شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج5 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج5 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج5 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الأول: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج1 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الثاني: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج2 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الثالث: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج3 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الرابع: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج4 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الفصل العاشر
الابن الوحيد هو وحده بالطبيعة الابن من الآب
لكونه من الآب وفي الآب
يو 1: 18 “الله لم يره أحد قط، الإله الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أعلنه”.
هنا ايضاً يمكننا ان نرى دقة لابس الروح فلم يكن يجهل ان البعض سوف يبحث عن الأمور التي قيلت عن الابن الوحيد وانهم سوف يقولون بمرارة: لقد قلت يا سيدي العزيز انك رأيت مجده مجد الابن الوحيد وكان يجب وأنت تشرح الأمور الخاصة بالله ان تبين علاقة الابن بالآب وليس المقارنة بتفوق الابن على موسى وعلى قداسة وتقوى يوحنا كما لو كان من المستحيل ان نرى مجداً يفوق مجد الابن مع ان اشعياء يقول: “رأيت السيد جالساً على عرش مرتفع وذيله يملأ الهيكل وقد وقف السارافيم كل وأحد منهم له ستة أجنحة وواحد نادى الآخر وقال قدوس قدوس رب الجنود السماء والأرض مملؤتان من مجدك” (اشعياء 6: 1-3) وصرخ حزقيال عندما رأى الكاروبيم والرب جالس على العرش (حزقيال 1: 25-28). فإذا كان هؤلاء قد رأوا مجد الله فلا يجب على الانجيلي المبارك ان يقطع ويقول: الله لم يره أحد في أي زمان وانما الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أعلنه أنا. هذه الحقيقة مؤكدة لأن الله قال لرئيس الانبياء لا يرى أحد من الناس وجهي ويعيش (خروج 33: 20) بل قال مرة لتلاميذه ليس أحد رأى الآب الا الذي من الله هذا رأى الآب (يوحنا 6: 46) فالآب وحده منظور للابن وحده لأن الابن وحده من ذات طبيعة الآب وفي هذا الإطار فقط يمكننا ان نقول ان الطبيعة الإلهية ترى ذاتها إلهياً ونرى من ذاتها إلهياً فقط. وليس لأحد آخر. لكن كلام الانبياء القديسين ليس كذباً. فعندما يصرخ أحدهم انه رأى رب الجنود (اشعياء 6: 1) منهم لا يؤكدون انهم رأوا الله كما هو في جوهره وانما الكل يصرخ ويقول هذا هو “ظهور شبه مجد الرب” حزقيال 1: 28 ومعنى هذا ان الاعلان عن الله صار بشكل منظور لهم، والمجد الإلهي يتكون في رؤيا تتفق مع قدرتنا على الادراك ولذلك ما رآه ليس سوى صور واعلانات تعطي معرفة باللاهوت ولكن حقيقة اللاهوت الفائقة تظل فوق العقل والنطق. وبكل يقين قال الانجيلي “ورأينا مجده مجد الابن الوحيد مملوءاً نعمة وحقاً” (يو 1: 14) فقطع بذلك كل سبل المقارنة بين مجد الابن وكل المخلوقات، وجمال الخالق وقدرته يمكن ادراكها من جمال المخلوقات (حكمة 13: 5) لأن السماء دون ان يكون لها صوت مسموع “تعلن مجد الله والفلك يخبر بعمل يديه” (مزمور 19: 1).
وهكذا ايضاً يظهر ان الابن الوحيد أسمى في المجد وارفع في القدرة، وفوق الادراك، ولا يمكن ان تراه العين، لأنه الله. وحيث انه يفوق الخليقة كلها ومستحق للمجد، فهو فوق الكل، وهذا هو معنى الكلمات التي نحن بصددها. لأننا يجب ان نلاحظ انه يدعو الابن “الإله الابن الوحيد” ويقول انه “ف يحضن الآب” لكي ندرك انه لا يمكن ان يحسب مثل المخلوقات او ان له طبيعة مخلوقة بل له اقنومه المتميز عن الآب والذي في الآب فإذا كان حقاً هو “الإله الابن الوحيد” فكيف لا يكون مختلفاً في الطبيعة عن الذين هم بالتبني إلهة وأبناء؟ لأننا نعتقد ان الابن الوحيد ليس وأحداً ضمن اخوة وانما هو الواحد وحده من الآب ولكن حيث انه كما يقول بولس: “كثيرون يدعون إلهة في السماء وعلى الأرض” الا ان الابن هو الإله الابن الوحيد الذي لا يمكن ان يحسب ضمن هؤلاء الإلهة الذين دعوا إلهة بالنعمة ولكنه الإله الحقيقي مع الآب. وهكذا يعلن بولس وحدة الابن مع الآب قائلاً لنا “ولكن لنا إله وأحد الآب الذي منه كل الاشياء ورب وأحد يسوع المسيح الذي به كل الاشياء” (1كورنثوس 8: 6) فالآب اذ هو إله وأحد بالطبيعة والكلمة الذي منه وفيه لا يمكن ان يكون غريباً عن الآب وانما وأحد معه في كل الصفات وله نفس الكرامة لأنه بالطبيعة إله لذلك يقول الانجيلي انه “في حضن الآب”، لكي نفهم ايضاً انه كائن في الآب وهو من الآب، كما قيل في المزامير “من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك” (مز 110: 3س) وهذا يضع عبارة “من البطن” لأنه من الآب بكل يقين (مثلما يستدعى التشبيه الخاص بنا نحن البشر عندما يولد انسان من البطن ويخرج وله نفس الطبيعة الإنسانية) وكما قيل “في حضن الآب” كما لو كان مثل اشراق البهاء الإلهي غير المدرك لأقنوم الابن من الآب. ولكن الابن يملك طبيعة الآب الإلهية ذاتها، وكلمة حضن لا تستدعي الانفصال او الافتراق فهذا خاص بالجسد وليس باللاهوت. وولادة الابن من الآب لا تعني ذلك وحقاً قال الابن انه في الآب وايضاً الآب فيه. (يوحنا 14: 10). وكل ما يخص جوهر الآب هو بالضرورة يخص جوهر الابن فبهذا وحده يمكن ان يكون الآب فيه وهو في الآب لأن الابن في الآب متأصلاً فيه بالمساواة التامة في الجوهر وبالولادة منه بدون ان يستدعي هذا أي انفصال او مسافة بل الكينونة والمعية الدائمة. وهذا المعنى المقدس الذي نفهمه من عبارة الانجيلي بأن “الابن في حضن الآب” وليس ذلك المعنى الذي توصل اليه الذين يحاربون الله الذين دينونتهم عادلة (رومية 3: 8) لأنهم يحرفون كل شيء من اجل الاثم الذي فيهم (رجاع ميخا 3: 9) فيفسدون إذان البسطاء ويخطئون دون أدنى اهتمام بالأخوة الذين مات المسيح لأجلهم (1 كورنثوس 8: 11، 12).
وماذا يجب ان نقول عندما نعلم الآخرين، لأن الانجيلي القديس يقول عن الابن “انه في حضن الله الآب”؟ ابناء الكنيسة يعتقدون بكل صواب ويؤكدون انه من الآب وفي الآب ويكتفون بذلك وهم على حق لأن حقيقة ميلاد الابن من الآب هي فوق الادراك أما الذين سكروا بالجهل فأحياناً يبتسمون ويتجاسرون ويقولون رأيكم يا سادة بلا معنى لأنكم لا تفكرون في الله كما يجب لأنكم تعتقدون انه من الصواب ما دام قد قيل عن الابن انه في حضن الآب فهذا يعني انه من جوهره ومن الحماقة ان تتصوروا انه ثمرة الطبيعة غير المخلوقة الم تسمعوا في امثال الانجيلي ما قاله المسيح نفسه عندما كان يتكلم عن الغني ولعازر انه حدث بعد موت لعازر ان الملائكة حملته إلى حضن ابراهيم (لو 15: 22) فهل تعتقدون ان لعازر في حضن ابراهيم تعني انه مولود منه وانه فيه بالطبيعة؟ ام انكم بكل صواب سوف ترفضون ذلك وسوف توافقوننا على ان معنى “حضن” هو المحبة فقط؟ وبذلك يصبح معنى “حضن الآب” ان الابن هو في محبته كما قال هو “الآب يحب الابن” (يوحنا 3: 35) وعندما يضر بنا هؤلاء الباحثون عن الاخطاء، الذين غيرتهم طائشة ولا تبني بل تهدم فإننا سوف نجيب هؤلاء وسوف نحشد أكبر قدر ممكن من كلمات الحق.
أنتم تقولون يا سادتي الأعزاء ان كلمة حضن تعني المحبة وكيف يمكن ان يستقيم معنى نصوص أخرى. وماذا تقولون عن هذا: أحب الله العالم، كذا يقول المخلص (يوحنا 3: 16)، او “يحب الرب أبواب صهيون” حسب ما صرح الانبياء القديسين دون خوف، فهل هذا يعني ان العالم نفسه وأبواب صهيون في “حضن الآب”؟ وعندما يقول الله لموسى رئيس الانبياء “ضع يديك في حضنك” (خر 4: 6) فهل يعني هذا حسب رأيكم ان الله يطلب منه ان يحب يده؟ ام انه يطلب منه ان يبقى يده مخفية؟ ان هذا سوف يجعلنا نضحك، بل ربما قادنا إلى الكفر عندما نتصور ان كل شيء في حضن الآب، ونجعل هذه العلامة الخاصة، عامة وشائعة للك، مع انها العلامة المميزة الخاصة بالابن الوحيد التي لا تشترك فيها الخليقة معه.
