شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج4 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الأول: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج1 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الثاني: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج2 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الثالث: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج3 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الجزء الخامس: شرح إنجيل يوحنا – الأصحاح الأول ج5 – القديس كيرلس الاسكندري – ترجمة: د. جورج حبيب بباوي
الفصل التاسع
ان نفس الإنسان لا وجود لها قبل وجود الجسد. وليس وجود النفس في الجسد – كما يقول البعض – هو بسبب خطايا سابقة.
بكل يقين يضع الانجيل الإلهي، الاعلان عن الابن الوحيد بشكل متسع لكي يؤكد انه النور الحقيقي، ويضيف بكل دقة إلى ما قاله سابقاً ويصرخ عالياً: “كان النور الحقيقي الذي ينير كل انسان، آتياً إلى العالم”.
وحيث ان البعض من الذين يفشلون في فهم التعاليم الإلهية ولا يبحثون جيداً يدعون ان الملائكة ينيرون عقل البشر ويقولون: أخبرنا، اليس كرنيليوس قد قبل تعليماً من الملاك عن ضرورة خلاصه بالمعمودية؟ وماذا عن منوح والد شمشون، ألم يتعلم بصوت الملاك عن الاشياء المستقبلة؟ (قض 13: 2). وايضاً زكريا النبي ألم يعلن بوضوح ويخبرنا: “والملاك الذي تكلم معي قال لي تعال لكي اريك ماذا يكون” (زك 1: 9).
وإذا درست هذه الكلمات ألا نجد ان الملاك يعلن المعرفة الخفية الخاصة بالمستقبل من خلال عقله. لأنه يقول: “وإذا الملاك الذي يتكلم معي ذهب وجاء ملاك آخر لمقابلته، وقال له أسرع وأخبر هذا الرجل قائلاً سيسكن اورشليم كثرة من الناس حتى تكون مدينة بلا أسوار بسبب كثرة الناس والبهائم” (زكريا 2: 3-4). وماذا عن النبي دانيال؟ ألم يستغرق في رؤياه العجيبة. عندما اعلنت الملائكة له الرؤيا التي رآها؟ وها هو يقول: “وحدث انني انا دانيال رأيت الرؤيا وطلبت المعنى وإذا بشبه انسان واقف قبالتي وسمعت صوت انسان بين أولاي. فنادى وقال يا جبرائيل اجعل هذا الإنسان يفهم الرؤيا” (دا 8: 15-16). كل هذا يؤكد ان قوة الاستنارة هي في الملائكة. بل حتى الإنسان يمكنه ان يستعين بانسان آخر لكي ينيره. وحقاً كان الخصي مشتاقاً لأن يعلم من هو الشخص محور النبوات التي كان يقرأها مع انها كانت عن المخلص، وقال لفيلبس “اطلب اليك، عن من يقول النبي هذا عن نفسه ام عن وأحد آخر؟” (أع 8: 34). بل ان الذين يستعينون بالمعلمين في هذا الدهر ليس لديهم أي غرض آخر سوى ان يستنيروا ولماذا نتعب والبرهان جاهز في ايدينا وهو ما قاله المخلص لرسله القديسين “أنتم نور العالم” (مت 5: 14).
مثل هذه الأفكار تصدر عن الذين يتحيرون. ولنا اجابة على هذا. أنتم ترون يا أصدقائي ان المخلوق هو كائن مركب وليس بسيطاً بل لا يوجد فيه شيء بسيط. ولذلك فالذي يعطي حكمة لآخرين وهو مخلوق ليس هو الحكمة بل خادم للحكمة التي لأنه بالحكمة يصبح الإنسان حكيماً. وكذلك من يعلم الفطنة او التدبير ليس هوالفطنة او التدبير بل هو خادم الفطنة او التدبير. وبالفطنة والتدبير يصبح الإنسان فطيناً او مدبراً. وايضاً كل من هو قادر على ان يعلم آخرين وينيرهم ليس هو النور وانما يقدم النور الذي فيه للآخرين بالتعليم ويشركهم في الخير الذي أخذه. وهذا هو السبب الذي بشأنه قيل “مجاناً اخذتم مجاناً اعطوا” (يو 10: 8). لأنه مهما كانت الخيرات التي فيهم، فهي بكل يقين من الله، لكي لا تفتخر الطبيعة الإنسانية بما لديها من خيرات، ولا حتى الملائكة القديسين .. لأننا بعد ان دعينا إلى الوجود فان كل الموجودات تنال كيانها الخاص من الله. ونحن نؤكد هنا وعلى أساس ثابت ان أي صلاح او خير في الموجودات ليس فيها من جوهرها، بل ليس الا نعمة مجانية من الخالق والكل مبني على نعمة الصانع.
وحيث ان المخلوقات هي من طبيعة مركبة فليس فيها مطلقاً نور بسيط ولا نور مركب بل النور وكل شيء آخر ينالونه هو بالاشتراك في الله. لكن النور الحقيقي هو الذي ينير وليس الذي يستنير من آخر. وهكذا الابن الوحيد كائن بسيط غير مركب لأن اللاهوت ليس فيه ثنائية.
هذه الأمور يجب ان تؤخذ هكذا. أما المعارضون فسيقولون لنا. لو كان القديسون ليسوا بالطبيعة، النور، فلماذا لا يدعوهم المخلص شركاء النور بدلاً من النور؟ وكيف يصبح المخلوق مختلفاً عن ابن الله، ما دام التلاميذ قد سمعوا “أنتم نور العالم” (مت 5: 14).
اجابتنا على هذا يا سادتي الاعزاء هي: نحن ابناء الله بل دعينا إلهة في الاسفار الإلهية حسب المكتوب “ألم أقل انكم إلهة وبنو العلي كلكم” (مز 82: 6). هل يعني هذا ان نتخلى عن كياننا ونرتفع إلى جو اللاهوت غير المنطوق به وان خلع الابن الكلمة من بنوته ونجلس نحن في مكانه مع الآب ونجعل محبة الذي أكرمنا عذراً للكفر؟ حاشا لله. فالابن هو كائن غير متغير. أما نحن فبالتبني صرنا أبناء وإلهة بالنعمة، غير جاهلين من نحن، وعلى نفس القياس لا نؤمن ان القديسين هم النور اما عن النور الحقيقي فعلينا ان نرى الأمر على هذا النحو: أن الكائنات العاقلة في الخليقة بعد ان تستنير تنير غيرها بالشركة في الأفكار التي تنسكب من العقل في أذهان الآخرين. وهذه الاستنارة بالصواب توصف بأنها تعليم وليست اعلاناً. أما الكلمة الذي من الله الآب فهو ينير كل انسان آت إلى العالم، ليس بالتعليم مثلماً يفعل الملائكة او البشر، وانما كإله خالق يضع في كل المدعوين إلى الوجود بذرة الحكمة او بذرة المعرفة الإلهية. ويزرع جذر الفهم مما يجعل الكائن حياً عاقلاً معلناً بذلك اشتراكه في طبيعته ومرسلاً إلى العقل اشعة نور من بهائه غير المدرك بشكل يعرفه هو وحده، ولا يجوز لأي انسان ان يضيف شيئاً أكثر من ذلك في هذه الموضوعات وحتى ابونا الأول آدم نال الحكمة فوراً وبدون ان يتعلم في مرحلة من الزمان مثلنا، بل منذ بداية وجوده كانت له معرفة كاملة واحتفظ لنفسه بالنور الذي اعطاه الله دون انزعاج وبنقاوة طالما احتفظ بكرامة طبيعته غير مدنسة وغير مختلطة.
اذن فالابن ينير الخليقة كخالق لأنه النور الحقيقي، وعندما تشترك الخليقة في نور الابن تشرق بنوره وتصبح في هذه الحالة نوراً، لأنها بتعطف الابن ترتفع إلى فوق، لأنه مجد الخليقة وكللها بأكاليل متنوعة من الكرامة، لكي يأتي اليه كل من نال كرامة ويرفع صلوات الشكر بصوت عال: “باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته، الذي يغفر جميع ذنوبك ويشفي كل أمراضك ويفتدي من إلهلاك حياتك ويكللك بالمحبة المترفقة والرحمة الحانية ويملأ فمك بالخيرات” (مز 103: 2-5). وحقاً يرحم إله المراحم اولئك الصغار والذين لا قوة لهم ولا سلطان في طبيعتهم، ويمنحهم مراحم عظيمة وكثيرة بصلاحه ويعطيهم مما لديه، لأنه كإله يعطي بسخاء من خيراته حتى انهم يدعون إلهة ونور. وهل يوجد خير آخر او اسم آخر أفضل لم يعطنا ايه؟
ماذا يخبرنا الانجيلي بعد ذلك؟ “كان في العالم”. وأضاف الانجيلي ذلك لفائدتنا لكي يعطينا فكرة نحتاج اليها. لأنه عندما قال “كان هو النور الحقيقي الذي ينير كل انسان، آتياً إلى العالم”، ولم يكن هذا واضحاً للسامعين هل هذا النور هو الذي ينير كل انسان آت إلى العالم أم أنه النور الحقيقي ينتقل من مكان إلى مكان لكي ينير كل الناس. ولذلك فإن اللابس الروح يعلن الحق ويشرح قوة الكلمات التي نطقها ويقول على الفور “النور كان في العالم” لكي نفهم ان عبارة “آت إلى العالم” تعني عالم الإنسان لكي ينير الطبيعة المخلوقة العاقلة التي تدعى من العدم إلى الوجود. فالطبيعة المخلوقة ليست مثل مكان نتخيله في الفكر بل هي تأتي من العدم إلى الوجود وتأخذ حيزاً في الواقع. ولذلك عند الكلام عن الإنسان علينا ان نعتقد بثقة ان طبيعة الإنسان المخلوقة نالت الاستنارة بمجرد خلقها وأنها نالت النور من النور الذي في العالم. أي الابن الوحيد الذي يملأ كل الاشياء بنور اللاهوت غير المدرك: وهو حاضر في الملائكة الذين في السماء ومع الذين على الأرض دون ان يفقد الوهيته بل في كل مكان هو حاضر في الكل ولا يترك أحداً. وهذا ما يجعل المرنم يتعجب قائلاً: “إلى اين اذهب من روحك او إلى اين اختبئ من وجهك؟ إذا صعدت إلى السماوات انت هناك وإذا اخذت فراشي إلى الجحيم فانت هناك، إذا اخذت اجنحة الصباح لا طير إلى اقاصي البحار فهناك تقودني وتمسك في يدك اليمنى” (مز 139: 7-10). لأن يد الله تمسك بكل شيء. بجميع المخلوقات في الخليقة كلها، وتعطي حياة لمن يحتاج إلى الحياة، وتزرع النور الروحي في الكائنات القادرة على ان تتقبل الفهم. وهو ليس محصوراً في مكان ولا يتحرك من مكان إلى آخر، لأن الحركة من صفات الاجساد وانما هو يملأ كل الاشياء.
