزاء أخرى من الأناجيل ان يريهم آية، فانه وبخهم قائلاً: “جيل شرير وفاسق يطلب آية الا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاثة ليالي” (متى 12: 39، 40). فما قاله لأولئك قاله لهؤلاء مع تغيير بسيط لأن هؤلاء (كما فعل أولئك) يسألونه لكي يجربوه. ليس لأولئك الذين كانوا في مثل هذا التفكير نحوه، تعطي هذه الآية، ولكن هناك احتياج تام لهذه الآية لأجل خلاصنا كلنا.
ولكننا يجب ان نعرف انهم جعلوا هذه الآية حجة لاتهامهم له، اذ قالوا أمام بيلاطس البنطي زوراً ما لم يكونوا قد سمعوه. لأنهم قالوا “هذا قال. أني أقدر ان أهدم هيكل الله وفي ثلاثة أيام أبنيه” (متى 26: 61). وهم الذين تكلم المسيح عنهم في الانبياء: “شهود زور يقومون وعما لم أعلم يسألونني” (مز 3: 11)، وايضاً: “لأنه قد قام على شهود زور ونافث ظلم” (مز 27: 12). ولكنه هو لا يحثهم على سفك دمه بقوله “أنقضوا هذا الهيكل”، ولكن حيث انه عرف انهم سيفعلون هذا، لذلك فهو يوضح مؤكداً ما سوف يحدث سريعاً.
يو 2: 20 – فقال اليهود: في ست واربعين سنة بني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟
انهم يهزأون بالآية، اذ لم يفهموا عمق السر، بل هم يمسكون بمرض جهلهم كعذر معقول يبررون به عدم طاعتهم له، واذ ينظرون إلى صعوبة الأمر، فانهم يسمعونه كما لو كان شخصاً يلقي الكلام على عواهنه، وليس كما إلى شخص يعد بما يمكن ان يتحقق، وذلك لكي يصدق ما كتب عنهم: “لتظلم عيونهم لكي لا يبصروا ولتحن ظهورهم دائماً” (مز 69: 23) لكي بطريقة منحنية إلى اسفل دائماً وبميلهم إلى الاشياء الأرضية وحدها، فانهم لن يبصروا تعاليم التقوى العالية من جهة المسيح، اي لا يعرفوه كإله محب للإنسان، بل بالحري كمعاقب لهم بالعدل لارتكابهم تعديات لا تحتمل.
انظروا كيف يشتمونه بغباوة، غير مشفقين على نفوسهم، لأن ربنا يسوع المسيح يدعو الله، أباه قائلاً: “لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة” لذلك فحينما ينبغي ان يعتبروه ابناً وإلهاً مشرقاً من الله الآب، فانهم يعتقدون انه مجرد انسان ووأحد منا. لذلك فهم يواجهونه بالزمن الذي استغرقه بناء الهيكل قائلين “في ست واربعين سنة بني هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟”. أيها السكارى بكل حماقة، احسبه حقاً ان اقول لكم – ان كانت قد زرعت فيكم نفس حكيمة – ان كنتم تؤمنون ان هيكلكم هو بيت الله، فكيف لا تعتبرون الذي يتجاسر ان يخبركم بدون خوف “لا تجعلوا بيت ابي بيت تجارة” انه هو الله بالطبيعة؟ أخبروني، كيف يحتاج إلى وقت طويل لبناء بيت وأحد؟ او كيف يكون عاجزاً عن اتمام اي شيء مهما كان، وهو الذي – في ستة أيام فقط – كون العالم كله بقوة تفوق التعبير، وقوته كامنة في مشيئته فقط؟ لأن الأشخاص الماهرين في الكتب المقدسة ينبغي ان يعتبروا هذه الاشياء.
يو 2: 21، 22 – وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده. فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه انه قال هذا. فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع.
كلمة الحق مقبولة عن الإنسان الحكيم، ومعرفة النظام تثبت مع الناس ذوي الفهم، وكما ان طابع الاختام يصنع جيداً في شمع لين هكذا ايضاً الكلمة الإلهية تثبت بسهولة في القلوب اللينة، بينما يسمى قاسي القلب ايضاً شريراً. والتلاميذ اذ كان لهم استعداد حسن، فانهم صاروا حكماء، وهم يلهجون بكلمات الكتاب الإلهي، ويغذون ويشدون أنفسهم نحو معرفة أكثر دقة وهكذا يتقدمون بثبات نحو الايمان. وحيث ان جسد المسيح يسمى هيكلاً ايضاً، فكيف لا يكون الكلمة الوحيد الجنس الذي يسكن فيه هو الله بالطبيعة، لأن الذي ليس هو إلهاً لا يمكن ان يقال انه يسكن في هيكل! دعوا أحداً يتقدم ويقول: اي جسد قديس سمى هيكلاً على الاطلاق، ولكني لا أظن ان أحداً يستطيع ان يبين هذا. فأقول اذن، ما سنجده انه حقيقي إذا فتشنا الكتاب الإلهي بتدقيق، انه لم تنسب لأحد القديسين هذه الكرامة بالمرة. وفي الحقيقة فإن المعمدان المبارك، رغم انه وصل إلى علو كل فضيلة ولم يكن هناك من يفوقه في التقوى، فان هيرودس بجنونه قطع رأسه، ورغم ذلك لم ينسب له شيء مثل هذا. بل بالعكس فان الانجيلي استعمل كلمة أكثر غلاظة ليعبر بها عن جسده، والانجيلي قال هذا – كما يبدو لي – حسب التدبير، لكي يحفظ الكرامة للمسيح وحده. لأنه يكتب هكذا ان هيرودس “أرسل وقطع رأس يوحنا في السجن.. وجاء تلاميذه ورفعوا جثته” (متى 14: 10، 12، مرقس 6: 29). فان كان جسد يوحنا يدعى جثة، فلمن يكون هيكلاً؟ ولكن بمعنى آخر حقاً، فنحن ندعى هياكل لله، وذلك بسبب سكنى الروح القدس فينا. لأننا ندعى هياكل لله وليس لأنفسنا.