إذا وداعاً لرأيهم الفاسد، وعلينا ان نسير في الطريق المستقيم طريق الحق. لأن الكلام عن ان “الابن في حضن الآب” معناه اننا نعتقد انه من الآب وفي الآب، حسبما توضح الكلمات القوية نفسها “الإله الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أعلنه لنا” وعندما قال “الإله الابن الوحيد” فقد أردف على الفور “الذي في حضن الآب” بدلاً من ان يقول الذي من جوهره واستخدم لذلك تشبيهاً حسياً. فالأشياء المحسوسة والظاهرة، يمكن ان تكون رموزاً تدل على الاشياء الروحية، والأمور المنظورة تقودنا إلى إدراك الأمور العالية، فالمحسوسات يمكن ان نتخذها صورة تساعدنا على الاقتراب من الأمور العميقة حتى وان فهمنا الأمور الحسية كما نطقت، مثلما قيل لموسى “ضع يدك في حضنك”. ولا يضرنا بالمرة ان نفهم ان لعازر صار فعلاً في حضن ابراهيم، بلغة خاصة، لأنه عندما مات لعازر وفارق الحياة في الجسد، فهذا لا يتعارض مع ما قلناه سابقاً، لأن الأسفار الإلهية تخاطبنا بلغة خاصة، لأنه عندما مات لعازر وفارق الحياة في الجسد حمل لحضن ابراهيم، وهذه اللغة الخاصة تعني انه “حسب ضمن ابناء ابراهيم” فالله قال للإبراهيم “جعلتك اباً لشعوب كثيرة” (تكوين 17: 5).
يو 1: 19-20: “وهذه هي شهادة يوحنا، عندما أرسل اليهود كهنة ولاويين من اورشليم ليسألوه: من انت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر أنى لست أنا المسيح”.
حسناً فعل الإنجيلي، فقد سجل لنا بالتفصيل شهادة يوحنا وما سبق وقاله عن يوحنا المعمدان يدعمه الآن تفصيلياً بشهادة يوحنا ويسجل بكل تفصيل المناسبة عندما “أرسل رؤساء الفرق اليهودية” كهنة ولاويين ليسألوه، ماذا يقول عن نفسه؟ فأعترف ولم يشعر بالخجل من الحق، وقال “أنا لست المسيح” وما هو واضح هو ما يريد ان يسجله يوحنا الإنجيلي فكأنه يقول، لست أنا، كاتب الإنجيل، الذي اقول هذا بل يوحنا، وأنا أيضاً لست أكذب، فهو “لم يكن النور، بل جاء لكي يشهد للنور”.
يو 1: 21 “وسألوه قائلين اذن ماذا. هل انت ايليا؟ فقال لست أنا. هل أنت النبي؟ فأجاب لا”
بعد ان أكد المعمدان انه ليس المسيح، أراد الانجيلي ان يشرح لنا كيف اعترف يوحنا ولم ينكر، ويبدو لي ان الانجيلي يسجل ذلك بالتفصيل لكي يفضح انحراف اليهود. لأنهم “بينما يزعمون انهم حكماء، صاروا جهلاء” (رومية 1: 22) وافتخروا كذباً بمعرفتهم بالناموس، لأنهم يدعون انهم ادركوا التعليم الكامل للناموس وكتابات الأنبياء، ولكن اسئلتهم الغبية الموجهة ليوحنا تفضح جهلهم. فموسى رئيس الأنبياء قال ان الرب سوف يظهر كنبي، وأخبر بني اسرائيل “ان الرب يقيم لكم نبياً من وسطكم” من بين أخوتكم مثلي، له تسمعون، حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب” (تثنية 18: 15-16). وهذا نفسه جعل النبي اشعياء يقدم لنا السابق والمعمدان قائلاً “صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب، واصنعوا سبله مستقيماً” (متى 3: 3 – اشعياء 40: 3). وبالاضافة إلى ذلك يقول ملاخي النبي عن ايليا التشبيتي “ها أنا ارسل لك ايليا التشبيتي، فيرد قلوب الآباء إلى الابناء، والعصاة إلى حكمة الأبرار لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن” (لوقا 1: 5 – 6 ملاخي 4: 5-6 س) وهكذا اعتقد اليهود ان ثلاثة سوف يأتون المسيح ويوحنا المعمدان وايليا، وتم عنهم قول الرب “تضلون اذ لا تعرفون الكتب المقدسة” (متى 22: 29). توقعهم مجيء ثلاثة ظاهر من سؤإلهم الموجه ليوحنا المعمدان ولأنهم عندما عرفوا انه ليس المسيح سألوه هل انت ايليا؟
وعندما قال لا، كان يجب عليهم ان يسألوه ان كان هو السابق الذي سيأتي ليهيء طريق الرب، وكان يجب عليهم ان يعرفوا ان نبوة موسى خاصة بالمسيح ولكن لأنهم لم يدرسوا الكتب المقدسة عادوا فسألوه ان كان هو النبي. فأجاب: لا. لأنه لم يكن هو المسيح.
يو 1: 22-23 “فقالوا له ماذا تقول عن نفسك؟ إذا صوت صارخ في البرية”.
ينتقد يوحنا المعمان بشدة وفي رده على سؤإلهم يقول لهم أنتم لا تعرفون شيئاً، ومع انه يشير إلى نبوة اشعياء عن مجيئه، وهو لا يريد ان يضيف شيئاً، فهو ليس الموعود به، وانما المسيح المنتظر فهو على الأبواب، بل بالحري ان الرب داخل الأبواب. وكأنه يقول عليكم ان تذهبوا اليه هو حيث يريد، لقد سرتم الطريق كله مع موسى، وعليكم الآن ان تتبعوا المسيح، لأن هذا هو الذي أخبر عنه خورس الأنبياء.
أقوال خاصة بالطريق وراء المسيح:
اشعياء “تعالوا لنصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب لكي يعلمنا طريقه، فنسير فيها” (2: 3).
وايضاً “وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة، ولا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد اليها. لا يوجد هناك بل يسلك المفديون فيها” (ش 35: 8، 9).
وايضاً “سوف أعطي البدء (السيادة) لصهيون وأعلم اورشليم الطريق” (ش41: 27 سبعينية).
وايضاً “سوف أقود العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها امشيهم” (أش 42: 16).
ارميا: “قفوا على الطريق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة، اين هو الطريق الصالح وسيروا فيه، فتجدوا راحة لنفوسكم” (ار 6: 16).
فما هو الطريق الصالح، الذي ينقي الذين يسلكون فيه، المسيح نفسه يقول “أنا هو الطريق” (يوحنا 14: 6).
24 – “وكان المرسلون من الفريسيين”:
الكهنة واللاويين الذين ارسلهم اليهود، ادانتهم غباوة الاسئلة التي سألوها، لأنهم افترضوا ان المسيح غير النبي الذي أشار اليه الناموس ونفس الدينونة لحقت بالفريسيين الذين ادانتهم كبرياء الحكمة المزيفة، لاعتقادهم الباطل بأنهم يعرفون الاقوال الإلهية.
لقد سألوه “لماذا تعمد ان كنت انت لست المسيح ولا ايليا ولا النبي؟” (يوحنا 1: 25) وهم مثل الكهنة واللاويين ليس لديهم أي إدراك لحقيقة المعمدان، حتى انهم لم يحسبوه ضمن الثلاثة الذين كانوا ينتظرون مجيئهم، حقاً لقد كانوا مرضى ليس بالغباوة فقط بل بالتعالي: الأخ الشقيق للغباوة، ولذلك لم يدركوا مجيء ذاك الذي سبقت وأخبرت به اصوات الانبياء. ومع انهم سمعوه يقول “أنا صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب” (متى 3: 23) إلا أنهم لم يقبلوا كلمته، بل رفضوه قائلين يا سيد ما هو رصيدك الذي تعتمد عليه وما هو سندك الذي يجعلنا نصدقك؟ لماذا تعمد؟ وانت لا شيء فلماذا تتصرف هكذا وتقوم بهذا العمل العظيم؟ كانت هذه هي عادة الفريسيين الكفرة، ان يحتقروا او يقللوا من شأن الذي جاء مدعين انهم في انتظار آخر سوف يجيء، وذلك لكي يحتفظوا لأنفسهم بمكانة خاصة لدى اليهود، لا سيما ما يدخل جيوبهم من أموال، فحرصوا ان لا يظهر آخر، او ان يبرز من ينال شهرة. وهؤلاء هم الذين قتلوا الوارث نفسه قائلين “تعالوا نقتله ونأخذ ميراثه” (متى 21: 38).
يو 1: 25 – “أنا أعمد بماء”:
بطول أناة احتمل المعمدان المبارك الباحثين عن الأخطاء، وأعلن عن نفسه في إطار الكرازة بالخلاص، وأخذ يعلم الذين ارسلهم الفريسيون، ضد رغبتهم، بأن المسيح موجود داخل الأبواب. وها هو يقول لهم، أنا أديت بمعمودية تمهيدية، تغسل بالماء الذين تدنسوا بالخطية وذلك كبداية للتوبة، لكي يرتفعوا من أسفل إلى أعلى، أي إلى توبة كاملة. ولكي يتم ذلك ارسلت لكي أمهد طريق الرب بالكرازة بالتوبة. لأن مانح العطايا العظمى وواهب الخيرات الكاملة “هو في وسطكم” غير معروف بسبب حجاب الجسد، ولكنه يفوقني في كل شيء، حتى انني احسب نفسي غير مستحق لمكانة العبد الواقف في حضرته، وهكذا عبر يوحنا المعمدان عن نفسه واعتقد ان هذا ما يقصده بقوله “أنا لست أهلاً لأن أحلّ سيور حذائه”.