وربما سيقول البعض فماذا تقول يا سيدي الصالح عن اعتراض البعض على كلمات المسيح “جئت نوراً إلى العالم” (يو 12: 46). وايضاً ماذا عن كلمات المرنم: “ارسل نورك وحقك؟” (مز 43: 3) فهذا يعني انه يقول عن نفسه انه سيأتي إلى العالم، أي انه لم يكن في العالم والمرنم مجيء من هو ليس حاضراً، فهذا هو معنى الكلمات.
والرد على ذلك هو ان الانجيلي الإلهي يصف الابن الوحيد بكل الصفات الخاصة بالله لا سيما انه حاضر بدون انقطاع في العالم لأنه بالطبيعة الحياة وهو نور بجوهره ويملأ الخليقة كإله غير محصور في مكان، ولا يقاس بمقاييس ولا يدرك بالكم ولا يحيط به شيء. ولا يتحرك من مكان إلى آخر، ولكنه يمكن في الكل ولا يفارق أحداً، ومع كل هذا يقال انه أتى إلى العالم رغم حضوره الدائم فيه. وهذا المجيء إلى العالم هو التجسد لأنه أعلن نفسه للذين على الأرض وتحدث مع البشر (باروخ 3: 37) عندما تجسد، وجعل حضوره في العالم ظاهراً للكل. والذي كان في الماضي معروفاً لفكر الإنسان صار مرئياً بعيون الجسد ايضاً لا سيما عندما صار ظاهراً بالعجائب والقوات ويترجى المرنم مجيء النور والحق لكي ينير الكلمة العالم عندما يأتي متجسداً، فهذا هو معنى الكلمات. ولكني اعتقد ان الباحث الذكي عليه ان يفكر في هذا السؤال من هذه الزاوية الخاصة، لأن المدقق يعلو فكرة عن الكلام، والادراك عنده أسرع من اللسان ولذلك فان العقل المدقق يدرك خبايا الجمال الإلهي ويعرف ان الكلام عنه لابد ان يصدر بشكل يتلاءم مع الادراك الإنساني لا سيما القدرة على التعبير، مع الاعتراف بأن اللسان مهما وسعه النطق لا يقدر ان يعبر عن أبعاد الحق. ولهذا فإن بولس نفسه خادم اسرار المخلص اعتاد ان يسأل الله ان “يعطه كلاماً عند افتتاح فمه (أنظر اف 6: 19). وفقر اللغة لا يمكنه ان يؤذي سمو الطبيعة الإلهية للابن الوحيد بل ان يتكلم على قدر استطاعته بشرط ان نفهم هذا الكلام الإنساني بما يتفق مع الطبيعة الإلهية. فهكذا فعل المخلص والقديسون الذين استخدموا الكلام الإنساني بسبب ضرورة الكلام عن الله.
وهنا يبدو لي اننا لم نفقد العلاقة بما قيل سابقاً، وبما شرحناه من كلمات، ولكن القلم الذي يكتب عن التعاليم الإلهية عليه ان لا يتكاسل. فإذا عدنا إلى نفس النص لكي نفحص معنى “آتياً إلى العالم” وجدنا انه خاص بالإنسان دون غيره، لقد كان النور في العالم كما شهد الانجيلي نفسه، وقد أكدنا ان النور نفسه لم يأت إلى العالم بل الإنسان هو الذي دعي للاستنارة.
التعليم بوجود النفس قبل خلق الجسد:
اما البعض الذين يتفوهون بما في قلوبهم وليس بما يأتي من فم الرب (انظر ارميا 23: 16)، يدعون ان النفوس البشرية لها وجود سابق على خلق اجسادها، وأنها كانت في السماء حيث عاشت حياة الغبطة لفترة طويلة في حالة غير متجسدة، وهناك كانت تتمتع بالخيرات لأنها كانت نقية. ولكن عندما شبعوا من الخيرات التي زادت عن احتياجهم انحدروا إلى الأردأ وأغرقوا في افكار غريبة وشهوات لا تمت لهم بصلة فالخلق – بكل عدل – لم يرض عنهم فأرسلهم إلى العالم وسجنهم في اجساد ترابية، ووضع عليهم هذا الثقل وحبسهم كما في كهف مملوء باللذات الغريبة، مقرراً بذلك ان يعلمهم من المحنة نفسها مرارة الانحطاط إلى الادنى دون اعتبار للبقاء في الصلاح.
وكبرهان على هذه الخرافة الغبية التي اخترعوها يخطفون الكلمات التي أمامنا الآن “كان النور الذي ينير كل انسان، آتياً إلى العالم” مع نصوص أخرى من الأسفار الإلهية مثل “قبل ان اتواضع انا زللت” (مز 119: 67). وبدون ان يخجلوا من هذه الفكرة الغبية يقولون: ها هي النفس تقول انها قبل تواضعها أي تجسدها قد زلت، ولذلك عوقبت بعدل ووصلت إلى عبودية الموت والفساد الذي يشير اليه بولس وينسبه إلى الجسد بقوله: “ويحي انا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟” (رو 7: 24). ولكن إذا كانت النفس التي يقولون عنها انها قد سقطت قبل ان تذل، تأتي إلى العالم، أي لأن لها وجود سابق (لأنها كيف تخطئ بالمرة وهي بلا وجود) حسب قول الانجيلي “كل انسان آتياً إلى العالم” أي حضورها من مكان معين إلى هذه الدنيا. هذه هي الخرافات التي بتدعونها ضد تعاليم الكنيسة ويجمعون زبالة شرحهم للأسفار لكي تسد إذان المؤمنين عن سماع الحق. ولكن هؤلاء يجب ان يسمعوا: “ويل للأنبياء الحمقى الذين يتبعون روحهم ولم يروا شيئاً” (حز 12: 3). لأن رؤياهم هي خيالات الكبرياء ونبواتهم من شهوات قلوبهم، وهذا كله يجعلونه ضد الكلمات التي تكلم بها الروح دون ان يروا إلى أي حد من السخافة يقودهم خيإلهم وهو الحد الذي عبر عنه المرنم بقوله إلى الله “أنت أنت مخيف وكيف أقف أمام عينيك عندما تغضب” (مز 76: 7).
ولكنني افترض انه من الحماقة الادعاء بأن النفوس وجدت قبل ان توجد في الجسد، وأنها بسبب ذنوب قديمة ارسلت لكي تحبس في اجساد ترابية. وسوف ابرهن على قدر استطاعتي بعدة براهين من الاسفار الإلهية، لأنني اعرف ما هو مكتوب: “اعط تعليماً للرجل الحكيم فيزداد حكمة، وعلم الرجل البار فيزداد في المعرفة” (أم 9: 9).
براهين مرتبة وواضحة تدل على التعليم الصحيح:
1- لو كانت نفس الإنسان موجودة قبل ان توجد في الجسد وانها مالت إلى الشر حسب تعليم البعض وعوقبت على عصيانها بالنزول إلى الجسد، خبروني كيف يقول الانجيلي انها استنارت عند مجيئها إلى العالم؟ لأن الاستنارة هي كرامة واضافة عطية. والإنسان لا يعاقب بالكرامة ولا بأن ينال الصلاح الإلهي بل بنوال العقاب الذي يستحقه وغضب الديان. ولكن حيث ان الإنسان الذي يأتي إلى العالم، ليس موضع غضب بل بالعكس يستنير فمن الواضح انه كرم بالجسد ولم يأخذ الجسد كعقاب.
2- برهان آخر: لو كانت قبل وجودها في الجسد، هي عقل نقي يعيش في سعادة وعندما ابتعد عن الله سقط ولذلك حبس في الجسد، فكيف يستنير عند دخوله العالم؟ لأن من الواجب علينا ان نقول ان العقل كان معدماً من النور قبل مجيئه إلى الجسد، وإذا صح هذا، فكيف أمكن انارته وهو ساقط ومحبوس في الجسد. أما كان بالأولى انارته قبل ان يحبس في الجسد.
3- برهان آخر: لو كانت نفس الإنسان موجودة قبل ان توجد في الجسد، وان العقل كان نقياً في هذه الحالة، وملتصقاً بشكل طبيعي بالصلاح، وعندما سقط هبط إلى ما هو أسوأ ونزل إلى الجسد الترابي، وانه حينما وجد العقل في الجسد فانه لم يعد يرفض ارادة التعدي، فكيف لا يكون العقل مظلوماً في هذه الحالة؟ وهو حينئذ لم يكن – بشكل خاص – قد استؤمن على رفض التعدي. وذلك حينما كان له ميل أعظم للفضيلة، ولم يكن قد صار أسيراً بعد للشرور التي تنبع من الجسد، لكنه حينما جاء إلى مياه الخطية العكرة فانه اضطر ان يفعل هذا في وقت غير مناسب. لكن الله لا يفوته ان يختار الوقت المناسب، وهو لا يؤذي اذ ليس في طبيعته اذى. لذلك فإننا نرفض الخطية في الجسد وهذا صواب ويحدث في الوقت المناسب. وهذا الوقت المناسب هو لنا وقت الوجود، الذي فيه “نأتي” بأجسادنا إلى العالم، تاركين حالة عدم الوجود السابقة – كأنها مكاناً معيناً – ونعبر منها إلى بداية الوجود.
4- ما هو السبب في ان النفس التي أخطأت قبل ان توجد في الجسد، أرسلت إلى الجسد. هل أرسلت اليه لكي تتعلم وتختبر شناعة خطاياهم؟ أنهم لا يخجلون من ان يقولوا ذلك، ولكن من الواضح انه كان جديراً ان تحجب النفس عن شهوات الجسد لا ان تلقى في الجسد وفي أعماق اللذات الوضيعة، لأن الدواء للشفاء ليس الجسد بل البقاء بعيداً عن الجسد. ولكن مجيئها كان في الواقع اضافة أمراض جديدة نابعة من الجسد ولذاته، وهو ما لا يدعو للإعجاب بالطبيب الذي يصيب المريض بأمراض كثيرة بما قرره له كدواء. وإذا كان حبس النفس في الجسد معناه ان النفس سوف تكف عن شهواتها فكيف يكون ذلك ممكناً بعد ان نزلت إلى اعماق الشهوة فكيف تعود إلى ما كانت عليه من البدء وهي الآن قد انحدرت إلى عمق الخطية.
5- لو كانت النفس قد أخطأت قبل ان توجد في الجسد ولذلك حبست في جسد من لحم ودم كعقاب لها. فكيف لا يكون الواجب الأول للذين آمنوا بالمسيح ونالوا غفران الخطية ان يخلعوا الجسد ويدركوه لأنه عقاب لهم؟ خبروني كيف تنال النفس غفراناً كاملاً وهي تظل حاملة أداة عقابها؟ ولكن ما نراه هو ان الذين يؤمنون هم أبعد ما يكون عن الرغبة في التحرر من الجسد. بل انهم بواسطة اعترافهم بالمسيح يعلنون عن قيامة الجسد، هذا يسقط صفة أداة العقاب عن الجسد. لأنه يكرم بالاعتراف بالإيمان. ويشهد الجسد – بعودته للحياة – لقوة المخلص الإلهية لأنه قادر على ان يفعل كل شيء بسهولة.