ولكن ربما يسأل أحد: أخبرني اذن، كيف يسمي المخلص نفسه جسده، جثة لأنه يقول: “وحيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور” (متى 24: 28). لهذا نقول، ان المسيح لم يقل هذا عن جسده، بل على سبيل المثل والرمز يشير إلى اجتماع القديسين معه الذي سيحدث في وقت ظهوره الثاني لنا: “مع الملائكة القديسين في مجد ابيه” (مت 16: 27) لأنه يريد ان يقول: كما ان اسراباً من الطيور أكلة اللحوم تندفع نازلة نحو الجثث المطروحة بأزيز حاد، هكذا أنتم سوف تجتمعون إلى ايضاً. وهو ما يعرفنا به بولس قائلاً: “فانه سيبوق فيقام الأموات عديم فساد” (1كو 15: 52)، وفي موضع آخر ايضاً: “سنخطف في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب” (1 تس 4: 17). لذلك فان ما يؤخذ على سبيل المثل كصورة، لن يحطم أبداً قوة الحق.
يو 2: 23 “ولما كان في اورشليم في عيد الفصح، آمن كثيرون باسمه، اذ رأوا الآيات التي صنع”.
المسيح لا يكف ابداً عن ان يخلص ويعين. لأن البعض يقودهم إلى نفسه بكلمات الحكمة، والباقين اذ ينذهلون من القوة الإلهية الصادرة منه، فانه يأخذهم في شبكة الايمان بواسطة الاشياء التي يرونه يفعلها ويعترفون ان فاعل هذه الآيات العظيمة هو بالحقيقة الله.
24 – “لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه”:
رأى حديثو الايمان لا يكون عادة راسخاً وثابتاً، وهكذا ايضاً هو حال العقل المبني على المعجزات الحديثة الحدوث. وكيف يمكن لأولئك الذين لا يزال تعليمهم كما لو كان أخضراً (أي غضاً) ان يكونوا متأصلين في التقوى؟ لذلك فالمسيح لم يأتمن حديثي الايمان على نفسه، مبيناً بذلك ان التشبه بالله هو أمر عظيم وجدير بالحب، وانه ليس معروضاً بسهولة أمام من يرغبون ان ينالوه، ولكنه يتحقق بواسطة الغيرة للصلاح والاجتهاد والوقت.
من هذا فليتعلم وكلاء أسرار المخلص، ان لا يدخلوا انساناً فجأة داخل الحجب المقدسة، ولا أن يسمحوا للمبتدئين الذين اعتمدوا قبل الأوان ولم يؤمنوا بالمسيح رب الكل في الوقت المناسب، ان يقربوا من الموائد الإلهية. لأنه لكي يكون لنا مثالاً في هذا ايضاً، ولكن يعلمنا من هم الذين من المناسب ان ندخلهم، فانه يقبل المؤمنين، ولكنه لا يثق فيهم بعد اذ انه “لا يأتمنهم على نفسه”، وذلك لكي يكون واضحاً انه يليق بالمبتدئين ان يصرفوا وقتاً غير قليل تحت التعليم، وحتى بالرغم من ذلك – فانهم نادراً ما يصيرون اناساً مخلصين.
25 – “لأنه كان يعرف الجميع. ولأنه لم يكن محتاجاً ان يشهد أحد عن الإنسان، لأنه علم ما كان في الإنسان”.
هذه الصفة السامية هي صفة إلهية، وهي مثل الصفات الباقية الأخرى التي في المسيح، وهي غير موجودة في اي مخلوق من المخلوقات. لأن المرنم ينسبها لمن هو وحده الله بالحقيقة قائلاً: “المصور قلوبهم جميعاً المنتبه إلى كل أعمالهم” (مز 33: 15) ولكن ان كان الله وحده يعرف ما فينا، والمسيح يعرفها ايضاً، فكيف لا يكون هو الله بالطبيعة، الذي يعرف الأسرار، ويعرف “العمائق والأسرار” كما هو مكتوب (دانيال 2: 22). “لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان الا روح الإنسان الذي فيه” (1 كو 2: 11). ورغم ان لا يوجد أحد من الناس يعرف، فان الله لن يجهل، لأنه ليس وأحد منا نحن الذين يقال عنهم “من من الناس” بل اذ هو خارج الجميع، وكل الاشياء هي تحت قدميه، فانه يعرف. وبولس ايضاً يشهد قائلاً “لأن كلمة الله حي وفعال وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارق إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميز أفكار القلب ونياته، وليست خليقة غير ظاهرة قدامه، لأن كل شيء مكشوف وعريان أمام عينيه” (عب 4: 12، 13). فلأنه قد “غرس الاذن”، فهو يسمع كل شيء، ولأنه “صنع العين” فهو يبصر (أنظر مز 94: 9). وهو يقول في ايوب: “من هو هذا الذي يخفي المشورة عني، ويمسك بالكلمات في قلبه، ويظن انه يخفيها عني”؟ (أيوب 38: 2 سبعينية).
واذن فلكي نعرف ان الابن هو بالطبيعة الله، لذلك فالإنجيلي يقول “لأنه لم يكن محتاجاً ان يشهد أحد عن الإنسان، لأنه عرف ما كان في الإنسان”.