وعندما قال الحق فقد عمل عملاً مفيداً، فقد كان يريد ان يعلم الفريسيين المنتفخين، التواضع مقدماً ذاته كنموذج للتواضع.
وقد سجل يوحنا الانجيلي ان هذه الأمور تمت “في بيت عبرة في عبر الاردن” (يوحنا 1: 28)، وسجل بذلك دقة بالغة للأحداث لأننا نحن تعودنا عندما نكتب بدقة ان نذكر الأماكن التي حدثت فيها الأحداث.
(يوحنا 1: 29) “وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً اليه”:
لم يمضي وقت طويل، حتى اشتهر يوحنا كنبي ورسول، وكان يبشر بمجيء المسيح الذي يجيء اليه الآن، لكي يعلنه، ولذلك فاق يوحنا المعمدان في كرازته جميع الأنبياء، لأنه يشير إلى المسيح وهو أمامه ولذلك قال المخلص نفسه “ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أنبياً نعم أقول لكم، وأعظم من نبي” (متى (1: 9). فالأنبياء في ازمنتهم تنبأوا ان المسيح سيظهر، أما يوحنا المعمدان فبعد ان صرخ بأنه سوف يأتي اشار اليه، وهذا هو المقصود من قول الانجيلي، “وفي الغد نظر يسوع مقبلاً اليه”.
“فقال: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم”:
لم تعد كرازة يوحنا “أعدوا طريق الرب” مطلوبة، لأن الذي توقع مجيئه صار أمام عينيه، فصار الموقف يتطلب كلمات جديدة.
من هو الآتي؟ ولمن جاء؟ ولماذا نزل من السماء؟ يجيب المعمدان “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” وهو الذي اشار اليه اشعياء، وما أشار اليه يتحقق الآن “مثل حمل سيق للذبح ومثل نعجة صامتة أمام الذي يجزها” (اشعياء 53: 7).
وهو الذي سبق وأخبر عنه ناموس موسى بشكل رمزي، (الناموس) الذي خلص جزئياً دون ان تمتد الرحمة وتشمل الكل، لأن الناموس كان رمزاً وظلاً حينئذ، أما الآن فالذي صورته هذه الرموز بشكل معتم الحمل نفسه، والذبيحة التي بلا عيب، قد جاء لكي يقاد إلى الذبح لأجل الكل، لكي يرفع خطية العالم، لكي ما يبيد المهلك من الأرض، وعندما يموت عن الكل، يجعل الموت لا شيء، ويرفع اللعنة التي لحقت بنا، ويضع حداً لما قيل “تراب انت، وإلى التراب تعود” (تكوين 3: 19). وبذلك يصبح آدم الثاني، ليس “من التراب” وانما من السماء، ويصبح بداية الخيرات للطبيعة الإنسانية، ويعتق الإنسان من الفساد الدخيل، ومانح الحياة الأبدية، وأساس المصالحة مع الله، وبداية التقوى والبر، وطريقاً لملكوت السماوات.
لقد مات حمل وأحد عن القطيع كله لكي يخلص القطيع كله ويقربه لله الآب. وأحد عن الكل لكي يخضع الكل لله. وأحد عن الكل لكي يربح الكل، وذلك لكي لا يعيش الكل فيما بعد لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام (2 كورنثوس 5: 15).
لقد كنا مستعبدين لخطايا كثيرة، خاضعين للفساد والموت، فأعطانا الآب ابنه فداء عنا. الواحد عن الكل، لأن الكل فيه، وهو فوق الكل. وأحد مات عن الكل، لكي يحيا الكل فيه. لقد ابتلع الموت “الحمل” الذي كان ذبيحة خطية الكل، ولكن الموت تقيأ الحمل ومعه الكل الذي فيه. لأننا جميعاً في المسيح الذي بسببنا ولأجلنا مات وقام. لقد أبيدت الخطية، فكيف يبقى الموت الذي نتج عنها وبسببها، الا يتلاشى هو ايضاً وينتهي إلى لا شيء. لقد هلك الجذر، فكيف تعيش الاغصان او تبقى؟ وكيف نموت نحن، بعد ان أُبيدت الخطية؟ لذلك نسر بذبيحة حمل الله ونقول: “أين شوكتك يا موت؟ اين غلبتك يا هاوية” (1كورنثوس 15: – هوشع 13: 14).
لأن “كل اثم”، كما يقول المرنم “يسد فاه” (مزمور 107: 42)، ولا يستطيع بعد ان يتهم الذين أخطأوا بسبب الضعف. واذ كان “الله هو الذي يبرر فمن هو الذي يدين”؟ (رومية 8: 33-34). لقد افتدانا المسيح من لعنة الناموس، عندما صار لعنة لأجلنا، (غلاطية 3: 13) لكي نفلت من لعنة التعدي.
30- “هذا هو الذي قلت عنه”:
يذكر يوحنا المعمدان السامعين بالكلام الذي قاله، ويحفظ المجد السامي للمسيح، مقدماً اياه ليس عن محبة فقط، بل بحكم الضرورة والحق. فالمخلوق خاضع للخالق، حتى إذا لم يرض بذلك لأن الخالق هو الرب، والمحتاج يخضع للواهب. وكيف جاء المسيح بعد يوحنا المعمدان بل صار قدامه لأنه “كان قبله”. كما يعترف هو نفسه، وهذا ما سبق ان شرحناه بكفاية.
31- “وأنا لم أكن اعرفه. لكن ليعلن لإسرائيل، لذلك جئت أعمد بالماء”:
الذي ركض بابتهاج في بطن أمه، عندما سمع صوت العذراء القديسة وهي حبلى بالرب والذي عين نبياً قبل الآم المخاض به، وتلميذاً وهو لا يزال في الرحم، يقول “وأنا لم أكن أعرفه” وهو يقول الحق فهو لا يكذب. الله وحده وهو الذي يعرف الأشياء كما هي، دون ان يتعلم، أما المخلوق فهو يحتاج ان يتعلم. ولذلك يسكن الروح القدس في القديسين لكي يكمل ما ينقص منهم، ويعطي للطبيعة الإنسانية من صلاحه الذاتي، وانا أعنى معرفة الاشياء الآتية والأسرار الخفية. لذلك يقول المعمدان القديس انه لا يعرف الرب، وقد تكلم الحق، لأنه كان يعبر عن الصفة الاساسية والحدود الخاصة بالإنسانية، لأنه ينسب معرفة كل الأمور لله وحده، ولكن الله بالروح القدس ينير الإنسان لكي يدرك الأمور الخفية. وبكل يقين يقول إنه من ذاته لم يعرف المسيح، وانما لقد جاء لأجل هذا الغرض لكي يعرفه، ويعلنه لإسرائيل وبذلك لا يكون قراره مؤسساً على ذاته، او انه يعلم ويخدم بإرادته، بل يكون خادماً ومنفذاً للتدبير الإلهي، والمشورة التي من فوق، التي اعلنت له “الحمل الذي يرفع خطايا العالم”.
لقد قال يوحنا هذه الكلمات “وأنا لم أكن أعرفه” لكي يسهل لليهود الايمان بمخلصنا المسيح، ويدركوا الايمان به، فهو يقول انه لا يعرفه مع انه يعرفه، لكي يفهموا، ان الله هو الذي سيعلن ابنه، وانه هو الذي سيحكم من فوق، فيقبلوا كلامه. وعندما يرى اليهود ان الخادم عظيم بهذا القدر، يدركون ان السيد أعظم، وقوله انه جاء لكي “يعلنه لاسرائيل”. يعلن عن اهتمام الخادم غير العادي بما يخص سيده.
الفصل الحادي عشر
ان الروح القدس في الابن ليس كمن يشترك فيه من الخارج بل هو فيه جوهرياً وبالطبيعة
يو 1: 32-33 “وشهد يوحنا قائلاً إني قد رأيت الروح نازلاً من السماء مثل حمامة واستقر عليه. وانا لم أكن اعرفه. لكن الذي ارسلني لأعمد بالماء هو نفسه الذي قال لي “الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس”.
بعد ان قال سابقاً: أنه لم يكن يعرفه، يشرح السر الإلهي ويعلنه، موضحاً ان الذي أخبره هو الله الآب، ويسجل الاعلان الذي اخذه من الآب بكل دقة. وسجل الانجيلي ذلك من أجل فائدة سامعيه، قائلاً ان سر المسيح المعلن للناس قد علمه اياه الله نفسه، فيعرف مقاوموه انهم يحاربون القصد الإلهي نفسه، وبذلك يجلبون الدينونة على أنفسهم لانهم يحاربون قصد الاب. وبهذا كان هو يحثهم بمهارة ان يتركوا مشورتهم الباطلة ويقبلوا شهادته لقد “رأى الروح نازلاً من السماء عليه في شكل حمامة واستقر عليه” ولا يكتفي بالمنظر الذي رآه بل لقد سمع الذي أرسله يعمد بالماء يقول له “من ترى الروح القدس نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس” صادقة هذه الشهادة ومستحقة كل قبول، لا سيما العلامة الفائقة التي رآها، وفوق الكل كلمات الآب الذي يعلن ويخص بها الابن.
هذه الأمور يجب ان تؤخذ كما هي. ولكن ربما وجد الهرطوقي المحب للجدال فرصة تجعله يقفز وعلى وجهه ابتسامة عريضة. ويقول ماذا تقولون يا سادة؟ وليس لديكم أي جواب تقدمونه، فهل ستصارعون ما هو مكتوب؟ ها هو يقول ان الروح القدس نزل على الابن. وها هو قد مسح بواسطة الله الآب. ومن ليس لديه، يأخذ بل ان المرنم يشهد معنا قائلاً عنه “لذلك مسحك الله إلهك بزيت البهجة، أكثر من رفقائك” (مزمور 45: 7). فكيف يكون الابن بعد هذا الذي قيل، من جوهر الآب الكامل، لأن الابن ناقص ولذلك مسح؟
وإلى هؤلاء الذين يقبلون تعاليم الكنيسة ويفسدون الحق الذي في الأسفار اعتقد انه يجب ان نقول لهم “افيقوا ايها السكارى من خمركم” (يوئيل 1: 5 س).