6- لو كانت النفس في وجودها السابق على الجسد قد اخطأت ولذلك حبست في الجسد، فلماذا يأمر الناموس بمعاقبة الخطايا ولذلك حبست في الجسد، فلماذا يأمر الناموس بمعاقبة الخطايا الثقيلة بالموت، هل هذا اكرام؟ ولماذا يسمح لمن لا يخطئ بالحياة؟ انني افترض انه كان من الصواب ان الذين اخطأوا بالخطايا الثقيلة ان يعيشوا طويلاً ليكون عقابهم أكبر. أما الذين لم يرتكبوا اية جريمة فكان ينبغي ان يحرروا من الجسد. ولكن العكس هو الذي يحدث: فالقاتل يعاقب بالموت اما البار فلا يعاني شيئاً في جسده. لذلك فان حالة الوجود في الجسد ليست عقاباً.
7- لو كانت النفوس قد تجسدت بسبب خطايا سابقة، واخترع الجسد بطبيعة تؤهله ليكون عقاباً للذين اخطأوا. فكيف أفادنا المخلص بإبطال الموت؟ الا تكون هذه رحمة فاشلة، لأنه سحق ما كان عقوبة ووضع نهاية للغضب الذي كان ضدنا؟ ولذلك يمكن ان نقول انه كان من اللائق ان نقدم الشكر للفساد وليس لمن اقامنا من الموت وبذلك جعل العذاب بلا نهاية بالقيامة من الموت. ولكن مع هذا نحن نقدم الشكر لمن أطلق سراحنا من الموت والفساد في المسيح اذن فالوجود في الجسد ليس عقاباً لنفس الإنسان.
8- برهان آخر يعتمد على نفس الفكرة: لو كانت نفوس البشر حبست في أجساد ارضية لكي تفي أجر خطايا قديمة، فما هو الشكر الذي نقدمه لله الذي وعدنا بالقيامة؟ لأن القيامة تصبح تجديداً للعقوبة وبناء لما يضرنا، لأن العقوبة الدائمة هي مرارة لكل نفس. هذا يجعل من المستحيل ان تقام الاجساد لكي تؤدي وظيفة عقوبة للنفس البائسة.
ولكن الاجساد تأخذ طبيعة القيامة من المسيح كعطية للتجديد والفرح بالقيامة. فالوجود في الجسد اذن ليس عقوبة.
9- الكلمة النبوية تبدو كما لو كانت تبشرنا بعيد عظيم طال انتظاره وهي تقول “ان الأموات سيقومون والذين في القبور سيحيون” (اش 26: 9 سبعينية)، ولكن لو كان الوجود في الجسد هو عقاب لنفوس البشر البائسة التي أخطأت، فكيف لا يحزن النبي وهو يبشر بهذه الأمور من الله؟ كيف تكون هذه البشارة مفرحة وهي تخبرنا بأن الحمل الثقيل الذي نروم ان نتخلص منه سيطول زمنه؟ كان من الأجدر بالنبي ان يقول لمن اخذوا الجسد كعقوبة، ان الموتى لن يقوموا وان طبيعة الجسد سوف تزول. ولكن بالعكس فهو يفرحهم ويخبرهم انه ستكون قيامة للأجساد بارادة الله. فكيف يكون الجسد الذي نفرح بقيامته، والذي يسر الله به، عقوبة؟
10- عندما بارك الله ابراهيم المبارك، وعدة بأن يكون نسله لا يحصى من الكثرة مثل النجوم، فلو كان صحيحاً ان النفوس اخطأت قبل ان توجد في الجسد ولذلك هبطت إلى الأرض وحبست في الجسد لكي تعاقب، فان الله في هذه الحالة يكون قد وعد ابراهيم بكثرة من المعاقبين سقطوا من الصلاح وليس بنسل يشترك في البركة، ولكن الله وعد ابراهيم بكثرة النسل وكانت هذه بركة. اذن بداية الاجساد هي حرة من كل اتهام.
11- لقد انتشر الاسرائيليون وتكاثروا وصار عددهم لا يحصى وحقاً يتعجب موسى رئيس الانبياء وهو يلاحظ كثرتهم ويصلي ويقول لهم: “ها أنتم اليوم مثل نجوم السماء في الكثرة. والرب إله آبائكم، سوف يزيد عليكم مثلكم ألف مرة” (تث 1: 10-11). ولكن لو كانت عقوبة لنفوس البشر ان توجد في العالم في اجساد. وهم يحتاجون إلى الجسد طالما انهم في العالم ولا يمكنهم ان يعيشوا بدون اجساد، فان صلاة موسى ستصبح في هذه الحالة حقاً لعنة وليست بركة. وهذا طبعاً لم يحدث، لأنها فعلاً كانت بركة، اذن الوجود في الجسد ليس من طبيعة العقاب للنفس.
12- ان الذين يسألون الشر من الله لا يستجيب الله لهم. والشاهد على صحة ما نقول هو تلميذ المخلص الذي يقول “تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون ردياً” (يع 4: 3). فلو كان الوجود في الجسد عقاب فكيف لا يقول أي انسان ان حنة زوجة القانا طلبت ردياً وما لا يليق، وهي التي كانت تسكب صلاتها لله وتطلب منه ولداً (1صم 1: 11)، ألم تكن تطلب سقوط نفس لكي تحبس في جسد، وكيف استجاب الله لطلب شرير مثل هذا واعطاها صموئيل ابناً لها، طالما انه كان من اللازم ان تخطئ نفس لكي تحبس في جسد ويولد صموئيل، وهذا يعني استجابة صلوات حنة. ولكن الله اعطى، وهو بطبيعته لا يعطي الا ما هو صالح. واستجابة صلاة حنة تؤكد ان الجسد ليس عقاباً، لأن الله لا يعطي الا ما هو صالح. لذلك فالوجود في الجسد ليس نتيجة خطية ولا بطبيعة عقاب كما يقول البعض.
13- لو كان الجسد قد اعطي عقاباً للنفس البشرية، فما الذي دفع الملك حزقيا، ملك اورشليم وهو رجل صالح وحكيم لأن ينوح بدموع مرة على موت جسده، ولماذا يتردد في التخلص من أداة العقاب، لا بل يتوسل بأن يكرمه الله بزيادة عمره، مع انه كان يجب عليه ان لا يكره الموت ما دام رجلاً صالحاً، لأنه كان سوف يتخفف من حمل الجسد الثقيل. وكان بالحري سيفرح بموته. ولكن بماذا وعده الله كهبة خاصة به: “ها انا اضيف إلى ايامك خمس عشرة سنة” (اش 38: 5). فهل كان ذلك الوعد عقوبة اضافية ام نوعاً من الرأفة ولكن الوعد من فوق كان عطية واضافة العمر كان رأفة. ولد فالوجود في الجسد ليس عقوبة للنفس.
14- لو كان الجسد قد اعطى لنفس الإنسان كعقوبة، فما هو المعروف الذي صنعه الله مع الخصي الذي انقذ ارميا من الجب. لأنه قال، سوف افتدي حياتك واخلصك من يد الكلدانيين (أر 39: 17-18). وكان الأولى به ان يقول له سوف اتركك تموت، وهذا كرم من الله لأنه سوف يخلصه من السجن والعقوبة وماذا اعطى الله للفتية الثلاثة من بني اسرائيل عندما خلصهم من النار ومن قساوة البابليين؟ ولماذا أنقذ دانيال من جب الأسود؟ ألا يفعل الله كل هذا برأفة لكي يتمجد اسمه بين البشر.
ولذلك فإن سكنى الجسد ليس نوعاً من العقاب. لئلا يكون لا فرق بين الكرامة والعقاب عند الله.
15- يخبرنا بولس بأنه سيكون يوم للفحص أمام كرسي الدينونة الإلهي لحياة كل انسان “لأنه لابد اننا جميعاً سوف نظهر أمام كرسي لينال كل وأحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً” (2كو 5: 10). ولكن ان كان فقط لأجل الاشياء التي صنعت بالجسد ينال الإنسان أما عقاباً على يد الديان او يحسب أهلاً لمكافأة مناسبة، فانه لا توجد اشارة إلى خطايا سابقة قبل الوجود في الجسد، ولا سؤال عما حدث قبل مولده. فكيف يكون للنفس وجود سابق على وجودها في الجسد؟ وكيف اذلت بسبب الخطية كما يقول البعض. لأن الدينونة تكون على ما فعله الإنسان في حياته على الأرض.
16- لو كانت النفوس قد لبست اجساداً بسبب خطايا سابقة، فكيف يكتب بولس قائلاً لنا: قدموا اجسادكم ذبيحة حية مقدسة، مقبولة عند الله” (رو 12: 1). وكيف يكون هذا مقبولاً عند الله وهو أداة العقاب؟ وكيف يكون من الممكن ان يقتني انسان فضيلة وهو مقيم في أداة العقاب واصل الخطية؟
17- يقول بولس موضحاً ان الفساد قد انتشر وامتد إلى كل جنس آدم بسبب عصيان آدم “وملك الموت من آدم إلى موسى، حتى على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم” (رو 5: 14). فكيف يقول ان الموت ملك حتى على الذين لم يخطئوا إذا كان الجسد الميت قد اعطى لنا بسبب خطايا سابقة؟ واين هؤلاء الذين لم يخطئوا ان كان الوجود في الجسد هو عقاب على خطايا سابقة وكأن وجودنا في الجسد في هذه الحياة هو اتهام مسبق قائم ضدنا؟ ان قول المخالفين ينم على عدم دراية بالاسفار المقدسة.
18- سأل التلاميذ مرة المخلص عن المولود أعمى وقالوا “يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟” (يو 9: 2)، لأنه مكتوب في الأسفار النبوية ان الله يفتقد ذنوب الآباء في الابناء (خر 20: 5). وهو ما دعا التلاميذ إلى ان يتصوروا ان هذا الكلام ينطبق على المولود أعمى. فماذا كانت اجابة المسيح؟ “لا هذا أخطأ ولا أبواه، بل لكي تظهر اعمال الله فيه” (يو 9: 3). فكيف أعفى المولود أعمى وأبواه من الخطية، وهم في الواقع لا يمكن اعفاؤهم من اللوم الذي ينسب لكل حياة بشرية، لأنهم كبشر كانت لهم اخطاؤهم. ولكن من الواضح والظاهر ان كلمات المخلص تعني الفترة التي قبل الميلاد، أي انه لم يكن موجوداً ولذلك لم يخطئ، وهذا وحده ما يجعل المسيح على حق.
19- يشرح اشعياء المبارك سبب خلق الأرض ويقول “لم يخلقها باطلاً. للسكن صورها” (اش 45: 18). ولما كان من الصالح ان تكون الأرض للسكن ودون ان تمتلئ بأرواح بلا اجساد وانما بنفوس لها اجساد. فهل كانت المشورة الإلهية ان تخطئ النفوس لكي تخلق الاجساد اللحمية التي لا تصلح الا للأرض؟ الا يؤدي كلام المخالفين إلىانها خلقت عبثاً كسجن للنفوس؟ ولكن هذا غير معقول .. والفكرة الصائبة هي التعليم الصحيح.