لعلكم تشاهدون جمال الحق معنا، وتقدرون ان تصرخوا معنا للابن “بالحقيقة انت ابن الله” فكيف لا يكون كاملاً؟ لأن هذا تعدى على الآب نفسه وكفر به.
فإذا كان الابن ناقصاً، ومحتاج للكمال كما تقولون، فكيف لا يصيب هذا الاتهام الآب نفسه الذي منه يولد الابن ويصبح حسب كلامكم بدوره هو ايضاً ناقصاً، لأن الجوهر الإلهي في الابن اصيب بعدم الكمال حسب شرحكم غير المدقق والفاسد. فالطبيعة الإلهية الواحدة، لا يمكن تقسيمها إلى كلمتين، كلمة كامل وكلمة آخر غير كامل، لأنه حتى الطبيعة الإنسانية نفسها هي وأحدة في كل البشر، ومتساوية فينا جميعاً، ولا يوجد انسان اقل من انسان آخر في اشتراكه في الطبيعة الإنسانية واعتقد ان ملاكاً لا يختلف عن ملاك آخر في انتسابهم للطبيعة الملائكة فكل الملائكة لهم نفس الطبيعة. فكيف تكون الطبيعة الإلهية الفائقة، في وضع أقل من وضع المخلوقات، او تحتمل ما لا تستطيع ان تحتمله الطبيعة المخلوقة؟ وكيف تكون بسيطة وغير مركبة، اذ اظهر في اقنوم منها الكمال وفي اقنوم آخر عدم الكمال؟ الا تكون حسب ادعاء الهراطقة مركبة لأن الكمال ليس مثل عدم الكمال. وهذا يعني التركيب.
وإذا كان الآب والابن لهما طبيعة وأحدة، ولا تركيب فيها ولا اختلاف، فعدم كمال الابن، يصبح بدوره عدم كمال الآب. ويصبح أيضاً كمال الآب هو كمال الابن، وبذلك تسقط التهمة الموجهة للابن، رغم ادعاء الهراطقة، لكن التعليم الصحيح، ليس الآب غير كامل، ولا هو يتفوق على الابن.
ولعل هذا هو نهاية الجدل. فلو كان بين الكمال والنقص فاصل زمني، والطبيعة الإلهية تقبل الكمال والنقص فهي بذلك مركبة ولا تكون طبيعة الله البسيط. ولو افترض أحد ان الاضداد لا يمكن ان تجتمع في طبيعة وأحدة مثل اللون الأبيض واللون الأسود في جسد وأحد. هذا افتراض جيد يا سيدي لأنك بذلك تؤكد ما أقدمه. لأنه إذا كانت الطبيعة الإلهية وأحدة، فأخبرني كيف تقبل الأضداد؟ وكيف يمكن لأقنومين يختلفان تماماً ان يوجدا معاً في جوهر وأحد؟ ولكن لأن الآب بالطبيعة إله، كذلك الابن ايضاً، ولا يصبح مختلفاً عن الآب، لأنه مولود من جوهره الإلهي الكامل. وبذلك يصبح الابن كاملاً. لأنه من الآب الكامل لأنه صورته الكاملة ورسم جوهره (عبرانيين 1: 3).
وعلى الذين يقاوموننا ان يقولوا لنا: كيف ان الابن هو صورة الآب الكاملة ورسم جوهره ومع ذلك ليس فيه كمال الطبيعة الإلهية فالابن كامل كما ان الآب كامل.
وقد يقول قائل عن يوحنا انه رأى الروح القدس نازلاً من السماء على الابن، فنال التقديس من الخارج، ونال بذلك ما ليس عنده. إذا صح كلامك فهذه هي المناسبة لكي تدعوه مخلوقاً نال كرامة وكمالاً وتقديساً، مثل كل المخلوقات، وينال ما يحتاجه من خيرات مثل الباقين. وإذا صح قولكم يكون الانجيلي كاذباً، عندما يقول “ومن ملئه نحن جميعاً اخذنا” فكيف هو مملوء وهو يأخذ من آخر؟ وكيف يمكن ان نعتقد ان الله هو الآب، إذا كان الابن الوحيد مخلوقاً؟ فإذا صح ان الابن مخلوق، لا يمكن ان ندعوه بصدق الآب، ولا الابن يمكن ان ندعوه بالحق الابن، بل يصبح هذا مجرد لقب فارغ بلا دلالة. وبذلك يصل كل شيء عندنا إلى العدم فالآب ليس الآب حقاً، والابن ليس بالطبيعة ابناً. ولكن إذا كان الله حقاً هو الآب، فبالتأكيد له ذلك الذي هو أب له. أي الابن الذي من جوهره.
وكيف يمكن للاهوت القدوس ان يلد من هو خال من القداسة، لا سيما وان القداسة طبيعة وصفة من صفات اللاهوت؟ وإذا كان الابن نال التقديس من الخارج – كما يدعون – فعليهم الاعتراف رغماً عن ارادتهم بأنه كان وقت لم يكن الابن فيه قدوساً، وصار قدوساً عندما نزل الروح القدس وحل عليه. فكيف كان الابن قدوساً قبل التجسد لأن السارافيم مجده وكرر التقديس “قدوس” ثلاث مرات (اشعياء 6: 3). فإذا كان قدوساً حتى قبل التجسد، بل لأنه ازلي مع الآب القدوس، فكيف يقال انه احتاج إلى من يقدسه؟ أليس الكلام كله عن الزمان الأخير عندما تأنس؟ انني مندهش كيف لا يدركون هذا وهم محبون للبحث. ومن ناحيتنا علينا ان نعتقد ان التقديس لم يأت للابن كما يجيء الينا. لأن الخالي من التقديس يمكن ان يسقط في عبودية الخطية بل ويغرق إلى ما هو أسوأ غير محتفظ بالقوة التي تحول بينه وبين الرذيلة. لذلك ليس الابن قابلاً للتغير، والا كذب المرنم وهو يصرخ بالروح قائلاً له “أنت هو هو” (مزمور 102: 27).
وبالإضافة إلى ما قلناه علينا ان ندقق فيما يلي فهو هام جداً. ان البراهين كلها تؤكد ان من يشترك في شيء مختلف تماماً عن الذي هو مشترك فيه. وإذا لم يصح هذا، فان من يشترك يصبح مشتركاً في ذاته طالما انه غير مختلف عن الذي يشترك فيه. وكيف يمكن منطقياً ان يشترك كائن في ذاته؟ وحيث ان الذين يشتركون في غيرهم لهم طبائع مختلفة فعلى الذين يقولون ان الابن الوحيد يأخذ الروح بالاشتراك فيه ان يروا انحدارهم في أعماق الكفر والغرق هناك دون ان يشعروا.
لو كان الابن يشترك في الروح القدس، والروح القدس بالطبيعة قدوس، فالابن يصبح غير قدوس بالطبيعة بل يصير قدوساً باشتراكه في آخر، أي يتحول بالنعمة إلى ما هو أفضل من وضعه الأصلي، وعلى الذين يحاربون الله ان يروا إلى أي درجة من الانحدار والكفر تطرحهم الاجابة على هذا السؤال. فأولاً الادعاء بأن الطبيعة الإلهية قابلة للتبديل والتحول، وهو الادعاء الذي ينسبونه للابن. وهذا التحول يعني انه تقدم ونما إلى ما هو أفضل. ثانياً تحول الابن إلى ما هو أقل من الآب ثم تحوله إلى ما هو أسمى من الآب بسبب اشتراكه في القداسة، حسب منطق المعاندين، لأنه في إطار هذا التفكير الطائش يبدو ان الرسول بولس الحكيم يقول عنه “ليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع ايضاً، الذي اذ كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاساً، ولكنه اخلى ذاته واخذ صورة العبد، وصار في شبه الناس. ووضع ذاته” (فيلبي 2: 5-8).
اذ قبل التجسد كان في صورة الله أي في المساواة مع الآب، ولكن عندما تجسد، أضاف إلى ذلك قبول الروح القدس من السماء والتقديس، وحسب منطق هؤلاء، يصبح في وضع أفضل وأعظم مما كان عليه، مما يجعله يتفوق على وضع المساواة مع الآب. وإذا كان قبول الروح جعله ترتفع إلى مستوى أعظم من مستوى الآب، فهو والروح يصبحان أعظم من الآب، وبذلك يصبح الآب هو الذي يمنح السمو والعظمة التي ليست له. من لا يرتعد خوفاً من سماع هذا الكفر؟!!
بالحقيقة ان مجرد كتابة هذه الأفكار التي لا تخرج مطلقاً عن إطار منطق كفر هؤلاء هو ايضاً صعب، ولكن غباوة هؤلاء لا يمكن مطاردتها الا بمثل هذه الطريقة. لكن علينا ان نسأل هؤلاء هل حصل الكلمة الله عندما صار انساناً على الروح القدس وتقدس؟ وماذا قبل التجسد، عندما كان في صورة الآب اي في المساواة، هل كان في التقديس؟ عليهم الآن ان يجيبوا بكل صراحة، لأنه ان كان قبل التجسد غير قدوس، فالآب ايضاً غير قدوس، لأن الابن فيه وهو في الابن وفي مساواة تامة. وهذا يعني ان الابن لم يكن قدوساً منذ البدء، وصار كذلك في الأيام الأخيرة عندما تجسد. هل يوجد كفر أعظم من هذا.
وأيضاً إذا كان هو حقاً كلمة الله الذي قبل الروح، وتقدس في طبيعته الخاصة فعلى المعاندين ان يقولوا، هل حدث تغير في الابن، هل صار أعظم أم أقل مما كان عليه أم ظل كما هو؟ وإذا سرنا مع الهراطقة الطريق كله واخذنا بمنطقهم، فيمكننا ان نقول إذا لم يأخذ الابن شيئاً من الروح القدس، وظل كما هو بدون تغيير، فلا تتضايقوا عندما تسمعون انه “نزل عليه”.
وإذا كان قد تغير عندما قبل الروح وصار أقل فأنتم تقدمون الينا كلمة متغير، وتتهمون جوهر الآب بالنقص وليس بالتقديس. وإذا كان الكلمة صار أفضل عندما قبل الروح، مع انه اصلاً في صورة ومساواة الآب فالآب نفسه لم يرتفع إلى نفس المستوى من المجد الفائق الذي نإله الابن. وهنا من المناسب ان أقول للهراطقة الجهلاء “ها هو الشعب الغبي الذي بلا فهم الذين لهم عيون لا تبصر، وإذان لا تسمع، لأن إله هذا الدهر أعمى عيون غير المؤمنين حتى لا يضيء لهم انجيل مجد المسيح (ارميا 5: 12 – 2كورنثوس 4: 4) لكن ما قدمناه من أفكار هو صحيح، حتى إذا كنا لم نحاول ان نشرح ذلك من قبل بشكل كامل. لأن شرحنا سوف يدور حول ما تكلم به بولس الرسول والذي قدمناه كاعتراض على فكر الهراطقة المنحرف “ليكن فيكم هذا الفكر الذي كان في المسيح يسوع ايضاً، الذي اذ كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاساً، بل أخذ صورة العبد وصار في شبه الناس واذ وجد في إلهيئة كانسان وضع نفسه ..” (فيلبي 2: 5-8) فها هو الرسول يتعجب من الابن الذي في مساواة مع الآب، ليس بسبب محبة الآب لنا، وصل إلى ذلك، بل العكس صحيح ان محبته لنا جعلته ينزل الينا إلى حقارتنا، وصار في صورة العبد، وأخلى ذاته بسبب ناسوته.
ولكن يا سادتي إذا كان الابن قد قبل الروح القدس وتقدس كما تدعون، عندما صار انساناً، وصار بالتقديس الذي قبله أعظم مما كان عليه اي أعظم من ذاته. فما هو التنازل الذي حدث في التجسد وكيف تم الإخلاء؟ كيف أخلى ذاته وتمجد في نفس الوقت؟ كيف تنازل إلى التقديس؟ أليس التقديس ارتفاع ومجد؟ كيف أخلى ذاته، وقبل الروح القدس في نفس الوقت؟ او كيف يمكن ان تقول على وجه الاطلاق انه تجسد لأجلنا؟ وكيف يمكن ان ندعي انه نال فائدة عظمى عندما تجسد لأجلنا وسمى ذلك تنازلاً؟ كيف صار الغني فقيراً لأجلنا، لكي نغتني نحن بفقره (2 كورنثوس 8: 9).
أو كيف كان غنياً قبل ظهوره في الجسد إذا كان حسب ادعاء الهراطقة قد أخذ في التجسد ما لم يكن له من قبل اي الروح القدس؟
ألا يحق للابن إذا ان يقدم لنا تسبحة شكر على ما أخذه بسببنا؟ اننا نقول عن كل هذا “تعجبي ايتها السماوات وارتعدي يقول الرب، لأن شعبي” الهراطقة “قد ارتكبوا شرين”: “لا يفهموا ما يقولون، ولا ما يقررون” (ارميا 2: 12 – 13 – 1تيموثاوس 1: 7).
انهم لا يقدرون الخطر الذي يقعون فيه عندما يحرفون هذه الأمور العالية والثقيلة! ومن الأفضل أن يسكبوا دموعاً غزيرة وان يصرخوا بصوت عال إلى الله قائلين “ضع يا رب، حارساً على فمي، واحفظ باب شفتي، لا تمل قلبي إلى كلمات الشر” (مزمور 141: 3-4) لأن كلمات الشر هي حقاً كلماتهم لكي تدمر السامعين، لكننا نحن قد طرحنا ترهاتهم من قلوبنا لكي نسير في طريق الايمان المستقيم، حافظين في عقولنا ما هو مكتوب: “طارحين كل ظنون وكل فكر يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2كورنثوس 10: 5). اذن لنحصر عقولنا إلى أسر المسيح لا سيما الموضوع الذي نحن بصدده لكي نخضع لمجد الابن الوحيد كل فكر، قائلين الحكمة النابعة من طاعته، اي تجسده. فهو الغني الذي لأجلنا صار فقيراً، “لكي نستغني نحن بفقره” (2كورنثوس 8: 9).
اقبلوا ان شئتم، برهاننا، على ما سنقول، لكن افتحوا إذا الاحتمال لكلماتنا. ان الأسفار الإلهية تعلمنا ان الإنسان خلق على صورة الله ومثاله، الذي هو فوق الكل. والذي جمع لنا الأسفار الخمسة الأولى موسى الذي شهد الله عنه بأنه أكثر من عرف الله (خروج 33: 17س) يقول “خلق الله الإنسان، على صورة الله خلقه” (تكوين 1: 27). ولكنه بالروح القدس ختم الصورة الإلهية في الإنسان، وموسى يعلمنا عن هذا ايضاً قائلاً “ونفخ في انفه نسمة حياة” (تكوين 2: 7). فأعطى الروح القدس فوراً حياة في الخليقة وبشكل إلهي طبع صورة الله في الإنسان. وهكذا فان الله الصانع الحكيم، اذ صنع المخلوق العاقل الحي على الأرض، اعطاه الوصية المخلصة. وكان الإنسان في الفردوس كما هو مكتوب (تكوين 2: 8) يحفظ العطية، مالكاً الصورة الإلهية بالروح القدس الذي سكن فيه ولكن عندما حالت فخاخ الشيطان بينه وبين أكرام الله وبدأ يحتقر خالقه، ويدوس الناموس الذي أعطاه الله اياه، ويحزن المحسن اليه، نزع الله النعمة التي اعطيت له، والذي خلق للحياة سمع لأول مرة “تراب أنت، وإلى التراب تعود” (تكوين 3: 19).
أما شبه الله فبدخول الخطية بدأ يبهت، ولم يعد الختم مشرقاً لامعاً، بل بدأ يظلم بسبب التعدي. وعندما كثر جنس البشر إلى اعداد لا تحصى، وسادت الخطية على الكل، وصارت تدمر نفس كل انسان تدميراً كاملاً، نزعت من طبيعة الإنسان النعمة الأولى وفارق الروح القدس تماماً الطبيعة الإنسانية، وسقطت الطبيعة العاقلة في أعماق الغباوة، وصارت تجهل الله خالقها. ولكن خالق الكل احتمل ذلك لفترة طويلة وأشفق على العالم الفاسد، ولأنه الله الصالح، فقد أسرع لكي يجمع قطيعه الشارد على الأرض ويضمه إلى الذين فوق (الملائكة) وقرر أن يعيد الطبيعة الإنسانية فيه من جديد إلى الصورة الأولى بالروح القدس. ولم يكن طريق آخر ممكن ان تطبع الصورة الإلهية بواسطته من جديد وتشرق في الإنسان كما كانت أولاً.. فماذا جهز الله ليحقق هذا؟ وكيف أعاد غرس النعمة غير المغلوبة؟ أو كيف تجذر الروح القدس في الإنسان؟
من اللائق ان نقول بأي طريقة أعيد خلق الطبيعة الإنسانية إلى حالتها الأولى؟ الإنسان الأول، ترابي من تراب الأرض، وكان في قدرته الاختيار بين الخير والشر، لأنه يميل إلى الخير او الشر ولكنه سقط بمكر وخدعة لئيمة، ومال إلى العصيان، فسقط إلى الأرض، الأم التي خرج منها، وساد عليه الفساد والموت، ونقل العقوبة إلى كل الجنس البشري كله. ونما الشر وكثر فينا وانحدر ادراكنا إلى الأسوأ وسادت الخطية، وبالإجمال ظهر ان الطبيعة الإنسانية تعرت من الروح القدس الذي سكن فيها. “لأن روح الحكمة يهرب من الخداع” وكما هو مكتوب “ولا يسكن في الجسد الخاضع للخطية” (حكمة 1: 4 سبعينية) ولأن آدم لم يحتفظ بالنعمة التي اعطاها الله له قرر الله الآب ان يرسل لنا آدم الثاني من السماء. فنزل إلى شكلنا، ابنه الوحيد، الذي هو بالطبيعة بلا تغيير او اختلاف، بل لم يعرف الخطية مطلقاً، حتى كما “بعصيان” الأول خضعنا للغضب الإلهي (رومية 5: 19)، هكذا بطاعة الثاني نهرب من اللعنة وكل شرورها تنتهي. ولكن حينما صار كلمة الله انساناً، قبل الروح القدس من الآب كواحد منا، ولم يقبله كأقنوم في ذاته، لأنه كأقنوم هو واهب الروح وانما الذي لم يعرف خطية، عندما يقبل الروح كانسان، يحفظ الروح لطبيعتنا، لكي ما تتأصل فينا النعمة التي فارقتنا. لذلك السبب اعتقد ان المعمدان القديس اضاف “رأيت الروح نازلاً من السماء واستقر عليه”. لقد فارقنا الروح بسبب الخطية، لكن الذي لم يعرف خطية، صار كواحد منا لكيما يتعود الروح القدس على السكن فينا، بدون مناسبة للمفارقة او الانسحاب منه. لذلك أخذ الروح القدس فيه، ليجدد، الصلاح الأول لطبيعتنا. وعن ذلك قيل ايضاً: “لأجلنا افتقر” (2كورنثوس 8: 9) لأنه وهو الغني كالله ولا يحتاج لأي صلاح، صار انساناً يحتاج إلى كل شيء، وعنه قيل بكل صواب “وأي شيء لك لم تأخذه”؟ (1 كورنثوس 4: 7).