20- الحكمة صانع كل الاشياء يقول عن نفسه في سفر الامثال “كنت انه فرحة”، أي خالق كل الاشياء، “وكل يوم كنت افرح أمامه عندما فرح بكمال خلقة العالم ووجد لذته في بني البشر” (أم 8: 30-21 سبعينية) وحينما يفرح الله بانتهاء خلقة العالم ويفرح بشكل خاص بخلق الإنسان؟ فكيف لا يكون بلا أي ادراك من يحاول ان يخضع النفوس لخطايا سابقة جعلتها تسجن في الجسد؟ ألا يكون خالقاً لجسن وليس للعالم؟ ألا يكون سرور مضاد للعقل في انه يفرح بمجيء الذين أخطأوا لكي يعذبوا في الجسد؟ وكيف يكون صالحاً في هذه الحالة. ولكن بكل يقين هو صالح وخالق الصالحات، ولذلك فإن الوجود في الجسد ليس بطبيعته عقاب.
21- لو كانت نفس الإنسان قد ربطت بالجسد لكي تدفع ثمن خطاياها السابقة على ميلادها في العالم، والجسد هو بمثابة عقاب، فلماذا جاء الطوفان على عالم الفجار (2بط 2: 5). ونوح البار هو الذي خلص ونار مكافأته على ايمانه بالله؟ ألم يكن الأفضل ان الذين في الشر يبقون في الأرض ليعيشوا فترة أطول في الجسد لكي يعاقبوا أكثر وبشدة، اما الاتقياء الصالحون، فيحلون من رباطات الجسد مكافأة لهم على مخافتهم لله؟ ولكن خالق الكل، هو بار ويعطي كل وأحد حسب عمله. ولأنه بار يعاقب الخطاة بموت الجسد، ويفرح قلوب الصديقين بالحياة في الجسد. لذلك فالأجساد ليست عقوبة لنفوس البشر، لئلا يصبح الله غير عادل، عندما يعاقب غير الصالحين بما هو خير ويكرم الأبرار بما هو عقاب.
22- إذا كانت النفس قد نزلت إلى الجسد عقاباً لها على خطايا سابقة اقترفتها، فكيف أحب المخلص لعازر (يو 11: 36) واقامه من الموت وبذلك أرغمه على العودة إلى العقاب الذي تحرر منه بالموت؟ ولكن المسيح أقامه لكي يساعده كصديق، وأكرمه بأن اقامه ورده إلى الحياة. هكذا لا يوجد هدف صالح في تعليم المخالفين.
23- إذا كان – بحسب غباء اولئك – ان الجسد للنفس كعقاب، وبسبب خطايا سابقة لخلق الجسد، فتكون الخطية هي التي اعطت طبيعة الاجساد. ولكن من الواضح ان الموت دخل بواسطة الخطية (رو 5: 12). وهذا يجعل الخطية تتسلح ضد نفسها وتحارب نفسها لأنها تهدم ما جاءت به في البدء أي الجسد بما جاءت به بعد ذلك أي الموت. وبهذا يصبح الشيطان منقسماً على نفسه “فكيف تدوم مملكته” (لو 11: 18). كما قال المخلص. وبكل يقين ان هذا الفكر ساذج وغير معقول. والتعليم الصحيح هو الحق.
24- لقد خلق الله كل شيء في عدم فساد وهو لم يخلق الموت بل “دخل الموت بجسد ابليس” (حكمة 1: 13، 2: 24). ولو صح ان الجسد اعطي لكي يكون عقاباً للنفس فلماذا، خبروني يا سادتي، نتهم الشيطان بالحسد، لأنه حسب تعليم المخالفين يكون الشيطان خير عون لأنه ينهي شقاوة وعذاب الجسد بالموت؟ ولماذا اذن نقدم الشكر للمخلص لأنه بالقيامة ربطنا بالجسد؟ لأن حسد الشيطان هو الذين تسبب في فساد اجسادنا. اذن لم يكن عقاباً بالمرة ان يكون لنا جسد، كما انه ليس اجرة خطايا سابقة.
يو 1: 10 “وكون العالم به”:
لا تحتاج إلى ان نقول ان الانجيلي قد أعلن بهذه الكلمات ان العالم خلق بواسطة النور الحقيقي أي الابن الوحيد. ومع انه دعاه بكل وضوح الكلمة في البدء وأكد ان كل شيء به كان وانه بغيره لم يكن شيء مما كان وشرح كيف انه هو الخالق والصانع الا انه وجد ان من الضروري بشكل خاص ان يعود إلى نفس النقطة من جديد لكي لا يبقي مجال للخطأ او الانحراف للذين يريدون افساد العقائد الإلهية النقية. وعندما قال الانجيلي عن النور انه كان في العالم فهو بهذا لا يعطي فرصة لمن يريد محاربة الحق باعتقادات لا معنى لها مدعياً بأن النور له طبيعة مثل طبيعة المخلوقات (أي الشمس والقمر والكواكب وهي اجزاء من جسم الكون)، لذلك فان الانجيلي يؤكد الاعتقاد السليم بأن الابن الوحيد هو خالق وصانع العالم كله لكي يثبتنا ويقودنا إلى إدراك الحق ادراكاً صحيحاً بدون أي خطأ. ومن هو الغبي او من هو الذي سكنت الحماقة في فكره فلا يعتقد بان الابن هو غير العالم المخلوق والمرئي، او يضع المخلوق مكان الخالق. فالأشياء المخلوقة يجب ان تكون مختلفة تماماً عن الخالق. فالصانع والمصنوع ليسا وأحداً.
وإذا اعتقدت انهما وأحد ولا يوجد اختلاف في الكيان فإن المخلوق سوف يرتفع إلى طبيعة الخالق، والصانع سوف ينزل إلى مستوى المخلوقات ولا يبقى لدينا القوة الواحدة التي أتت بالكل من العدم إلى الوجود بل سوف تصبح هذه القوة الخالقة كامنة كإمكانية في المخلوقات إذا لم يكن بين المخلوقات والخالق فواصل، او بالادعاء بأن جوهر المخلوقات هو جوهر الخالق ذاته كل هذا يؤدي بنا في النهاية إلى اعتبار ان المخلوق هو خالق ذاته، وبذلك يمنح الانجيلي الابن الوحيد لقباً شرفياً بقوله “كان في العالم وكون العالم به” (يوحنا 1: 10). ولكنه يعرف ان خالق كل الاشياء هو وأحد بطبيعته. وان المصنوع ليس مثل الصانع لأن الله والخليقة عند أصحاب الاعتقاد الصحيح مختلفان تماماً، فالخليقة خاضعة مثل خضوع العبد عارفة بحدود طبيعتها، اما الابن فهو يسود عليها وهو وحده مع الآب له القدرة على ان “يدعو الاشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رو 4: 17). وايضاً بقوته غير المدركة يستطيع ان يعطي الوجود من العدم لما هو غير موجود.
ولقد كتبنا الكثير عن ان الابن بالطبيعة هو الله وانه مختلف عن الخليقة عندما شرحنا الثالوث القدوس ولذلك لن نزيد هنا ويكفي من اجل الفائدة ان نضيف ان قول الانجيلي “وكون به العالم” يقودنا إلى التفكير في الآن لأن عبارة “به” تقود ايضاً إلى “منه”. لأن كل الاشياء هي من الآب بالابن في الروح القدس.
“والعالم لم يعرفه”:
يراقب الانجيلي سفسطات البعض ولأنه لبس الروح فطريقة تقديمه للحق عجيبة. لقد دعا الابن “النور الحقيقي” وأكد انه “ينير كل انسان آت إلى العالم” وأضاف “كان في العالم وكون العالم به” وبذلك فلم يترك مجالاً لأي خطأ.
ولكن وأحداً من المقاومين ربما يقول “يا سادة لو كان الكلمة هو النور الحقيقي الذي يضيء قلب كل انسان بالمعرفة الإلهية وبالمعرفة النافعة للإنسان ايضاً وكان هذا النور دائماً في العالم وكان هو نفسه صانعه. فكيف صار غير معروف على مدى اجيال طويلة؟ اذن فهو لم يكن ينير ولا كان هو النور بالمرة”.
واللاهوتي يوحنا يقابل هذه الفكرة بالذات بما يصححها بقوله “والعالم لم يعرفه” ليس لأنه غير معروف وانما لأن العالم ضعيف. فالابن ينير والخليقة تبعثر النعمة. لقد اعطى الكلمة للخليقة النظر لكي تدركه كإله بالطبيعة ولكن الخليقة بددت العطية وجعلت الكائنات حاجز يمنعها عن تأمر الله ولم تتأمل الا ذاتها، ودفنت عطية الاستنارة تحت الاهمال، “فأهملت الموهبة” التي حذر بولس تلميذه من ان يهملها بل ان يكون صاحياً” (1 تيموثاوس 4: 14، 2 تيموثاوس 4: 5). فليس النور هو المسئول عن مرض غير المستنيرين لأنه كما يشرق نور الشمس على الكل ولا يستفيد منه الأعمى دون ان نلوم الشمس وانما نلوم المرض الذي أصاب العينين هكذا أنار الكلمة ولكن الخليقة المريضة لم تتقبل النور. هكذا النور الحقيقي الابن الوحيد الذي ينير الكل. لكن “إله هذا الدهر” كما يقول بولس “اعمى اذهان غير المؤمنين لئلا يضيء لهم نور معرفة الله ويشرق عليهم” (2كورنثوس 4: 4). وعندما نقول ان الإنسان اصيب بالعمى الا انه لم يصل إلى العمى الكامل او الحرمان الكامل من النور (لأن الفهم الذي وهبه الله للإنسان لم يطفئ من طبيعته) ولكن الإنسان يطفئ النور وبالحياة الفاسدة التي عاشها وذلك عندما تحول إلى الجانب المضاد لله فأضاع النعمة وفقدها. ولذلك عندما يقدم لنا المرنم الحكيم مثال الذين فقدوا النعمة فانه يترجى الاستنارة من الله “افتح عيني لكي ارى عجائب من شريعتك” (مزمور 119: 18). لأنه اعطاهم الناموس معيناً (أنظر اشعياء 8: 20 السبعينية) وهذا أشعل النور الإلهي فينا من جديد، ونظف عيني القلب من الظلمة التي جاءت من الجهل القديم الذي ولد بسبب الابتعاد عن الله.