وأيضاً وهو بالطبيعة الحياة، مات بالجسد لأجلنا، لكي يغلب الموت لأجلنا ويقيم طبيعتنا كلها فيه، (لأن الكل كان فيه بصيرورته انساناً)، وهكذا ايضاً، قبل الروح القدس لأجلنا، لكي ما يقدس طبيعتنا كلها. لأنه لم يأت لكي ينفع نفسه بل لكي يصبح لنا جميعاً، الباب والبداية والطريق لكل الخيرات السمائية. ولو كان قد رفض ان يقبل (الروح) كإنسان، او ان يتألم عنا كواحد مثلنا، فكيف يمكن لأي انسان ان يوضح انه وضع ذاته؟
او ما الداعي لأن يحتفظ بصورة العبد، إذا لم يكن شيء خاص بصورة العبد قد كتب عنه. وعلينا ان لا نقطع التدبير الحكيم إلى اجزاء، لأن بولس يصرخ مندهشاً من التدبير “لكي يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في الأماكن السماوية بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب القصد الأزلي الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا” (أفسس 3: 10-11).
وحقاً عظيم هو سر التجسد الذي رأيناه مملوءاً حكمة إلهية. هكذا يجب ان نفهم المخلص، نحن الذين اخترنا طريق التقوى، ونبتهج بالتعاليم الارثوذكسية. لأننا لن ننحدر إلى عدم التعقل. لكي نعترض ان الابن كأقنوم ينال الروح القدس، لأنه بسبب وحدة الجوهر، فالروح موجود في الابن، كما هو في الآب ايضاً، لأنه كما ان الروح القدس من الآب كذلك هو من الابن، كما هو مكتوب “فلما أتوا إلى ميسيا حاولوا ان يذهبوا إلى بثينية، فلم يدعهم روح يسوع” ([1]) (أعمال 16: 7).
لكن إذا كان أحد لم يستحسن ما قلناه، ويعترض على الشرح الذي قدمناه، وبغيرة عمياء يدعي ان الابن ينال الروح القدس بالمشاركة او انه لم يكن فيه من قبل، ثم حل الروح فيه عندما اعتمد واثناء فترة التجسد، فعليه ان يرى إلى أي درجة من عدم الادراك سوف يسقط. لأنه أولاً يقول المخلص: ليس بين المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا (متى 11: 11)، وهذا حق، ولكننا نرى ان الذي وصل إلى هذه المكانة والمجد والفضيلة كانسان، يكرم المسيح بكرامة لا يمكن مقارنتها. فهو يقول “أنا لست مستحقاً ان انحني وأحل سيور حذائه” (مرقس 1: 7). فكيف لا يبدو غير معقول، بل بالحقيقة كفر، ان نؤمن ان يوحنا “امتلأ من الروح القدس من بطن أمه” (لوقا 1: 15)، ونعتقد ان سيده، بل سيد ورب الكل قبل الروح القدس عندما اعتمد، مع ان جبرائيل يقول للعذراء القديسة “الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، لذلك القدوس المولود منك، يدعى ابن الله” (لوقا 1: 35) وعلى محب المعرفة ان يرى قوة الكلمات التي تتمخض بالحق. لأنه يقول عن يوحنا “يمتلئ من الروح القدس (لأن الروح القدس صار فيه كعطية وليس بالجوهر) أما عن المخلص فالملاك لا يقول “سوف يمتلئ” بالمعنى الدقيق للكلمة بل “القدوس المولود منك” ولم يقل “المولود منك سوف يصير قدوساً” فهو دائماً قدوس بالطبيعة لأنه الإله.
ولكنني اعتقد انه يجب ان نبحث عما يليق من كل الزوايا، فان دراسة بشارة الملاك نفسها تدريب عملي على التقوى، ويا ليتنا نتقدم فيه قليلاً قليلاً. يقول الملاك “الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، لذلك القدوس المولود منك يدعى ابن الله”. وعلى الذين يقاومون التعليم الارثوذكسي للكنيسة ان يقولوا لنا هل كان الكلمة قبل التجسد هو ابن الله، ام كان له مجد البنوة بالاسم فقط، وهل دعي زوراً الابن ام هو بالحقيقة كذلك؟ فإذا قالوا انه لم يكن الابن بالمرة، فبذلك ينكرون الآب ايضاً، كمن لا ابن له، وهذا الاعتقاد مضاد تماماً للأسفار المقدسة. وإذا اعترفوا بأنه الابن قبل التجسد، وانه كان وسيظل الابن فكيف يقول الملاك في البشارة للعذراء القديسة ان الذي سيولد منها سيدعى ابن الله؟ لكنه بالطبيعة ابن الله، لأنه كذلك منذ الأزل مع الآب، ولكن عند التجسد، ولأنه سوف يظهر في العالم بالجسد يؤكد الملاك انه سيدعى ابن الله، أي لن يفقد طبيعته الإلهية.
كذلك ايضاً فالابن له الروح حسب وحدة الجوهر، ولكنه قيل انه سوف يقبله كانسان لكي يحفظ للإنسانية الصلاح الذي تحتاجه ومع هذه العطية يحفظ لنا كل ما يمكن ان نأخذه. ولكن كيف يمكن ان نعتقد ان الكلمة يمكن ان يكون منفصلاً عن روحه؟ الا يكون غير معقول ان نقول ان روح الإنسان ليست فيه، وحسب تعريف طبيعة الإنسان الكاملة والحية، هل يمكن ان نتكلم عن انسان بلا روح. وافترض ان هذا واضح جداً للكل، فكيف يمكن ان نفصل الروح القدس عن الابن، الذي هو معه، ومتحد به في الجوهر الواحد، والذي به ينبثق، وهو موجود فيه بالطبيعة، ولا يمكن ان يكون مختلفاً عنه لأنه اقنوم مثله، له ذات الطبيعة الإلهية التي للابن. وعلينا ان نسمع ما يقوله المخلص لتلاميذه. “ان كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب وهو سيعطيكم معزياً آخر، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله” (يوحنا 14: 15-17) وها هو يقول عن الروح القدس “روح الحق” والابن وحده وليس آخر غيره هو الحق، لأنه يقول “أنا هو الحق” (يوحنا 14: 6). وإذا كان الابن بالطبيعة يدعى الحق، فعلينا ان نرى كم هي عظيمة الوحدة التي بينه وبين الروح القدس، وهي التي جعلت يوحنا الرسول يقول عن مخلصنا “هذا الذي جاء بالماء والدم والروح، يسوع المسيح ليس بالماء فقط، وانما بالماء والدم. والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق” (1 يوحنا 5: 6) ولذلك السبب نفسه اذ يحل الروح القدس في انساننا الداخلي (أفسس 3: 16)، يقال ان “المسيح نفسه هو الذي يحل فينا” (افسس 3: 17) وحقاً يعلمنا بولس المبارك ذلك قائلاً “ولكنكم لستم في الجسد ولكن في الروح، ان كان روح الله ساكناً فيكم. والآن إذا كان انسان ليس له روح المسيح فهو ليس للمسيح. وان كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية، أما الروح فحياة بسبب البر” (رومية 8: 9-10). أعطوا إذاننا صاغية يا سادة، لما سمعتم. لأن الرسول يسمي الروح الساكن فينا، روح المسيح، ولذلك فوراً يضيف “وان كان المسيح فيكم” مقدماً بذلك المساواة التامة بين الابن والروح، “نصرخ أبا ايها الآب” (رومية 8: 15) وكما يقول يوحنا المبارك “بهذا نعرف انه ساكن فينا، لأنه قد اعطانا من روحه” (1 يوحنا 4: 13).
اعتقد ان ما ذكرت يكفي ابناء الكنيسة لمقاومة أخطاء الهراطقة ولكن ان كان أحد معتاداً ان يشرب الخمر الرديء الذي يقدمه الهراطقة لكي يسكر به ويفترض ان الابن قبل الروح القدس عندما تأنس. فعليه ان يعلن رأيه بصراحة ويقول ان كلمة الله لم يكن قدوساً قبل تجسده، وهذا الكفر الظاهر يجعلنا نكف عن مناقشته ونحتفظ بسلامنا الداخلي.
يمكن ان نتعجب كيف يحتفظ الانجيلي القديس بالكلام الدقيق الذي يليق بالطبيعة الإلهية. فقد قال سابقاً “الله لم يره أحد قط”، ولكنه يقول عن المعمدان أنه “رأى الروح نازلاً من السماء” على الابن، ويضيف بالضرورة “رأيت الروح” ولكن في شكل حمامة، فهو لم ير الروح كما هو في طبيعته، وانما في ظلال وداعة الطائر. وبذلك حفظ لنا الانجيلي المساواة ايضاً بين اقنوم الابن واقنوم الروح، فالابن يقول عن نفسه “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (متى 11: 29). فالروح لم يظهر مطلقاً، لأنه الله، واحتفظ بطبيعته الإلهية غير الظاهرة، وظهر فقط بشكل حمامة، بسبب الاعلان الذي قدم ليوحنا المعمدان، الذي قال ان نزول الروح وهب له كعلامة، لكي يشهد للمخلص “والذي ارسلني لأعمد بالماء، هو نفسه قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، هو نفسه الذي يعمد بالروح القدس”.
اعتقد اننا نستطيع ان نضحكم من آراء الهراطقة غير عابئين بما يقولونه، لأنهم أخذوا العلامة على غير معناها، مع انها اعطيت كعلامة فقط ولأجل اعلان تدبير، وكما قلت أكثر من مرة وبسبب حاجة الجنس البشري.
يو 1: 34- “وأنا قد رأيت وشهدت ان هذا هو ابن الله”:
صادقة هذه الشهادة، فالذي رأى تكلم بما رآه. فهو لا يجهل ما هو مكتوب “ما تراه بعينيك ايه أخبر” (أمثال 25: 7 س) “رأيت” العلامة وفهمت ما هو المقصود منها، لكي أشهد ان هذا هو ابن الله الذي أعلنه الناموس بواسطة موسى، وبشرت به أصوات الأنبياء القديسين.
ولكي يبدو لي ان الانجيلي المبارك يسجل شهادة يوحنا المعمدان بثقة عظمى “هذا هو ابن الله” أي الواحد الوحيد بالطبيعة ووارث طبيعة الآب ذاتها، وبالابن نحن نتشبه، وبه ندعى بالنعمة إلى كرامة البنوة. لأن كل شيء من الله الآب ولذلك منه “تسمى كل عشيرة في السماء وعلى الأرض” (أفسس 3: 15)، فهو الآب حقاً وهو الآب الأول والحقيقي، وكذلك كل بنوة هي من الابن، بسبب انه هو الابن حقاً، الذي من جوهر الآب، وليس بالاسم فقط. فهو لم ينفصل، ولا أنقطع عن الآب، فالطبيعة الإلهية لا تقبل التجزئة، بل الابن وأحد من وأحد، كائن مع الآب الذي منه ولد، وهو في الآب، ويشرق من الآب، غير منظور وغير متجزئ وبلا حدود، لأن اللاهوت ليس مثل الجسد، ولا محصور في مكان، ولا من طبيعة تتقدم تدريجياً وتنمو مثل الكائنات المخلوقة. بل اللاهوت مثل الحرارة الصادرة من النار، يمكن تمييزها فكرياً، وادراكها متميزة عن النار، ولكنها في النار، ومن النار، وتصدر عن النار دون انفصال، او انقطاع، لأنها في النار كلها وليس في جزء منها، وهكذا نعتقد في المولود الإلهي. وندرك ان هذا التشبيه يليق بالله. فالابن له اقنومه المتميز عن أقنوم الآب، دون ان ينفصل عن اللاهوت الواحد الفائق، ولا نقول ان له جوهراً آخر غير جوهر الآب. لأنه بدون وحدة الجوهر لا يمكن ان نقول بصواب انه الابن، بل يكون آخر غير الابن، او إله جديد قد ظهر غير الإله الحقيقي الذي هو كائن منذ الأزل، فكيف لا يكون من هو ليس من جوهر الآب نفسه بالطبيعة، سوى آخر غير الإله الحق؟ ولكن حيث ان المعمدان المبارك هو شاهد صادق، له سمعة عظيمة ويشهد ان “هذا هو ابن الله”، سوف نعترف ان الابن هو الإله الحق، من جوهر الآب ذاته، وهذا وحده ولا سواه هو معنى اسم الابن.
يو 1: 35-36 “وفي اليوم التالي ايضاً كان يوحنا واقفاً هو واثنان من تلاميذه. فنظر إلى يسوع ماشياً فقال هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم”:
لقد أشار اليه المعمدان من قبل، ولكن هل هو يعيد نفس الكلمات، ويشير لتلاميذه بأن يسوع هو حمل الله الذي يسير أمامه وأنه هو الذي يرفع خطية العالم. هذه الشهادة تهدف إلى ان تذكر السامعين بالذي قال عنه الانبياء “انا هو الماحي ذنوبك ولا أذكر خطاياك” (اشعياء 43: 25). وليس عبثاً ان يكرر المعمدان نفس الكلام الذي قاله سابقاً عن المخلص، لأن كفاءة المعلم، ان يثبت في نفوس التلاميذ الكلمة الخاصة بالتعليم، ولا يتردد في أن يكرر، وانما يحتمل التكرار من أجل فائدة التلاميذ. ولذلك يقول بولس المبارك “كتابة نفس الأمور اليكم، ليست على ثقيلة وأما لكم فهي مؤمنة” (فيلبي 3: 1).
يو 1: 37- “فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع”:
هل ترون الثمرة ابنه التعليم الصحيح؟ هل ترون قيمة التكرار؟ وعلى الذين اؤتمنوا على التعليم ان يتعلموا من هذا ان يكون مرتفعاً فوق التكاسل، وان يعتبر الصمت أشد ضرراً لنفسه من السامعين، وان لا يدفن وزنة الرب في تل من التهاون مثل الذي دفن في الأرض وزنته بل ان يعطي النقود للصيارفة، (متى 25: 18-27). لأن المخلص سوف يسترد نقوده مع الفوائد، وكما يحي البذرة في التراب، كذلك يفعل بالكلمة. وهنا لدينا برهان كاف عما قلناه. لأن المعمدان لا يتوانى عن الاشارة إلى الرب لكي يدرك تلاميذه انه الآتي. وعندما سمعه تلاميذه في المرة الثانية “هوذا حمل الله”. فقد استفادوا فائدة عظمى من التكرار؟ حتى ان التكرار نفسه حملهم على ان يتبعوه، وان يطلبوا التلمذة له.
يو 1: 38- “فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان. فقال لهما ماذا تطلبان”:
يليق بالرب ان يلتفت للذين يتبعونه، لكي نتعلم بالعمل ما قيل في المزمور “طلبت الرب، فاستمعني” (مزمور 34: 4). لأننا عندما لا نطلب الحياة الفاضلة والايمان الحق، نصبح كما لو كنا خلفه، ولكن عندما نعطش للناموس الإلهي ونختار طريق البر المقدس، فهو سوف يلتفت الينا ويصرخ بما هو مكتوب “التفتوا إلى فالتفت اليكم يقول رب الجنود” (زكريا 1: 3). ولكن يسوع يقول لهما ماذا تطلبان؟ ليس لأنه يجهل ما يطلبان، كيف يمكن ان يحدث هذا فهو كإله يعرف كل شيء وانما جعل السؤال بداية وأساس حديثه.
“فقالا، يا معلم اين تمكث”:
مثل أناس تعلماً جيداً حسن الكلام ويجيبان حسناً، وها هما يقولان له “يا معلم” أي ايضاً “يا سيد” وهو تعبير يؤكد استعدادهما لكي يتعلما. ويطلبان ان يعرفا منزله فهو أكثر مكان مناسب يمكن ان يجدا فيه احتياجهما. وربما شعراً بأن الحديث عن احتياجهما في الطريق العام هو غير مناسب لا سيما مع رفاق السفر وما قيل هنا هو مثال مناسب لنا جميعاً عن العلاقة بين المعلم والتلميذ.
يو 1: 39- “فقال لهما تعاليا وانظرا”:
لا يشير المسيح إلى المنزل مع انهما سألا عنه بشكل واضح، لكنه يسألهما ان يأتيا اليه وجعل هذا مثالاً للسلوك الصالح لأن كل من يريد ان يبحث عن ما هو صالح، عليه ان لا يتأخر بالبحث عن أمور فرعية، لأن التأخير مضر.
وبالإضافة إلى ذلك كان هذان يسجلان البيت المقدس لمخلصنا المسيح، أي الكنيسة ولا يكفي بالمرة للخلاص ان يعلما اين هي، ولكن ان يدخلا اليهما بالإيمان، لكي يشاهدا الاشياء التي تمت فيها سرياً.
“فأتيا ونظرا اين يمكث، ومكثا عنده ذلك اليوم. وكان نحو الساعة العاشرة”.
بشوق يطلب التلميذان معرفة الأسرار الإلهية. واعتقد ان العقل المزدوج والمنقسم يناسب الذين يشتهون المعرفة، وانما على الذي يبحث عن المعرفة الإلهية ان يكون ثابتاً، مرتفعاً فوق الخرافات غير عابئ بالتعب المقدس، وهكذا خلال الحياة كلها يواصل ما يسعى اليه بغير تامة. وهذا معنى الكلمات “ومكثا عنده ذلك اليوم”. ولكن عندما يقول “وكان نحو الساعة العاشرة”. فان كل انسان يستطيع ان يصل إلى المعنى الذي يناسب ادراكه لأن كاتب الإلهيات، أراد ان يوصل الينا معنى خفياً يصعب ادراكه لأول وهلة، وأراد ان يعلمنا انه ليس في بداية العالم العالم أعلن السر العظيم الخاص بالمخلص، وانما في نهاية الدهور. لأنه في الأيام الأخيرة، يكون “الكل متعلمين من الله” (اشعياء 54: 13). ويمكننا ان نأخذ ايضاً الرمز الذي أراده الانجيلي من الساعة العاشرة، لأن التلميذين مكثا مع المخلص، وصارا ضيوفه، وهكذا الذين بالإيمان يدخلون البيت المقدسة (الكنيسة) ويتقابلون مع السيد المسيح، عليهم ان يتعلموا ان يمكثوا معه، وان لا يرغبوا في الاغتراب عنه، او الابتعاد عنه بالعودة إلى الخطية، او العودة إلى عدم الايمان.