العالم في الحقيقة محكوم عليه بتهمة عدم الشكر وعدم إدراك خالقه، وايضاً لأنه لا يقدم الثمار الصالحة النابعة من الاستنارة وهذه الحقيقة يعبر عنها النبي عندما رتل هذه الفقرة عن بني اسرائيل: “ونظرت لكي يثمر عنباً ولكنه أثمر عنباً ردياً وشوكاً” (اشعياء 5: 4 السبعينية). وثمار الاستنارة هي بكل حق الايمان الصحيح بالابن الوحيد. وهو يشبه عنقود العنب في الكرمة اي فهم الإنسان. وليس العكس اي رفض الايمان بالابن الوحيد. أما قبول المشورة الفاسدة للهراطقة التي تؤدي إلى كفر تعدد الإلهة فهو يصبح مثل الاشواك الحادة تنمو في داخلنا وتجرح عقولنا حتى الموت بخداع تعدد الإلهة.
يو 1: 11 – “جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله”:
يتابع الانجيلي كلامه مؤكداً رجاء كرازته بأن العالم لم يعرف الذي ينيره اي الابن الوحيد وان أسوأ الخطايا كانت خطية بني اسرائيل ولكن الانجيلي يسرع لتأكيد جهل الأمم ايضاً وهو المرض الذي أدى إلى عدم الايمان والذي انتشر في العالم كله ولكنه في الاتجاه الآخر يسرع للكلام عن التجسد، ومن الكلام عن اللاهوت الخالص ينزل تدريجياً لشرح التدبير الخاص بالتجسد والذي اتمه الابن لأجلنا.
لم يكن غريباً ان العالم لم يعرف الابن الوحيد لأنه ترك المعرفة الإنسانية وصار جاهلاً بحقيقة خلقه حتى انه أكرم “الحيوانات التي تفنى كإلهة” كما يقول المرنم (49: 20)، وحتى الذين ينتمون اليه اي شعب العهد القديم رفضوه عندما رأوه في الجسد، ولم يقبلوه عندما جاء لخلاص الكل واعطى الملكوت مكافأة للإيمان. ولكن علينا ان نلاحظ دقة الانجيلي في التعبير عن هذه الحقائق، فهو يتهم العالم بأنه لم يعرف مطلقاً الذي ينيره وفي نفس الوقت يقدم المغفرة عن هذا الخطأ بالذات ويمهد للأسباب التي تؤدي إلى النعمة التي ستعطي. أما عن بني اسرائيل الذين كانت لهم علاقة خاصة به (الابن) فهو يقول بشكل قاطع “لم يقبلوه” وحقاً لا يكون هذا الكلام صحيحاً إذا لم يكن الناموس القديم قد كرز به والانبياء الذين جاءوا بعد الناموس قادهم لإدراك الحق ولذلك فقرار القطع (رومية 11: 22)، اي القطع من الزيتونة كان قراراً عادلاً مثل القرار الخاص بالخيرات التي اعطيت للأمم لأن عالم الأمم فقد مكانه في بيت الله لسقوطهم في شرور الوثنية مما جعلهم يفقدون معرفتهم بالذي ينيرهم اما الذين كانت لهم معرفة غنية به بسبب الناموس ودعاهم الناموس إلى حياة ترضي الله لكي يكونوا في بيته بكل حرية سقطوا ولم يقبلوا الكلمة الذي كان معروفاً لهم والذي جاء اليهم كخاصته. ان العالم كله خاص بالله لأنه خليقة الله ولأن الله جاء به من العدم إلى الوجود بواسطة الكلمة، الا ان اسرائيل دعي بشكل خاص خاصته فلهم المجد بسبب اختيار الآباء القديسين بل دعي منذ البدء “بكر” ابناء الله. فالله يقول لموسى: اسرائيل ابني البكر (خروج 4: 22) الذي خصصه واختاره لنفسه وأعلنه كشعبه قائلاً لفرعون ملك مصر اترك شعبي ليخرج (خروج 8: 1). وبراهين كثيرة من اسفار موسى، تؤكد ان اسرائيل خاص بالله، لا سيما ما هو مكتوب “عندما قسم العلي الأمم، وافرز ابناء آدم، جعل الشعوب تحت قيادة ملائكة الله، اما يعقوب شعبه، فصار نصيب الرب، اسرائيل ميراثه” (تثنية 32: 8-9س).
ولذلك سار الرب في وسطهم كمن يسير في ميراثه قائلاً “انني لم أرسل الا لخراف بيت اسرائيل الضالة” (متى 15: 24).
وعندما لم يقبلوه، نقل النعمة للأمم، والعالم الذي لم يعرفه منذ البدء عندما أناره، يقدم له الاستنارة من جديد بالتوبة والايمان، اما اسرائيل فيعود إلى الظلام الذي تركه عندما قبل المعرفة من الناموس. لذلك يقول المخلص “لدينونة أتيت إلى هذا العالم، لكي يبصر الذين لا يبصرون ويعمي الذين يبصرون” (يو 9: 39).
يو 1: 12 – “أما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطاناً ان يصيروا اولاد الله، اي المؤمنون باسمه”:
هذه هي دينونة الله العادلة، اسرائيل البكر، طرح خارجاً، لأنه لم يمكث في بيت الله، إلى خاصته، ولم يقبل الابن الذي جاء وسط خاصته بل رفض مانح الكرامة، وواهب النعمة. أما الامم فقد قبوله بالإيمان.
ولذلك سوف يأخذ اسرائيل أجرة غباوته، وسينوح على فقدان الخيرات الإلهية، ويتذوق مرارة المشورة الفاسدة، والحرمان من البنوة. أما الأمم فسيفرحون بالخيرات الإلهية، التي جاءت من إليهم بالإيمان، وسيجدون المكافأة العظيمة لطاعة الايمان، ولسوف يطعمون في الزيتونة الجيدة بدلاً من اسرائيل (رومية 11: 24). لأنهم كما يقول الرسول “سوف يقطعون من الزيتونة البرية حسب الطبيعة، ويطعمون بخلاف الطبيعة في زيتونة جيدة، (رو 11: 24)، وسوف يسمعون هذا الحكم من اشعياء “ويل للأمة الخاطئة، الشعب المثقل بالإثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين تركوا الرب، أغاظوا قدوس اسرائيل” (اش 1: 4). ولكن وأحداً من تلاميذ المسيح يقول عن الأمم “أما أنتم فجنس مختار، كهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بطرس 2: 9). اذ حيث انهم قبلوا الابن نالوا السلطان ان يعدوا من اولاد الله. فالابن وحده هو الذي يعطي ما يخص طبيعته، ليكون في سلطانهم جاعلاً ما يخصه مشتركاً وعاماً بينهم، ليكون هذا صورة طبيعة محبته للإنسان، وللعالم. وليس هناك وسيلة اخرى غير هذه تجعلنا نحن الذين لبسنا “صورة الترابي” نهرب من الفساد، الا إذا ختمنا بجمال صورة السمائي” (1 كورنثوس 15: 49) بدعوتنا إلى البنوة. لأننا عندما نشترك فيه بالروح القدس، تختم لنكون مثله ونصعد إلى الصورة الأولى التي اخبرتنا الكتب المقدسة بأننا خلقنا عليها. (تكوين 1: 27). وبذلك نكون قد استعدنا جمال طبيعتنا الأولى وخلقنا من جديد لنكون على مثال الطبيعة الإلهية، ونصير مرتفعين فوق الأمراض التي اصابتنا بسبب السقوط. اذن نحن نرتفع إلى كرامة أسمى من طبيعتنا بسبب المسيح لأننا سنكون ايضاً “ابناء الله” ليس مثله تماماً، بل بالنعمة وبالتشبه به. فهو الابن الحقيقي، الكائن مع الآب منذ الأزل، اما نحن فبالتبني بسبب تعطفه، ومن خلال النعمة التي اخذناها “أنا قلت انكم إلهة، وكلكم ابناء العلي” (مز 82: 6) فالطبيعة المخلوقة الخاضعة للخالق، دعيت إلى ما هو فوق الطبيعة بأراده الآب فقط، اما الابن، والابه والرب، فهو ليس الابن والإله بإرادة الآب واختياره، وانما بالولادة من جوهر الآب ذاته يصبح بالطبيعة له كل صفات الله وصلاحه. وايضاً يمكننا ان نرى بكل وضوح انه الابن الحقيقي بالمقارنة مع أنفسنا فهو بالطبيعة له كيان خاص، غير كياننا الذي بالتبني وبالتشبه. اذن هو الابن بالحق وبالطبيعة، ونحن صرنا به ابناء ايضاً، وننال الخيرات بالنعمة دون ان تكون هذه الخيرات هي من طبيعتنا.
يو 1: 13 – “الذين ولدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله”:
يقول الانجيلي ان الذين دعوا للايمان بالمسيح للتبني، يخلعون صغر طبيعهم، واذ يتزنون بنعمة ذاك الذي أكرمهم بلباس فائق فانهم يرتفعون إلى كرامة تفوق الطبيعة، فهم لم يعودوا بعد ابناء اللحم، بل بالحري اولاد الله بالتبني.
لكن علينا ان نلاحظ كيف يستعمل الانجيلي احتراساً كبيراً في كلماته، وكيف يعبر عن الحق بدقة، لأنه أراد ان يقول ان الذين يؤمنون قد ولدوا من الله، حتى لا يظن أحد انهم بالحق ولدوا من جوهر الله الآب، ويصبحون مثل الابن الوحيد تماماً او يصيرون مثل من قيل عنه حسب ضعف اللغة البشرية. “من البطن ولدتك” (مزمور 110: 3 سبعينية)، وبذلك ينزل الابن إلى مستوى طبيعة المخلوقات رغم انه قيل انه مولود من الله، وبسبب كل هذا اضاف الانجيلي هذه الكلمات. لقد قال انهم اخذوا السلطان من الابن لكي يكونوا “اولاد الله” فنالوا ما لم يكن لهم من قبل، بواسطة نعمة التبني، وبدون أي خوف يضيف “ولدوا من الله”، لكي يوضح عظم النعمة التي اعطيت لهم والتي جمعت كما لو كان في طبيعة متجانسة ذلك الذي كان غريباً عن الله الآب وترفع العبد إلى كرامة سيده بواسطة محبة السيد للعبد.