يو 1: 40-41 “كان اندراوس أخو سمعان بطرس وأحداً من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه. هذا وجد أولاً أخاه سمعان فقال له قد وجدنا مسيا الذي تفسيره المسيح. فجاء به إلى يسوع”:
عندما أخذ الوزنة، على الفور بدءاً في الثمار، لكي يقدما إلى الرب ما يخصه. وهكذا بالحقيقة النفوس الطائعة الوديعة التي لا تحتاج إلى كلمات كثيرة لكي تعمل ولا يقدمون ثمار التعليم بعد سنوات وشهور من التعب، بل يصلون إلى غاية حكمة التعليم مع بداية تعليمهم. لأنه مكتوب اعط تعليماً للحكيم فيزداد حكمة، وعلم البار فيزداد علماً” (امثال 9: 9).
اندراوس يخلص اخيه أي بطرس، ويعلن له السر كله في كلمات قليلة، لقد وجدنا يسوع، الكنز المخفي في حقل، او اللؤلؤة الكثيرة الثمن على حد تعبير أمثال الانجيل نفسه (متى 13: 44-46).
يو 1: 42 “فنظر اليه يسوع وقال انت سمعان بن يونا. انت تدعى صفا الذي معناه صخرة”.
ينظر المسيح إلى سمعان نظرة إلهية، أي نظرة من يعرف القلب والاحشاء “ارميا 20: 12) ويرى الدرجة العالية التي سيصل اليها التلميذ في ادراكه للتقوى، وكيف سيترك خلفه آثاراً لا تمحى. والذي يعرف الاشياء قبل ان تكون، لا يجهل شيئاً، ولذلك يبدأ على الفور يعلم التلميذ ويبدأ بالدعوة نفسها، لأنه الإله الحق الذي له معرفة لم يتعلمها من أحد. فهو لو يكن محتاجاً إلى كلمة او حتى اشارة لكي يعلم من هو، ومن اين جاء صفا (بطرس). ويقول له فوراً اسم ابيه، واسمه، بل لا يسمح له بأن يكون اسمه سمعان فهو يمارس سلطان ربوبيته عليه، لأنه يملك الكل ولذلك فهو ايضاً يخصه. ويغير اسمه من سمعان إلى بطرس Petra أي صخرة، أي يشير إلى الاساس الذي سوف يبني عليه كنيسته (متى 16: 18).
يو 1: 43 “وفي اليوم الذي بعد ذاك أراد يسوع ان يخرج إلى الجليل فوجد فيلبس فقال له اتبعني”.
كان فيلبس من نفس نوع الرجال الذين تقابلوا مع المسيح، وكان على استعداد لأن يتبع المسيح. وكان المسيح يعرف انه سيكون تلميذاً صالحاً. لذلك يقول له “اتبعني” جاعلاً هذه الكلمة علامة على النعمة التي سينالها، ولذلك يأمره بأن يتبعه. وهذه شهادة بأن تغييره كان فائقاً. ولذلك اختاره، عالماً انه سيكون صالحاً.
يو 1: 45 “فيلبس وجد نثنائيل، وقال له وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة”.
بسرعة فائقة يجمع التلميذ الثمر، لكي يلحق باللذين سبقوه من التلاميذ. لقد “وجد نثنائيل” وهذا لا يعني انه تقابل معه من مدة طويلة، بل يبحث عنه بكل اهتمام. فقد كان يعلم ان نثنائيل مجاهد محب للمعرفة. وهذا ظاهر من الكلمات الموجهة اليه. وجدنا الذي كتبت عنه الأسفار المقدسة، فهو لم يكن يتكلم مع شخص جاهل، بل مع من هو متعلم جيداً فيما يخص موسى والانبياء. ومع هذا كانت هناك أفكار خاطئة كثيرة منتشرة بين اليهود عن يسوع مخلصنا، مثال ذلك انه سيكون من قرية الناصرة مع انه حسب الاسفار الإلهية سيكون من بيت لحم حسب النبوة “وأنت يا بيت لحم ارض يهوذا، بيت افراثه، لست الصغرى بين ألوف يهوذا، لأن منك سوف يأتي الذي يملك في اسرائيل، وخروجه من القديم منذ الأزل” (ميخا 5: 2 سبعينية) والحقيقة ان يسوع من بيت لحم ولكنه تربى وكبر في الناصرة، حسب شهادة الانجيلي نفسه الذي قال “وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى” (لوقا 4: 16)، ولكنه لم يكن مطلقاً من الناصرة بل من بيت لحم حسب شهادة الانبياء. ومن هذا ندرك ان فيلبس اذ يتبع الأفكار الشائعة بين اليهود لذلك يقول يسوع الذي من الناصرة.
يو 1: 46 – فقال له نثنائيل “أمن الناصرة يمكن ان يكون شيء صالح”.
نثنائيل مستعد ان يوافق ان شيئاً عظيماً وهاماً، يتوقع الكل ان يستعلن لا يمكن ان يأتي من الناصرة. واعتقد انه واضح جداً، لم يعتبر الناصرة، المكان الذي كان سيأتي منه المسيح لأن معرفته بالناموس والأنبياء، لا تنبئ بذلك وكشخص متعلم ويفهم لم يقبل بسرعة ما قاله فيلبس.
“تعال وانظر”:
يقول فيلبس ان النظر يكفي لإقناع الايمان، وإذا تحدثت معه سوف تعترف بسبب استعدادك، وبدون تردد سوف تقول، انه هو الآتي. ومعنى الكلمات “تعال وانظر” هو ان الكلمات التي كانت تسمع من المخلص كانت إلهية محملة بالنعمة، تجذب نفوس السامعين. لأنه مكتوب ان الكل “تعجب من كلمات النعمة الخارجة من فمه” (لوقا 4: 22). ولأن كلمته قوية في فعلها فهي قادرة على ان تجذب السامعين.
يو 1: 47 – “هوذا اسرائيلي حقاً لا غش فيه”.
لم يكن المسيح قد أجرى آيات بعد، ولذلك لجأ إلى اسلوب آخر لكي يقنع تلاميذه والحكماء من بين الذين أتوا اليه، بأنه بالطبيعة ابن الله، ولكنه بسبب خلاص الكل جاء في شكل بشري. وما هو بديل المعجزات، انه معرفة الخفيات، التي هي خاصة بالله. وهنا يقبل نثنائيل ليس بكلمات الإطراء، بل بما يشعر به نثنائيل، مقدماً له عربوناً بأنه يعرف القلوب كإله.
يو 1: 48 “من اين تعرفني”.
بدأ نثنائيل يتعجب، وبدأت دعوته إلى ايمان ثابت، ولكنه يرغب في ان يعرف من اين حصل المسيح على ما عرفه عنه. لأن النفوس التقية والمحبة للتعليم هي دقيقة جداً، ولعله افترض ان بعض ما يعرفه الرب جاء عن طريق فيلبس.
“قبل ان دعاك فيلبس وانت تحت التينة رأيتك”:
هنا ينهي المخلص تعجبه قائلاً له قبل ان تتقابل مع فيلبس، وقبل ان تتحدث معه، “رأيتك تحت التينة” بدون ان أكون حاضراً معك بالجسد. وما أعظم منفعة التينة والمكان، مؤكداً له حقيقة أنه رآه. ولأن المسيح كانت لديه معرفة دقيقة بما يعرفه نثنائيل عن نفسه، خضع له نثنائيل على الفور.
يو 1: 49 “يا معلم انت ابن الله، انت ملك اسرائيل”.
يعرف نثنائيل ان الله وحده فاحص القلوب، وهو وحده الذي يعرف الخفيات، ولا يشاركه أحد في هذه المعرفة، وهو ما قيل عنه في المزمور “الله فاحص القلوب والكلى” (مزمور 7: 9) ولم ينسب المرنم إلى أحد آخر هذه الصفة بالذات سوى الله وحده.
وعندما رأى نثنائيل ان الرب رأى افكاره وهي تدور في عقله، دون ان تتحول إلى صوت مسموع او حتى همسات، على الفور قال له “يا معلم”، وأعلن بذلك استعداده لأن يدخل في التلمذة، وباعترافه بأنه “ابن الله وملك اسرائيل” أكمل التلمذة، لأن هذه هي صفات اللاهوت، ونثنائيل كشخص متعلم جيداً يؤكد ان يسوع هو تماماً وبالطبيعة الله.
يو 1: 50 “هل آمنت لأني قلت لك إني رأيتك تحت التينة سوف ترى أعظم من هذا”.
يقول المسيح له سيكون ايمانك أكثر ثباتاً، لا سيما عندما “ترى أعظم من هذا” لأن الذي يؤمن بمجرد رؤيته آية وأحدة، كيف لا يتقدم ايمانه إذا رأى آيات أخرى، خصوصاً إذا كانت هذه الآيات أكثر وأعظم في قوتها.
51 – “الحق الحق أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان”.
هذه الكلمة هي دعوة عامة لكل الذين يؤمنون، وهي في نفس الوقت ختم ايمان نثنائيل. ولكن القول بأن الملائكة سوف يرون، يصعدون وينزلون على ابن الإنسان، أي يخدمون وينفذون ما يأمر به، من اجل خلاص الذين يؤمنون، فان ذلك سوف يعلن بشكل خاص، انه بالطبيعة ابن الله. لأن القوات العقلية السمائية، لا تخدم أحداً سوى الله وهذا لا يعني ان الملائكة بعد التجسد لم تعد خاضعة بل كما نسمع في أحد الأناجيل، ان ملائكة جاءت لكي تخدم مخلصنا المسيح (متى 4: 11).
([1]) “روح يسوع” هكذا في الترجمة السريانية القديمة، وهكذا وجدت ايضاً في أقدم المخطوطات.