وماذا أكثر من ذلك؟ ما الذي نإله الذين يؤمنون بالمسيح أكثر مما نإله اسرائيل الذي دعي ايضاً “ابناً لله” كما في اشعياء “ولدت بنيناً ورفعتهم، أما هم فرفضوني” (اش 1: 2 السبعينية) اول ما يجب ان نقوله، انهم اخذوا الناموس، ولكن “الناموس له ظل الخيرات العتيدة”، “لا نفس صورة الاشياء” (عب 10: 1) ولذلك لم ينالوا البنة بالحق، بل أخذوها بشكل رمزي، إلى ان جاء “وقت الاصلاح” (عبرانيين 9: 10) الذي فيه يظهر اولئك الذين يدعون الله حقاً أباً، لأن روح الابن الوحيد يسكن فيهم. وهؤلاء في العهد القديم نالوا “روح العبودية للخوف” أما نحن فنلنا “روح التبني” للحرية “الذي به نصرخ ابا ايها الآب” (رومية 8: 15) ولذلك فالشعب الذي دعي للتبني، بالإيمان بالمسيح، قد سبق فصار اسرائيل رمزاً له في ظلال الناموس، تماماً مثلما نعتقد ان الختان بالروح، سبق ورمز له ختانهم في القديم في اللحم، وباختصار كل ما هو لنا كان عندهم بشكل رمزي. بالإضافة إلى ما ذكرناه يمكن ان نقول ان اسرائيل دعي إلى التبني رمزياً بواسطة وساطة موسى، لأنهم اعتمدوا له في السحابة وفي البحر” (1كورنثوس 10: 2) لأنهم بواسطة موسى اعيد توجيههم من الوثنية إلى ناموس العبودية، لأن الوصايا التي اعتمدت على الحرف، اعطيت بواسطة ملائكة (غلا 3: 29) اما الذين بالإيمان بالمسيح يصلون إلى البنوة التي من الله، فانهم يعتمدون ليس لما هو مخلوق، وانما يعتمدون للثالوث القدوس نفسه، وبواسطة الكلمة كوسيط، الذي اتحد بما هو انساني أي بالجسد، وفي نفس الوقت هو متحد مع الآب، لأنه إله، وهذا يجعلنا نرتفع من رتبة العبودية إلى البنوة، وبالاشتراك الحقيقي في الابن، دعينا إلى ان نرتفع إلى كرامة الابن. لذلك فنحن الذين اخذنا الولادة الجديدة بالروح القدس بالإيمان قد دعينا بل ولدنا من الله.
لكن حيث ان البعض لهم جسارة كاذبة، ويتهورون بالكلام ضد الابن وضد الروح القدس ايضاً، مدعين انه مخلوق، وانه ليس من جوهر الله الآب ذاته. دعونا نحشد كلمة الحق ضد ما يصدر من السنتهم إلهوجاء، وتصبح هذه مناسبة هامة لفائدتنا نحن والقارئين ايضاً.
لأنه ان كان روحه الخاص ليس بالطبيعة هو الله، وليس من الله، وبذلك يكون غير موجود فيه جوهرياً، بل هو مختلف عنه، وهو غير بعيد عن مشاركة المخلوقات في الطبيعة، فكيف يقال عنا نحن الذين نولد بواسطته، اننا مولودون من الله.
واما ان يكون الانجيلي كاذباً (وهو ليس كذلك)، واما ان يكون صادقاً وبذلك يصبح الروح القدس هو الله، ومن الله بالطبيعة ونصبح نحن مستحقين بالإيمان بالمسيح للاشتراك في الطبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 4) ومولودين من الله، ومدعوين إلهة، وليس بالنعمة وحدها نطير إلى المجد الذي فوق طبيعتنا. بل الآن لنا سكنى الله واقامته فينا، حسبما قيل بالنبي: “سأسكن فيهم واسير معهم” (لاويين 26: 12 – 2كورنثوس 6: 16) وعلى المقاومين لنا الذين امتلأوا من عدم المعرفة ان يخبرونا كيف يسكن الروح القدس فينا وهو ما جعل الرسول بولس يدعونا هيكل الله ان لم يكن هو الله بالطبيعة. وإذا كان الروح القدس مخلوقاً، فكيف قيل ان الله يهلك من ينجس هيكل الله (1كورنثوس 3: 17)، أي عندما يتدنس الجسد الذي يسكن فيه الروح القدس، والذي بسبب سكناه ننال كل ما يخص الله الآب بالطبيعة وما يخص بالمثل ابنه الوحيد.
وكيف يصبح المخلص صادقاً في قوله “ان احبني أحد، يحفظ كلامي وابي يحبه واليه نأتي وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23) ونستريح فيه. أليس الروح القدس هو الذي يسكن فينا. ونحن نؤمن انه به يكون لنا الآب والابن، كما قال يوحنا ايضاً في رسائله. بذلك نعرف اننا نسكن فيه وهو فينا، لأنه اعطانا من روحه (1يوحنا 4: 13). وكيف يدعى الروح القدس روح الله، إذا لم يكن منه وفيه بالطبيعة؟ ولذلك فهو الله. ولو كان كما يدعون مخلوقاً وهو روح الله، ليس ما يمنع الخلائق الأخرىن ان تدعى ارواح الله، فهذا يصبح ممكناً بالنسبة لهم نظراً للمساواة التي بينهم وبين الروح القدس.
وكان يجب ان نناقش هذه النقاط بالذات بشكل مسهب لكي نوضح كيف تنقلب براهين الهراطقة ضدهم. لكن لأنني عالجت كل ما يخص الروح القدس في كتاب “الثالوث” فقد اكتفيت هنا بما ذكرت.
يو 1: 14 – “والكلمة صار جسداً”:
الآن يعلن الانجيلي التجسد بشكل علني، فهو يؤكد ان الابن الوحيد جاء، ودعي ابن الإنسان. ولهذا السبب بالذات وليس لأجل أي شيء أخبر يقول “الكلمة صار انساناً” وتعبير الانجيلي “صار جسداً” ليس غريباً ولا بعيداً عن استعمال الاسفار الإلهية، لأنها غالباً ما تسمى الإنسان كله “جسد” كما جاء في النبي يوئيل “سأسكب من روحي على كل جسد” (يوئيل 2: 28) ونحن لا نعترض ان النبي يعني ان الروح القدس قد اعطى للجسد دون النفس، او للجسد وحده، فهذا غير معقول بالمرة. ولكن لأننا ندرك الكل عن طريق الجزء يسمى الإنسان جسداً، وهذا صحيح. ولا يوجد ما يدعو إلى افتراض ان تسميه الإنسان جسد تعني عدم وجود النفس لكن لماذا يسمى الإنسان جسداً، هذا ما نحتاج شرحه.
الإنسان مخلوق عاقل، ومركب، من النفس، ومن جسد ترابي قابل للفناء. وعندما خلق الله الإنسان، أتى به من العدم إلى الوجود، دون ان يكون في طبيعة الإنسان عدم فساد او عدم فناء (لأن هاتين الصفتين من صفات الله وحده). ولكن الإنسان ختم بروح الحياة، أي الاشتراك في اللاهوت فنال الإنسان بذلك الصلاح الذي يفوق الطبيعة الإنسانية، ولذلك قيل ان الله نفخ في انفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفساً حية (تكوين 2: 7). وعندما عوقب الإنسان على معصيته قيل له بالحق “تراب انت وإلى التراب تعو” (تكوين 3: 19). فتعرى من النعمة أي نسمة الحياة أي روح ذاك الذي يقول “أنا هو الحياة” ففارق الروح القدس الجسد الترابي وسقط الإنسان فريسة للموت، أي موت الجسد وحده. أما النفس فلم تفقد عدم الموت. لأنه عند وحده قيل “تراب انت وإلى التراب تعود”. ولذلك كانت الحاجة ماسة إلى ان الذي فينا والذي صار في خطر دائم وتحول إلى الانحلال، ان يتجدد بقوة، وان يتم نسجه من جديد بنسيج الحياة القادرة بطبيعتها على عدم الموت. وكانت الحاجة إلى رفع عقوبة “تراب انت وإلى التراب تعود” ان يتحد الجسد بشكل فائق بالكلمة الذي يحي الكل. وعندما يصبح الجسد، جسد الكلمة، فانه يشترك في عدم الموت الخاص بالكلمة. ولأنه من غير المعقول بالمرة، ان النار التي لها قدرة وحرارة ذاتية على ان تحول الخشب إلى نار، تقف قدرتها ولا يمتد تأثيرها إلى الخشب، وهذا يعني اننا نتمسك بأن الكلمة الذي هو فوق الكل قد أعطى الجسد من صلاحه أي الحياة، فلم يكتف بتجديد النفس فقط.
لذلك السبب بالذات اعتقد ان الانجيلي القديس، كان يقصد الجانب الذي تأثر أكثر من غيره في الإنسان، عندما قال “الكلمة صار جسداً، لكي نرى في وقت وأحد، الجرح والدواء، المريض والطبيب، ذاك الذي سقط تحت قبضة الموت والذي يقيمه للحياة، ذاك الذي ساد عليه الفساد والذي طرد الفساد، ذاك الذي امسك به الموت والذي هو أسمى من الموت، ذاك الذي له عدم الحياة وذاك الذي هو واهب الحياة.
ولم يقل الانجيلي ان الكلمة جاء إلى الجسد مثلما فعل في القديم عندما جاء إلى الانبياء والقديسين، واشتركوا فيه وانما ما يعنيه الانجيلي، انه صار جسداً، أي صار انساناً ولكنه هو الله بالطبيعة وهو في الجسد، وجعله جسده دون ان يفقد لاهوته. فهذا هو اعتقادنا لأننا نعبده وهو في الجسد حسب ما هو مكتوب في اشعياء “الرجال ذوو القامة سوف يأتون اليك ولك يكونون، سوف يأتون مقيدين بسلاسل وسوف يخرون أمامك ويتوسلون اليك، لأن الله فيك، ولا إله آخر سواك” (اشعياء 45: 14 السبعينية) وها هو يقول ان الله فيه، لأنه لا يفصل الكلمة عن الجسد، وايضاً أنه لا يوجد إله آخر سواه. أي الذي اتحد بالجسد، هيكله الذي اخذه من العذراء لأنه مسيح وأحد من الاثنين.
“وسكن فينا؟”:
يكرر الانجيلي ما سبق وقاله، ويجعل الاعتقاد واضحاً جداً فبعد أن قال إن كلمة الله تجسد، وحتى لا يتصور أحد بجهل انه تخلى عن طبيعته، وتحول إلى جسد، وتألم، وبذلك صار قابلاً للتغير (مع ان اللاهوت بعيد تماماً عن التغيير والتبديل)، اضاف الانجيلي الإلهي على الفور “وسكن فينا”، لكي ندرك انه يتكلم عن شيئين اولاً الساكن، ثم المسكن، لكي لا يفترض أحد بعد ذلك انه تحول إلى جسد، وانما سكن في الجسد، واستخدم جسده، الهيكل الذي اخذه من العذراء القديسة، او كما يقول بولس “لأن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً” (كولوسي 2: 9).
ومن أجل منفعتنا يقول ان الكلمة سكن فينا، لكي يرفع الحجاب عن السر العميق، لأننا نحن جميعاً في المسيح، والجماعة المشتركة في الطبيعة الإنسانية ارتفعت إلى شخصه، وهو ما جعله يدعى “آدم الثاني” (كورنثوس 15: 45) واهباً بغنى للطبيعة الإنسانية المشتركة، كل ما يخص الفرح والمجد. كما اعطى آدم الأول كل ما يخص الفساد والغم. اذن الكلمة سكن فينا أي في الكل، أي بالواحد الذي “أعلن ابن الله بالقوة حسب روح القداسة” (رومية 1: 4) لكي ينال الكل هذه الكرامة، ويصبح هذا ميراث الطبيعة الإنسانية، وبسبب وأحد منا يتم القول:
“أنا قلت انكم إلهة وبني العلي كلكم” (مزمور 82).
وحقاً في المسيح صار العبد حراً، وارتفع إلى الاتحاد السري بذاك الذي أخذ “صورة العبد” (فيلبي 2: 7)، وصار فينا حسب شبه الواحد (المسيح) بسبب قرابته لنا بالجسد.
ولماذا يقول الرسول “لم يأخذ طبيعة الملائكة، بل طبيعة نسل ابراهيم، من ثم كان ينبغي ان يشبه اخوته في كل شيء” (عب 2: 16، 17)، وبالحق صار انساناً؟ أليس واضحاً للجميع انه نزل إلى مستوى العبودية، دون ان يفقد ما يخصه كإله. بل مانحاً ذاته لنا لكي بفقره نصير اغنياء (2 كورنثوس 8: 9) ونرتفع إلى فوق إلى شبهه، أي شبه صلاحه، ونصير إلهة، وابناء الله بالإيمان؟ وتم ذلك لأن الذي هو بالطبيعة الابن وهو الله سكن فينا، ولذلك نصرخ بروحه “أبا أيها الآب” (رو 8: 15). وسكن الكلمة في هيكل وأحد أخذه منا ولأجلنا، وصار مثل الكل، لأنه عندما احتوى الكل فيه، استطاع ان “يصالح الكل في جسد وأحد” مع الآب، كما يقول بولس (أفسس 2: 16-18).
“ورأينا مجده، مجد الابن الوحيد للآب، مملوءاً نعمة وحقاً”:
بعد ان قال ان الكلمة صار جسداً، أي صار انساناً، وبعد ان جعله معنا في الأخوة الخاصة مع الخلائق والعبيد، يعود ويؤكد كرامته الإلهية التي لم تتغير، ويعلنه لنا إلهاً كاملاً، له كل صفات وطبيعة الآب. فالطبيعة الإلهية لها ثباتها الخاص بها، ولا تقبل التغير إلى ما ليس منها، بل تظل بلا تبديل محتفظة بما لها من صفات. ولأجل ذلك بعد ان قال الانجيلي “الكلمة صار جسداً” عاد وأكد انه لم يخضع لضعفات الجسد، ولم يفقد قوته ومجده الإلهي، عندما لبس جسد الضعف الذي بلا مجد. فقال “ورأينا مجده”، الذي يفوق كل مجد، والذي يجعل كل من يراه يعترف انه مجد الابن الوحيد، ابن الله الآب، المملوء نعمة وحقاً. وإذا نظر انسان إلى جماعات القديسين وقاس الاعاجيب التي فعلها كل وأحد منهم، تملكه العجب والمسرة بما حققه كل وأحد منهم، حتى اننا نقول، انهم فعلاً امتلئوا بالمجد من الله. لكن الانجيلي الإلهي والشاهد يقول اننا رأينا المجد ونعمة الابن الوحيد، التي لا تقاس بما لدى الآخرين، بل بما لا يقاس من مجد ورفعة، لأن النعمة التي فيه لا يمكن قياسها فهي لم تؤخذ من آخر بل هي كاملة وحقيقية لأنها في الكامل والحق، فالمجد والنعمة لم تعط ولم توهب من خارجه كإضافة، بل هي خاصة به كصفات خاصة بالذي هو من جوهر الآب وبمن هو في الآب.
وإذا حسن في عيني أحد ان يختبر ما هو أعمق مما ذكرناه، فعليه ان يتأمل ويعتبر الأعمال الباهرة والمعجزات التي عملها كل قديس وبين تلك التي عملها مخلصنا المسيح، وسوف يكتشف ان الفرق بينهم جميعاً وبين المسيح عظيم جداً. وما هو أهم من كل هذا، هو انهم خدام في بيته، اما هو فهو “الابن في بيته” (عبرانيين 3: 6 – او كما ذكرت الاسفار المقدسة عن الابن الوحيد “مبارك الآتي باسم الرب” (مزمور 118: 26)، اما عن القديسين، يقول الله الاب “أرسلت اليكم كل عبيدي الانبياء” (ارميا 7: 25). وليس هذا فقط، بل اولئك نالوا النعمة من فوق، اما الابن فهو رب الجنود الذي يقول “ان كنت لست اعمل اعمال ابي، فلا تؤمنوا بي ولكن ان كنت اعمل فان لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال” (يوحنا 10: 37-38). فإذا كنا بالأعمال نرى الابن الوحيد كإله عظيم له عظمة الآب ذاتها، فإننا نقدم له نفس الكرامة التي نقدمها للآب. لأنه يعمل ذات الأعمال، وبكل يقين سوف يتفوق – حتى وهو في الجسد – على القديسين جميعاً الذين دعوا إلى الأخوة، وهو كإله بالطبيعة فانه يتعدى الحدود الإنسانية، والذي هو الابن الحقيقي يفوق الذين هم ابناء بالتبني، ولكن حيث انه مكتوب في انجيل المبارك لوقا “وكان يسوع يتقدم في الحكمة والنعمة” (لو 2: 52)، فعلينا ان نلاحظ هنا ان لابس الروح يقول عن الابن ان “مجده مملوء من النعمة” فالذي هو مملوء إلى اين يتقدم؟ او أي اضافة يمكن ان تزاد عليه وهو المملوء تماماً؟ ولذلك يظهر للذين يرونه، مملوءاً من أكثر من النعمة، ويتعجبون منه جداً بسبب أعماله، لأن الذين كانوا يرونه وهو يتقدم وينمو في النعمة كانوا يتعجبون من نموه اذ كان هو نفسه الكامل كإله. وقد قيلت هذه الأمور هكذا لمنفعة الذين يريدون ان يعرفوه إلهاً متجسداً.
يو 1: 15 – “يوحنا شهد وصرخ قائلاً”:
يتابع الانجيلي الحكيم ما قدمه من أفكار ويربط بين المقدمات والنتائج. لأنه عندما قال عن ابن الله “ورأينا مجده، مجد الابن الوحيد” لم يكن يعني شهادته وحده، (لأن “رأينا” تعني شهادة جماعية)، ولذلك يضم سميه يوحنا المعمدان كشاهد آخر له نفس حياة التقوى. وبذلك يصبحان شاهدين لابسين للروح وأخوين في الحق، لا يعرفان كيف يكذبان.
ولاحظ كيف يسجل قوة شهادة يوحنا المعمدان فهو لا يقول فقط يوحنا شهد، بل يضيف اليها “وصرخ”، وأخذ برهانه من الكلمات “صوته صارخ في البرية” (اشعياء 40: 3). ويجوز لأي من المعاندين ان يسأل، متى شهد يوحنا المعمدان للابن الوحيد؟ ولمن اعطى شهادته عنه؟ يقول الانجيلي “صرخ” ليس في زاوية ولا بصوت منخفض ولا سراً “شهد”، بل “صرخ” عالياً بصوت اعلى من البوق، ونشر شهادته في كل حديث له مع الناس. ويا له من مبشر مجيد، وصوت نافذ، وسابق عظيم معروف.
“هذا هو الذي قلت عنه ان الذي يأتي بعدي صار قدامي، لأنه كان قبلي”:
بعد ان أعلن اسم الشاهد، الذي له نفس الايمان ونفس الاسم، وبعد ان سجل ان صوته عظيم في الكرازة، يسجل شهادته نفسها، والشهادة نفسها هي أهم ما يمكن تسجيله.
وبماذا صرخ يوحنا المعمدان العظيم وماذا قال عن الابن الوحيد. “الذي يأتي بعدي، كان قبلي”. وهذه الكلمات عميقة وتحتاج إلى فحص عميق.
المعنى الواضح والظاهر هو: بخصوص زمن الولادة حسب الجسد. سبق المعمدان المخلص، وبعده جاء عمانوئيل بستة أشهر حسبما سجل لوقا المبارك. ولذلك افترض البعض ان هذا هو معنى شهادة يوحنا المعمدان كما سجلها يوحنا الانجيلي، أي ان الذي جاء بعدي بستة شهور كان قبلي ولكن الذي يثبت عينه الفاحصة على الافكار الإلهية، يمكنه ان يرى ان مثل هذا التفسير السطحي لا يعطينا شيئاً، بل يبعدنا تماماً عن الموضوع العام الذي يسجله الانجيل. فيوحنا المعمدان يقدم لنا كشاهد، ليس لكي يؤكد ان المسيح جاء بعده أي حسب ميلاده الجسدي بل كشاهد على مجده “مجد الابن الوحيد للآب، مملوء نعمة وحقاً”.
وما هو معنى شهادة المعمدان. لو انحصر الكلام عن الفارق الزمني بين المعمدان والمخلص؟ فكيف يكون قبله لو كانت الشهادة كلها عن الفارق الزمني “الذي يأتي بعدي كان قبلي” وانما في إطار ما قلناه، وعلى القياس الظاهري في بداية الانجيل ان الكلام عن ازلية الكلمة وهذا ما رآه ظاهراً لكل وأحد، لأن ما يأتي بعد، لا يمكن ان يكون قبل طالما ان الكلام انحصر في الجانب الزمني. ولذلك علينا ان نطرح تماماً كل كلام عن الفارق الزمني وعن الميلاد حسب الجسد. وانما ما يريد ان يسجله المعمدان هو ان يستعمل طريقة التعبير البشرية البسيطة والضعيفة لكي يضع فيها أفكار عميقة.
لقد أراد ان يقول ان الذي يسبق ويقود له مجد أعظم من الذي يتبع. مثلما يحدث في عالم الإنسان، عندما يسبق أحد من الناس غيره في صناعة النحاس او الخشب او النسيج، ويصبح له الفخر والمجد على الذين يأتون ويقلدون العمل الذي سبق غيره فيه، بل يصبح له معرفة أكمل وأسمى. أما إذا سبق وأحد معلمه في الصناعة وتركه خلفه واتقن شيئاً أعظم فإن المتخلف لا يمكنه ان يقول عن تلميذه الذي سبقه “الذي يأتي بعدي، كان قبلي”.
وإذا نقلنا هذه الفكرة إلى ما قيل عن المخلص المسيح ويوحنا المعمدان القديس يمكننا ان نفهم معنى ما قيل. كان يوحنا المعمدان قد كون حوله تلاميذاً كثيرين من الجموع الكثيرة التي جاءت تطلب المعمودية والتفت حوله اما المسيح وهو الأعظم، لم يكن معروفاً بالمرة، ولم يعرف الناس انه الإله ولأنه لم يكن معروفاً، بينما المعمدان موضع اعجاب الكل، فقد كان المسيح في هذا الوضع اقل من يوحنا في الشهرة وبذلك صار المسيح بعد يوحنا رغم انه أعظم بكثير في الكرامة والمجد. ولكن “الذي جاء بعدي كان قبلي” أي سوف يظهر كأعظم بكثير من يوحنا، لأن أعمال المسيح العجيبة اعلنت انه الإله، بينما يظل الآخر في إطار وحدود الطبيعة الإنسانية كمن هو “بعد”.
ومن ذلك ندرك الشكل الغير واضح لما قاله يوحنا المعمدان “الذي يأتي بعدي صار قدامي” فهو يعني: الذي كان خلفي في الشهرة، هو في الحقيقة أعظم، بل يتفوق على في كل ما نلته من شرف وكرامة. وإذا فهمنا هذه الكلمات على هذا النحو وجدنا المعمدان شاهداً على مجد الابن الوحيد، وليس كشاهد على شيء بلا قيمة. وشهادة يوحنا تعني ايضاً ان المسيح أعظم منه بكثير، (يوحنا) أي الذي له هذه الشهرة في القداسة، أليست هذه شهادة عن مجد المسيح الخاص.
“لأنه كان قبلي”:
بعد ان قال يوحنا “صار قدامي” أضاف “لأنه كان قبلي” فنسب له بذلك المجد الأزلي وانه سبق كل الاشياء، لأنه هو البدء كإله بالطبيعة. وبقوله “كان قبلي” فقد كان يعني “دائماً وفي كل مكان وزمان هو أسمى وأمجد. وبمقارنة الكلمة بأحد المخلوقات أي يوحنا المعمدان، تصبح شهادته ضد الذين ينكرون أزلية الكلمة بمثابة حكم بالدينونة بالنيابة عن الذي هو فوق الجميع”. ونحن لا نتأمل كرامة ومجد الابن الوحيد باعتباره أقدم من يوحنا وأعظم منه في المجد. بل لأنه يفوق المخلوقات جميعاً.
16 – “ومن ملئه نحن، جميعاً اخذنا”:
هنا يصادق الانجيلي على شهادة المعمدان الصادقة ويضم صوته إلى صوت المعمدان بأن المخلص أعظم وأسمى من كل المخلوقات في المجد الذي يتكلم عنه، والخيرات الأخرى التي تأتي منه.
لأننا نحن جميعاً الذين كتبت اسمائنا في عداد القديسين، نحن نأخذ من ملئه والطبيعة الإنسانية التي وجدت انها تحتاج إلى كل شيء، تأخذ من ملئه، من ملء الابن كما من الينبوع الأصلي، وعطية النعم الإلهية، تتدفق على كل نفس تستحق ان تأخذ. وإذا كان الابن يعطي من ملء طبيعته، فالخليقة هي التي تأخذ، فكيف يمكن ان يعتقد أحد ان الخليقة لها ذات المجد الذي للابن. فهو يعلو الجميع بحسب طبيعته الخاصة ويفوق الكل بكرامة كيان ابيه. واعتقد ان بولس الحكيم، عندما كان يحدد ما يخص طبيعة المخلوقات ويتحرك نحو الافكار الحقيقة قال وهو يوجه كلامه للمخلوقات “واي شيء لك لم تأخذه” (1كورنثوس 7). وهكذا تعطي نعم الله للمخلوقات التي ليس لها أي شيء من ذاتها ولكنها تغتني من سخاء الذي يعطي.
ولكن علينا ايضاً ان نلاحظ انه يقول عن الابن انه “مملوء” أي كامل في كل شيء، وبالتالي لا يحتاج لشيء بالمرة، ولذلك يستطيع ان يعطي الكل، دون ان يصيبه النقص، ويحتفظ بعظم ومجد كرامته ويظل كما هو دائماً.
17 – “ونعمة فوق نعمة، لأن الناموس اعطى بموسى، اما النعمة والحق بيسوع المسيح صارا”:
بعد ان قال الانجيلي ان مجد الابن الوحيد صار لامعاً أكثر من شهرة أي انسان بين بني البشر، يقدم لنا القداسة الفائقة التي لا يمكن مقارنتها بأي من القديسين ويقدم دراسته الخاصة بهذه النقطة بالذات بمقارنة المسيح بمن عرفوا بالفضائل. لقد قال المخلص عن يوحنا المعمدان. الحق أقول لكم، لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (متى 11: 11). ولكن هذا الرجل العظيم، يشهد الآن “الذي جاء بعدي، كان قبلي”. وحيث ان مجد يوحنا اقل، فانه اعطى المجال لمجد الابن الوحيد، فكيف لا نفترض ان كل القديسين قد افسحوا المجال للابن فليس وأحد منهم له ذات مجد المسيح المخلص الذي يظهر في أعمالهم. ولما كان القديسون الذين عاينوا الظهور الإلهي في الجسد، اقل بكثير ولا يمكن مقارنتهم بالابن، ولا حتى يوحنا المعمدان الذي نال أعظم شهرة، لا يتجاسر على مقارنة ذاته بالابن الوحيد بل ختم شهادته الحقة معلناً انه “اقل في كل شيء”. وحيث انه من الضروري ان يظهر عمانوئيل أعظم واقوى وأفضل من كل القديسين، احتاج الانجيلي ان يقدم رئيس الانبياء موسى الذي جاء الله اليه وظهر له اولاً والذي قيل عنه “أنا اعرفك أكثر من الباقين، لأنك وجدت نعمة في عيني” (خروج 33: 12). فالله عرفه قبل الباقين، كما يظهر من قول الله نفسه “ان كان منكم نبي للرب سوف اظهر له في رؤيا واتكلم معه في حلم. أما عبدي موسى فليس كذلك لأنه أمين على كل بيتي ومعه اتكلم فماً لفم وعياناً لا بالألغاز” (عدد 12: 6-8) ولما كان لموسى هذا المجد العظيم الذي فاق كل مجد القديسين حتى الذين سبقوه يقدمه الانجيلي الينا انه متقدم في كل شيء (كولوسي 1: 8) ولذلك يسجل الانجيلي “ونعمة فوق نعمة، لأن الناموس اعطي بموسى، اما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا”. واظن ان ما يريد الانجيلي ان يعلنه هو ان المعمدان شهد واعترف بأن الابن الوحيد أعظم منه “الذي يأتي بعدي، مفضل عني، لأنه كان قبلي” وحتى لا يفترض أحد ان الابن الوحيد فاق يوحنا المعمدان وباقي القديسين الذين عاينوا ظهوره في الجسد دون ان يفوق القديسين الآخرين في العهد القديم، قدم موسى النبي، وقال انه يفوق موسى ايضاً، الذي فاق كل الانبياء في القداسة، والذي شهد عنه واضع الناموس أي الله وقال انه عرفه قبل الكل. وما دام يوحنا يجيء بعد المسيح بما لا يقاس حسب شهادة يوحنا نفسه، كذلك رئيس الانبياء موسى يقل عن الرب في المجد. وعلى كل من يريد ان يتعلم ان يدرس النعمة الانجيلية التي وهبت لنا بواسطة المخلص ويقارنها بنعمة الناموس التي اعطيت بواسطة موسى، فسوف يرى ان الابن أسمى بكثير، لأنه هو واضع الناموس الأعظم الذي يهب الخيرات أفضل من الناموس الموسوي. ولذلك يقول الانجيلي “الناموس اعطي بموسى اما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” وما هو الفرق بين الناموس والنعمة التي صارت بواسطة المخلص؟ .. على المحبين للمعرفة والبحث الشاق ان يدرسوا هذا الموضوع لأننا سوف نقول القليل ونترك الكثير، مؤمنين بأن المقارنة عظيمة والأفكار تفوق الحصر.
لقد أدان الناموس الخليقة، لأنه بالناموس أغلق الله على الكل تحت الخطية (غلاطية 3: 22) واظهر اننا تحت العقاب اما المخلص فقد اعطى الحرية للإنسان “لأنه لم يأت ليدين العالم بل ليخلص العالم”. ومع ان الناموس اعطى نعمة معرفة الله للإنسان وجذبه من عبادة الاصنام التي اضلت الإنسان، وبالإضافة إلى ذلك اشار إلى الشر وعلم الخير، بدون كمال، كمعلم نافع، اما النعمة والحق فبالابن الوحيد، الذي لم يقدم لنا الخيرات في رموز، ولا اعطى الصلاح في ظلال، بل بوصايا مجيدة ونقية، يقودنا بيده، لكي ننال معرفة كاملة بالإيمان.
كان الناموس يعطي “روح العبودية للخوف” أما المسيح فقد اعطى “روح التبني” للحرية (رومية 8: 15)، كان الناموس يختن اللحم وهو لا شيء “لأن ختان اللحم ليس شيئاً” كما يقول بولس (1كورنثوس 7: 19)، اما ربنا يسوع المسيح فهو مانح “ختان القلب بالروح” (رومية 2: 29)، الناموس يغسل الذي تدنس بمياه، اما المخلص فهو يعمد بالروح القدس ونار (متى 3: 11) الناموس يأتي بمسكن كرمز للأشياء الحقيقية، اما المخلص فينقلنا إلى السماء نفسها ويقدمنا إلى المسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا انسان (عبرانيين 9: 24 – 8: 2). وليس صعباً ان نضع فروقاً اخرى أكثر مما ذكرناه، ولكن علينا ان نقبل الحدود التي نتحرك فيها.
ولكننا نقول هذا للمنفعة واللزوم، لأن بولس المبارك بكلمات قليلة حل السؤال، وقال عن الناموس ونعمة المخلص ما يلي: إذا كانت خدمة الدينونة مجداً فبالأولى كثيراً تزيد خدمة البر في المجد (2 كورنثوس 3: 9).
وبذلك قال ان وصايا موسى هي خدمة الدينونة، اما النعمة بالمخلص فهو يدعوها “خدمة البر” التي فاقت في مجد. وهكذا لخص بولس اللابس الروح طبيعة الفرق الدقيق بين الناموس والنعمة لأن الناموس الذي يدين اعطي بموسى، اما النعمة التي تبرر فقد صارت بواسطة الابن الوحيد. فكيف لا يكون المسيح فائق المجد وبما لا يمكن مقارنته؟ أليست الأشياء الأفضل قد صارت لنا به؟ وهكذا صرخ المرنم اللابس الروح وقال بصوت عال وهو يعلن كيف يفوق ربنا يسوع المسيح كل القديسين الأفاضل والمشهورين “من في السحاب يشبه الرب، ومن يشبه الرب بين ابناء الله” (مزمور 89: 6س) والسحابة الروحية هي الانبياء القديسين الذين يتركون موضعهم للمسيح، والذين لا يظنون ان لهم مجداً مساوياً له لأن موسى الذي عرفه الله فوق الجميع، ينال المرتبة الثانية، والذين دعوا ابناء الله، عند ظهوره في الجسد لم يشبهوا من هو ابن الله بالطبيعة بل سوف يعترفون بحدودهم، طالما ان يوحنا المعمدان نفسه يقول انه خلفه بمراحل، خلف ذاك الذي يعرف القلوب والذي قال عنه المخلص “لم يقم من بين المولدين من النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان” (متى 11: 11). وحقاً يقول الانجيلي المبارك انه “رأى مجده، مجد الابن الوحيد للآب” أي ما يخص ابن الله الوحيد ابن الآب، والذي لا يشاركه فيه أحد من هؤلاء الذين صاروا اخوة له، والذي صار هو البكر بينهم.